1
ولما وصل إليها عطف إلى جهتها الشرقية حيث بني كوخ صغير مستند إلى جذعها، وكان في الكوخ رجل جالس ورأسه بين يديه متأملا متفكرا وأمامه كتاب مفتوح. فلما تحقق إيليا وجود الرجل صاح: السلام على النبي أرميا، فنهض الرجل، وقال: أهلا بكيريه إيليا، هل تذهب مرة ثانية إلى بيت لحم؟ فضحك إيليا لهذا السؤال، وقال: جئت أشكرك يا صديقي لأنك أنقذتني أمس، ما لك جالس هنا وظهرك إلى المدينة المقدسة؟
فتنفس أرميا الصعداء وخرج من كوخه إلى مقابلة أورشليم، وبعد أن ألقى إليها نظرة قال: إذا كان الله قد غضب عليها أفلا أغضب عليها أنا أيضا، إنني صرت أكره النظر إليها، ولذلك نقلت كوخي من أمامها إلى جهة الشرق. نعم، لقد صرت مجوسيا أستقبل الشمس بدل مدينة داود.
فضحك إيليا، وقال له: ماذا، هل جد شيء؟ فقال أرميا متعاظما: ماذا تريد أكثر من ضياع بلادنا وخراب مملكتنا كما خربت مملكة اليهود قبلنا، فها العرب زاحفون إلينا ليأخذوا أملاكنا، وها المسيح الدجال يتركنا ويذهب كأنه يسر بسقوط مدينتنا وديانتنا. فقال إيليا مدهوشا: ومن تعني بالمسيح الدجال؟ فصاح أرميا والجنون ظاهر في عينيه: الإمبراطور. فصرخ إيليا: اسكت. اخفض صوتك يا أرميا وإلا ألحقوك بسميك القديم. فهنا بلغ الغضب من أرميا مبلغه، فصاح ونار الجنون تستطير من عينيه: دجال وألف دجال. فإن سقوط ديننا ومملكتنا سيكون على يده، وهل تريد دليلا على أنه المسيح الدجال أعظم من مقاومته بطريركنا صفرونيوس حتى في المسائل الدينية التي لا يفهم هو منها شيئا، إن بطريرك أورشليم يجب أن يكون أرفع البطاركة كلمة، وأصدقهم رأيا؛ لأنه قريب من المهد والقبر والجلجلة - تلك الأماكن التي توحي إلى النفس الحقيقة والحكمة، ولذلك يجب أن لا يتبع رأي غير رأيه، وأما صاحبنا الإمبراطور فإنه استمال إليه بطاركة القسطنطينية وأنطاكية والإسكندرية وكذلك أسقف رومة، وقرروا مسألة الطبيعتين والمشيئة الواحدة * وأنا أقول الآن لك ولهم وللأرض والسماء أنهم مخطئون جانون على الكنيسة، والحق مع البطريرك صفرونيوس الذي يعلمنا أن المسيح بطبيعتين ومشيئتين. *
فهنا تنفس إيليا الصعداء وقال: رجعنا يا أرميا إلى المجادلات الدينية، بالله دعنا منها فقد عافتها نفسي.
فابتسم النبي أرميا ابتسام الاحتقار، وقال: هل تظن إذا تركناها أنها تتركنا هي؟ هيهات هيهات. فإنها قابضة علينا وعلى روح مملكتنا بمقبض من حديد، فإما أن نحلها أو تحلنا؛ فضحك إيليا لهذه التورية في كلام المعتوه، وقال له: إنك اليوم بليغ يا أرميا فما سبب بلاغتك؟ يظهر أنك لا تزال صائما؛ لأنك ذكرت لي يوما أنك لا تكون حسن البلاغة إلا إذا كنت صائما. فقال أرميا: نعم، ما زلت صائما ولم أتناول طعام العيد بعد، ولكنني أهزأ بطعام العيد وبكل طعام. ألا يكفينا خبز الروح الذي هو غذاء النفس. نعم، هو يكفي كل رجل صالح، وأما الأشرار والخنازير البشرية الذين آلهتهم بطونهم فلا يكفيهم خبز الروح، ولكن لا تنقل الحديث الأول فإنني أريد إتمامه لأبلغك أمرا مهما، هل تريد أن تسعى معي سعيا عظيما؟
فحدق إيليا في المعتوه، وقال: ما هذا السعي؟ أخبرني عنه وأنبئني أولا هل حديثك طويل فإن لي حديثا مهما معك.
فضرب أرميا يده في الهواء وقال: لا حديث أهم من الحديث الذي أروم الدخول معك فيه فتعال نجلس في الشمس أمام الكوخ، وهناك أطلعك على مشروعي.
فقال إيليا وهو يضحك في نفسه من مشروعات أرميا: بل دعنا نجلس هنا أمام المدينة المقدسة فإن المنظر في غاية الجمال.
وفي الحقيقة إن منظر القدس تحتهما كان مما يروق النظر في تلك الساعة؛ فإن الشمس أطلت على المدينة في صبيحة عيد الميلاد من وراء غيومها السوداء تنثر على أرض القدس نورها الذهبي، وكانت المدينة تحت الضباب الرقيق المخيم عليها بين أسوارها السمراء الشاهقة المحيطة بها تشبه حمامة بيضاء في قفص مكمد اللون عليها غلالة من القطن المندوف، وكان الناس في سفح الجبل على الطريق يسيرون ذهابا إلى المدينة وإيابا منها، وهم كلما التقوا صافحوا بعضهم بعضا تقبيلا، وتبادلوا التهنئة بالعيد، وكان منظر الأفق وراء المدينة وإلى جوانبها متسعا للجالسين على الجبل فكان إيليا يسرح طرفه مبتهجا، وأما أرميا المسكين فإن نفسه كانت لا تشعر بذلك الجمال الطبيعي ولا تلتفت إليه.
Halaman tidak diketahui