Urjanun Jadid
الأورجانون الجديد: إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة
Genre-genre
وعليه فإذا اعتقد شخص أو وعد بأكثر من ذلك فإنهم يرون أن هذا علامة على عقل منفلت غير ناضج، وأن مثل هذه المحاولات أولها مبهج وأوسطها مجهد وآخرها خلط، وحيث إن هذه الأفكار سريعة الولوج إلى عقول ذوي الرصانة والحكمة من الناس، فإن واجبنا أن نحذر من أن يأسرنا حبنا لما هو أنبل وأجمل، وأن نتريث ونخفف من غلوائنا! وأن نتمعن أي شعاع من الأمل يتسلل إلينا، ومن أي اتجاه يأتي، وأن نرفض النفحات الأخف من الأمل فيما نحن نحلل ونزن بدقة تلك التي تبدو الأصح والأقوم. علينا أيضا أن نتذرع في نصحنا بحصافة سياسية دأبها التحرز وتوقع الأسوأ في كل الشئون البشرية؛ لذا فإن علي الآن أن أتحدث عن الأمل، وبخاصة أنني لا أنجرف إلى وعود براقة، ولا أريد أن أصادر على أحكام الناس ولا أن أنصب لها الفخاخ، بل أن أقودهم طواعية بملء إرادتهم، ولعل أقوى علاج على الإطلاق لبث الأمل هو أن أقودهم إلى الجزئيات، وبخاصة كما هي ملخصة ومرتبة في قوائمي الكشفية (يدرج هذا الموضوع جزئيا في الجزء الثاني من «الإحياء»
Instauration
ولكنه يندرج بالدرجة الأساس في الجزء الرابع)، فهي ليست مجرد أمل بل الشيء ذاته. على أن واجبي لكي أفعل كل ذلك بتلطف أن أمضي في خطئي لإعداد عقول الناس، وإن نشر الأمل ليس بالجزء الهين من هذا الإعداد، فبدونه يكون كل ما قلته أدعى إلى الأسى منه إلى حفز النشاط وإحياء الهمة إلى التجربة، إذ يخيب ظنهم في الأشياء، ويقوي إدراكهم وشعورهم ببؤس حالهم، ومن ثم فإن علي أن أكشف عن حدوسي التي تبرر الأمل في النجاح، وأن أضع ذلك في الصدارة، تماما كما فعل كولمبس قبل رحلته المدهشة عبر الأطلنطي، إذ أبدى أسباب ثقته بإمكان العثور على أراض وقارات جديدة وراء تلك المعروفة من قبل، وهي أسباب قوبلت بالرفض في البداية، إلا أن التجربة اللاحقة أيدتها، فغدت سببا وبداية لأمور عظيمة. ••• (93) ينبغي أن نبدأ من الرب، إذ إن عملنا - بما يتضمنه ويتصف به من خير عميم - هو بداهة من الرب، الذي هو مصدر الخير وأبو الأنوار، وفي أعمال الرب فإن البدايات مهما كانت ضئيلة تفضي يقينا إلى غايتها ، ومثلما يقال في الأمور الروحية: إن «مملكة الله لا تأتي من الملاحظة.»
69
فإن ذلك يصدق أيضا في كل الأعمال العظيمة للعناية، بحيث يسير كل شيء يسيرا هينا دون خلط أو ضجيج، ويتم الأمر قبل أن يعي الناس أنه بدأ، ولا يفوتنا أن نذكر نبوءة دانيال عن الأيام الأخيرة للعالم: «كثيرون سيروحون ويجيئون والمعرفة ستزداد.»
70
بما يومئ - بوضوح - إلى أن القدر (أي العناية) سيقضي بأن الإحاطة بالعالم (التي تبدو بعد كثير من الرحلات الطويلة أنها اكتملت أو في سبيلها إلى الاكتمال) وازدياد المعرفة سيحدثان في نفس الحقبة. ••• (94) والآن نأتي إلى أهم سبب يدعونا إلى الأمل، وهو مستفاد من أخطاء الماضي، ومن الطرق التي جربت حتى هذه اللحظة، ثمة تأنيب وجيه بدر ذات يوم من شخص ما على الإدارة السيئة لأحد المواقف السياسية إذ يقول: «إن الشيء الأسوأ بالنسبة للماضي ينبغي أن يعتبر الأفضل للمستقبل؛ لأنك إذا كنت قد عملت كل ما يقتضيه واجبك ولم ينصلح أمرك فلا أمل لك في إمكان انصلاحه، أما وقد تعسر حالك، لا بسبب قهر الظروف، بل بسبب أخطائك أنت، فإنه لمن دواعي الأمل أنك إذا تجنبت هذه الأخطاء أو قومتها فإن تغيرا عظيما إلى الأفضل حقيق أن يحدث.» وبنفس الطريقة، فلو أن الناس طوال هذه الأحقاب قد لزموا الطريق الصحيح إلى الكشف وإلى نمو العلوم وعجزوا مع ذلك عن تحقيق تقدم أكثر مما أحرزوه، هنالك يكون من التوقح والطيش أن نقول بأن بالإمكان أن يحرزوا المزيد، أما إذا كانوا قد ضلوا الطريق وبددوا جهدهم فيما لا طائل من ورائه؛ لتبين من ذلك أن مكمن الأزمة ليس في الأشياء ذاتها (وذاك شيء ليس لنا به يد)، بل في الفهم البشري واستخدامه وتطبيقه، وذاك شيء قابل للعلاج والشفاء؛ لذا فإن أفضل شيء هو أن نبين ما هي هذه الأخطاء؛ لأن كل خطأ كان يشكل عقبة في الماضي هو داع من دواعي الأمل في المستقبل، ورغم أننا ألمحنا إلى هذه الأخطاء سابقا، فمن الملائم أيضا أن نفردها هنا بطريقة مختصرة واضحة بسيطة . ••• (95) هناك فصيلان من الذين تناولوا العلوم: أهل التجربة وأهل الاعتقاد،
71
أهل التجربة أشبه بالنمل، يجمعون ويستعملون فحسب، وأهل العقل أشبه بالعناكب، تغزل نسيجها من ذاتها، أما النحلة فتتخذ طريقا وسطا بين الاثنين، تستخلص مادة من أزهار البستان والحقل، غير أنها تحولها وتهضمها بقدرتها الخاصة، وعمل الفلسفة الحقيقي لا يختلف عن هذا، فهي لا تعتمد على قوتها العقلية وحدها، ولا تختزن المادة التي يقدمها التاريخ الطبيعي والتجارب الميكانيكية في ذاكرتها كما هي، بل تغيرها وتعمل فيها الفكر، ومن ثم فإننا نأمل الكثير من خلال اتحاد هاتين الملكتين (التجريبية والعقلية) اتحادا أوثق وأصفى مما تم لهما حتى الآن. ••• (96) ليس لدينا حتى الآن فلسفة في حالة خالصة، بل لدينا فلسفة طبيعية مشوبة ومفسدة: مفسدة في فلسفة أرسطو بالمنطق، وفي فلسفة أفلاطون باللاهوت الطبيعي، وفي المدرسة الأفلاطونية الثانية - عند بروكلوس
72
Halaman tidak diketahui