الفصل السادس عشر
بين أستير وأرميا وإيليا
في أثناء الحصار
فأقام أبو عبيدة نحو أربعة أشهر * على حصر بيت المقدس على هذا المنوال، وكان جنده لانكشافهم أمام أسوار عدوهم يلاقون بلاء أشد من بلاء المحصورين، ولم تغن عنهم درفهم شيئا، وكان الوقت وقت مطر وبرد وثلج فعانى الفريقان من ذلك ما عانياه حتى سئما الحرب والقتال. *
وفي ذات يوم بينما كان أبو عبيدة في مضربه، ورحى القتال دائرة حول المدينة، وإذا برجل يقصده ويسأل الناس عنه، وكان وراءه عجوز على حمار. فلما وصل إلى مضرب الأمير أنزل العجوز إلى الأرض وفرش لها رداء لتجلس عليه، ثم دخل على الأمير فسلم وناوله كتابا صغيرا كان مخبوءا في ثيابه. فلما قرأه أبو عبيدة بغت وصاح به: أنت يوسف؟ فقال الرجل: نعم أيها الأمير، فقال: اجلس وقص علي ما تعلم فقد كتب إلي في شأنك منذ أشهر، ولماذا لم تفد علينا قبل الآن؟ فأجاب الرجل: لأنني لم أجد قبل الآن عذرا يمكنني من الخروج من المدينة لملاقاتكم؛ لأن الروم دروا بأمري. فقال أبو عبيدة ضاحكا: وهل قبضوا عليك؟ فغص الرجل بدمعه، وقال: قبضوا علي وعلى ابنتي، فأطلقوني وأسروا ابنتي في دير لهم. وأمس زرت هذا الدير بأمر بطريركهم، فعلمت منه أن ابنتي فرت من الدير ولم يوقف لها أثر. فقال أبو عبيدة: وكيف تركوك تخرج الآن من المدينة؟ فقال الرجل: إن قائد الجند دعاني إليه بأمر البطريرك وإشارته فأظهر لي اللطف والمجاملة، ثم عهد إلي أن أجيئكم، وأظهر أنني فار منهم إليكم، وبعد ذلك أخبركم بقوتهم وعزمهم على القتال، وقرب وصول المدد إليهم حتى أوهن عزائمكم، فتبدءوا بطلب الصلح منهم، ويظهر لي أن غرضهم من ذلك هو الصلح ليأس البطريرك من ورود مدد إلى المدينة من ملكهم.
فأطرق أبو عبيدة يفكر ثم سأله: لقد مر على قتالنا لهم بضعة أشهر بدون جدوى فما ظنك لو حاربناهم شهرين أيضا. فتأمل الرجل هنيهة ثم أجاب: هؤلاء النصارى لا يؤثر فيهم شيء مثل الضغط عليهم. فشد عليهم الوثاق أيها الأمير، ولا تقبل منهم الصلح؛ إذ أية فائدة لكم فيه. أما إذا أخذتم المدينة فتحا بالسيف فإنكم تغنمون كنوزهم وأموالهم.
فنظر حينئذ أبو عبيدة إلى ذلك الرجل، وقال في نفسه: إن البغض بين هذين الفريقين من أهل الكتاب - اليهود والنصارى - لا يزول أبدا، وكان ضرار بن الأزور عائدا حينئذ من ساحة القتال لحاجة فناداه الأمير، وقال له: خذ هذا الرجل إلى خيمتك وأصلح حاله في هذا الشتاء. فسار الرجل والعجوز وراء ضرار إلى خيمته.
وما كاد الثلاثة يصلون إلى خيمة ضرار حتى سمعوا من الخيمة بكاء فقال ضرار لرفيقه: أتعرف لغة الروم يا رجل؟ فأجاب الرجل بالعربية، وكان يعرفها كما تقدم: نعم أعرفها أيها الفارس الهمام فأي أمر تريد؟ فقال ضرار عندي فتاة من الروم أسرتها منذ مدة على طريق مهد عيسى
1
مع رومي مجنون، وهي لا تزال تبكي ليلا ونهارا، وقد أحبتها أختي خولة، وعزمت على إدخالها في الإسلام؛ لتكون لي زوجا، ولكنها لا تستطيع مخاطبتها؛ لأن الفتاة لا تفهم لغتنا.
Halaman tidak diketahui