وقد تحققت أن العرب سلموا من الاضطرابات والفتن الداخلية التي كانت تتهددهم، وذلك بأمرين: الأول: شدة أميرهم عمر وحزمه وعدله، والثاني: انصرافهم إلى فتح الشام وفارس، وهذا ما كان من أكبر أسباب اتحادهم وقوتهم؛ لأنهم لو أقاموا في بلادهم، ولم يشتغلوا بمقاتلتنا لانصرفوا إلى مقاتلة بعضهم بعضا كما كانوا من قبل، وهذا من دهاء أبي بكر وعمر بن الخطاب وسياسته. *
فهز البطريرك هنا رأسه، وكان الوالي والقائد مصغيين كثيرا، فأردف الرسول بقوله: أما ما علمته عن زحفهم إلينا فهذا:
2
بعد أن فتح أبو عبيدة دمشق، وأقام فيها شهرا يتمتع فيها مع جنده بمناظرها الجميلة، ويستريح بعد عناء القتال جمع إليه أمراء المسلمين، وقال لهم: «أشيروا علي بما أصنع وأين أتوجه» فاتفق رأي المسلمين إما إلى قيسارية (قيصرية) وإما إلى بيت المقدس.
3
فقال معاذ بن جبل: «اكتب إلى أمير المؤمنين، فحيث أمرك فسر، واستعن بالله» فقال: «أصبت الرأي يا معاذ» فكتب كتابا إلى الأمير، وأرسل الكتاب مع عرفجة بن ناصح النخعي. فلما قرأ أميرهم الكتاب جمع إليه أعوانه ومشيريه فاستشارهم في ذلك. فقال له علي بن أبي طالب: «يا أمير المؤمنين، مر صاحبك أن يسير إلى بيت المقدس فيحدقوا بها ويقاتلوا أهلها فهو خير الرأي وأكبره، وإذا فتحت بيت المقدس فاصرف جيشه إلى قيسارية فإنها تفتح بعدها إن شاء الله تعالى. كذا أخبرني رسول الله» * فقال له الأمير: «صدقت يا أبا الحسن» * فإننا إذا ملكنا بيت المقدس خارت عزائم الجند والشعب، وفتحها يعدل فتح القسطنطينية من هذا الوجه. (- وكان عثمان بن عفان حاضرا فقال: (- رأي الأمير صائب وموفق إن شاء الله. إلا أنني أخشى أمرا. فقال الأمير: (- وما هو أيها الناصح النصوح؟ فقال: إن الروم لم تدب فيهم الحماسة وينهضوا على مملكة الفرس نهضة واحدة إلا لأخذ الفرس صليبهم من بيت المقدس وإحراقهم كنيسة القيامة * فأخشى أن نثير حميتهم التي خمدت إذا أخذنا بيت المقدس، فنكون كأننا أضرمنا النار بيدنا (- فقال علي: (- والله إنني لا أرى مناسبة بيننا وبين الفرس؛ فإن الفرس يدخلون المدن هادمين مخربين منتقمين، وأما نحن فندخل مسالمين مصلحين.
فقال الأمير: (- أجل إن الفرس هجموا على الشام لسحق الرؤساء والشعوب معا، أما نحن فندخل الشام للإنصاف بين الشعب والرؤساء، فدخولنا نعمة للشعب لا نقمة. ثم تناول الأمير حينئذ رقا وقلما، وكتب إلى أبي عبيدة يقول: * «بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عامله بالشام أبي عبيدة. أما بعد؛ فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه، وقد ورد علي كتابك وفيه تستشيرني في أي ناحية تتوجه إليها، وقد أشار ابن عم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالسير إلى بيت المقدس؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - يفتحها على يديك، والسلام عليك».
فلما عاد الرسول بهذا الكتاب إلى أبي عبيدة وجده في الجابية * فقرأه أبو عبيدة على المسلمين؛ فهللوا وكبروا، وفرحوا بمسيرهم إلى بيت المقدس * ثم «دعا أبو عبيدة بيزيد بن أبي سفيان
Halaman tidak diketahui