بين مسيحي ويهودية
وفي فجر اليوم التالى قبل أن تتعارف الوجوه تقريبا كان على قبر الراهب ميخائيل الكائن في وسط المزرعة كما تقدم شخص جالس يتأمل والبرد قارص والريح شديدة، وكان هذا الشخص إيليا؛ لأنه لم ينم بقية ذلك الليل، وكان يقول وهو جالس على القبر: يا أستاذي ميخائيل، إن خطبتك على الجبل كانت حدا فاصلا وطورا جديدا في حياتي، وها أنا الآن قد وصلت إلى طور جديد آخر، إنني لم أكن أفهم لذة الوجود وبهجة الدنيا، ولذلك سئمتها وضجرت منها. أما الآن فصرت أفهمها. إنما أرجو من روحك الكريمة التي ترفرف في فضاء هذه المزرعة دائما أن تمس قلب أستير، وتجعلها تشعر شعوري.
ولما طلع الصباح، وانتبه أهل المزرعة عاد إيليا إليها فوجد بنات الشيخ سليمان عند أستير يلاطفنها، ويتناولن طعام الصباح معها، وكانت هذه أول مرة يرى فيها إيليا أستير وجها لوجه على ضوء النهار.
فرأى إيليا أستير فتاة في نحو العشرين من العمر، وكانت بقد رشيق طويل كأنه غصن بان، ووجه ممتلئ ناصع البياض كالثلج تخالط بياضه حمرة الصحة والعافية كأنما اجتمع فيه كل ما في الورد من اللون الزاهر، وفوق وجهها التفاحي الجميل شعر أبنوسي يؤلف سواده الفاحم مع ذلك البياض وتلك الحمرة منظرا عجيبا. أما العينان: فقد انفردتا بلون رابع وهو اللون الأزرق الصافي صفاء بديعا وهو ما يندر تحت الشعر الأسود. فكأن هذا الرأس الملائكي الجميل آلى خالقه على نفسه أن يجمع فيه كل بياض الزنبق وحمرة الورد وسواد المسك وزرقة السماء بأشد جمالها ومعانيها؛ ليكون مثالا للجمال الذي يمكن أن تدركه عين بشرية.
فلما شاهد إيليا في ذلك الصباح وجه أستير على نور الشمس سجد قلبه في صدره لصانع هذا الحسن، وأدار نظره إلى السماء من النافذة ليرى أيهما أعمق وأجمل؛ زرقة عيني أستير أم زرقتها.
وبعد الطعام طلبت أستير محادثة إيليا فهرع الشاب إليها، وخرج معها إلى الحقول. فلما رآهما الشيخ سليمان سائرين قال: لقد آن أن يكون لإيليا شمس تبدد همومه الدائمة. فأظن أن أستير ستكون من بنات المزرعة بعد الآن.
ولما انفردت أستير بإيليا ابتدرت الكلام قائلة: ماذا نصنع الآن يا كيريه إيليا هل أذهب إلى المدينة أم يأتي أبي إلى هنا لأخذي؟ فتنهد إيليا وأجاب: يظهر أيتها السيدة أنك غير مسرورة بالإقامة هنا، ولكن ما الحيلة إنك لا تقدرين على الذهاب إلى المدينة؛ لأن جيوش العرب تحصرها كما ذكرت لك، وأبوك لا يقدر أن يأتي إلينا؛ لأنه لا يستطيع ترك أمك وحدها.
فاغرورقت هنا عينا أستير بالدمع لدى ذكر أمها، وتنهدت بكآبة وحزن. فكاد قلب إيليا يتفطر لعنائها، وبعد السكوت برهة قالت أستير: وإلى كم يطول حصار المدينة؟ فأجاب إيليا: لا أعلم فعلينا أن ننتظر منتهى هذه الحادثة.
وفي هذا الحين التفت إيليا نحو المزرعة فأبصر أرميا راكضا نحوه، ولما وصل إليهما حياهما ببشاشة، وأخبر إيليا أن أهل دير العذراء دروا في الصباح بفرار الفتاة، فاضطربوا وكاتبوا البطريرك، وأرسلوا يسألون أرميا هل رآها؟ فأجابهم أرميا أنه ما رأى أحدا.
وفي الحقيقة أن جواب أرميا لهم كان أن شابا يدعى إيليا في مزرعة الشيخ سليمان هو الذي اختطفها.
Halaman tidak diketahui