الرحلة إلى إفريقيا
الرحلة إلى إفريقيا
Penyiasat
خالد بن عثمان السبت
Penerbit
دار عطاءات العلم (الرياض)
Nombor Edisi
الخامسة
Tahun Penerbitan
١٤٤١ هـ - ٢٠١٩ م (الأولى لدار ابن حزم)
Lokasi Penerbit
دار ابن حزم (بيروت)
Genre-genre
آثار الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي (٩)
الرحلة إلى إفريقيا
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (١٣٢٥ هـ - ١٣٩٣ هـ)
تحقيق
خالد بن عثمان السبت
إشراف
بكر بن عبد الله أبو زيد
Halaman tidak diketahui
مؤسسة سُلَيْمَان بن عبد الْعَزِيز الراجحي الْخَيْرِيَّة
SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة
الطبعة الأولى ١٤٢٦ هـ
دَار عَالم الْفَوَائِد للنشر والتوزيع
مَكَّة المكرمة ص. ب: ٢٩٢٨
هَاتِف: ٥٥٠٥٣٠٥ - فاكس: ٥٥٤٢٣٠٩
الصَّفّ والإخراج دَار عَالم الْفَوَائِد للنشر والتوزيع
1 / 2
المقَدِّمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين، وبعد:
فقد سافر الشَّيخ العلامة المفسر الأصولي محمَّد الأمين بن محمَّد المختار بن عبد القادر بن محمَّد بن أحمد نوح بن محمَّد بن سيدي أحمد بن المختار الشنقيطي الجَكَني ﵀ المولود سنة (١٣٢٥ هـ) من بلاده لسبع مضين من جمادى الآخرة، من سنة (١٣٦٧ هـ) قاصدًا بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، ثم زيارة مسجد رسول الله ﷺ، وبعدها يرجع إلى بلاده، ولكن الله شاء للشَّيخ ﵀ أن يستقر في المدينة النبوية، ويقيم دروسًا حافلة في المسجد النبوي وغيره، فانتفع منه القاصي والداني، وبعد تمام ثماني عشرة سنة كاملة (١) توجه الشَّيخ ﵀ على رأس وفد يتألف من أربعة أفراد (ثلاثة من الجامعة الإسلامية وواحد من رابطة العالم الإسلامي) موفدين من الجامعة والرابطة.
أعضاء الوفد:
١ - العلامة محمَّد الأمين الشنقيطي ﵀ رئيسًا.
_________
(١) كما صرح بذلك الشَّيخ عطية ﵀ في كلمة للإذاعة الموريتانية، وهي ضمن محتويات الشريط السابع من أشرطة هذه الرحلة. كما جاء في تاريخ بعض اللقاءات بأنها كانت في اليوم الثامن من شهر جمادى الآخرة، وبعضها قبل ذلك. وهذا يعني أن تلك الرحلة كانت سنة (١٣٨٥ هـ).
1 / 3
٢ - الشَّيخ عطيه محمَّد سالم عضوًا.
٣ - الشَّيخ محمَّد أمان الإثيوبي عضوًا.
(وهؤلاء الثلاثة من الجامعة الإسلامية).
٤ - سيدي الأمين المامي الجكني عضوًا.
من الرابطة.
الدول التي زارها الوفد:
توجه الوفد إلى تسع دول إفريقية، وهي: السودان، نيجيريا، الداهومي (١)، النيجر، مالي، السنغال، موريتانيا، فولتا العليا، تشاد.
أهداف الوفد:
يمكن حصر الأهداف التي سافر الوفد من أجلها في ثلاثة أمور (٢)، وهي:
١ - تقوية أواصر الرابطة الإيمانية بين المسلمين.
٢ - بث الوعي بين أبناء المسلمين في تلك البلاد.
٣ - التعرف على أحوال المسلمين.
_________
(١) هكذا سماها الشَّيخ عطية ﵀.
(٢) وذلك بناءً على ما صرح به الشَّيخ عطية ﵀ في عدد من المناسبات في تلك الرحلة كما هو مسجل في الأشرطة.
1 / 4
الحفاوة التي قوبل بها الوفد:
لعل من أبرز ما يُلفت انتباه المستمع لأشرطة هذه الرحلة هو تلك البهجة الغامرة التي عبر عنها العلماء والأدباء والشعراء بكلماتهم وقصائدهم، إضافة إلى ما يصفه الشَّيخ عطية ﵀ من تجمهر النَّاس وحضورهم محاضرات الشَّيخ الأمين ﵀، وقد التقى أعضاء الوفد بالعلماء، والقضاة، ورئيس الدولة، وعدد من الوزراء، كما شُكِّل وفد في موريتانيا لمرافقة الوفد في تنقلاته في البلاد شرقها وشمالها.
القدر الذي وصلنا عبر التسجيل الصوتي مما ألقي في هذه الرحلة:
إن مجموع ما وصل إلينا من الأشرطة المسجلة في هذه الرحلة عشرة أشرطة فحسب، وهو عدد قليل إذا تذكرنا أن الوفد قد زار تسع دول، إضافة إلى إحدى عشرة عاصمة من عواصم المديريات في شمال وشرق موريتانيا (١).
توصيف محتويات الأشرطة:
يمكن أن أُلخص مضمون هذه الأشرطة في الأمور الآتية:
١ - كلمات ومحاضرات للشَّيخ الأمين ﵀.
_________
(١) قام الوفد برحلتين في موريتانيا ابتداء من العاصمة وانتهاء إليها، الأولى: إلى شرق البلاد، وقد شملت: العيون، والنعمة، والمجرية، وكيفه، وقرو، وكيهيدي، وألاق، وأبو تلميت. والثانية إلى شمال البلاد وقد شملت: نواذيب، وزويرات، وأطار.
1 / 5
٢ - أجوبة عن سؤالات وُجهت للشَّيخ ﵀.
٣ - محاضرات (قليلة) لبعض أعضاء الوفد.
٤ - كلمات ترحيبية وقصائد قيلت في بعض المناسبات التي قوبل فيها الوفد.
٥ - ما يصاحب ذلك غالبًا من كلام للشَّيخ عطية ﵀ يصف المقام والمناسبة، أو يُعرِّف بالوفد، أو يبين مهمته، أو غير ذلك مما يتصل بالجانب الإعلامي.
وأمَّا على سبيل التفصيل فعلى النحو الآتي:
الشريط الأوَّل: محاضرة للشَّيخ ﵀ فسر فيها الآيات (٢١ - ٢٤) من سورة البقرة وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ إلى قوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾.
الشريط الثَّاني: كلمات ترحيبية، إضافة إلى سؤالات وُجهت للشَّيخ ﵀، ثم أجاب عنها.
الشريط الثالث: كلمة افتتاحية، وأسئلة وُجهت للشَّيخ ﵀ وأجاب عنها، إضافة إلى بعض المداخلات والكلام للشَّيخ عطية ﵀.
الشريط الرابع: كلمة أو محاضرة للشَّيخ الأمين ﵀ اشتملت على ثلاثة محاور:
الأوَّل: بيان المعتقد الصَّحيح في آيات الصفات.
1 / 6
الثَّاني: بيان الموقف الصحيح من الحضارة الغربية.
الثالث: بيان أن الإسلام دين القوة والتقدم في جميع الميادين.
بعد ذلك وُجهت بعض الأسئلة للشَّيخ ﵀، وأجاب عنها.
الشريط الخامس: محاضرة لأحد أعضاء الوفد.
الشريط السادس: محاضرة للشَّيخ الأمين ﵀ في موضوع الرابطة الإيمانية، وهي مترجمة إلى اللُّغة الهوساوية.
الشريط السابع: ويتضمن:
١ - بعض كلمة أو محاضرة للشَّيخ ﵀ يبين فيها الإسلام دين القوة والتقدم في جميع الميادين.
٢ - كلمة موجهة للنساء يبين فيها تكريم الإسلام للمرأة، إضافة إلى كلمة للشَّيخ عطية ﵀.
الشريط الثامن: محاضرة للشَّيخ الأمين ﵀ تتضمن ستة محاور:
١ - الاعتقاد الصَّحيح في نصوص الصفات.
٢ - مفهوم "لا إله إلَّا الله".
٣ - بيان أن الإسلام دين القوة والتقدم في جميع الميادين.
٤ - بيان الموقف الصحيح من الحضارة الغربية.
٥ - بيان أن الإسلام ينظم جميع شؤون الحياة.
1 / 7
٦ - الكلام على الرابطة الإيمانية.
الشريط التاسع: مكرر مع الشريط الأوَّل.
الشريط العاشر: كلمة أو محاضرة للشَّيخ الأمين ﵀ في موضوع الرابطة الإيمانية ألقاها في مالي (مترجمة). إضافة إلى بعض الكلمات الأخرى لغيره.
عَمَلُنا في هذه المادة:
١ - عهدت إلى بعض طلبة العلم فقاموا مشكورين بتفريغ محتويات الأشرطة.
٢ - بعد مراجعة ما تمت كتابته، ومقابلة ذلك بالأشرطة المسجلة اقتصرت على المحاضرات والكلمات والفتاوى التي صدرت من الشَّيخ الأمين ﵀ دون غيرها، ذلك أن الهدف من إخراج هذه الرحلة إنَّما هو إدخالها ضمن الفهرس الشامل لجميع آثار الشَّيخ العلمية.
٣ - خرَّجتُ الأحاديث الواردة في هذه المحتويات وعزوت الأبيات والشواهد الشعرية، ولم أتتبع جميع المسائل العلمية من جهة التوثيق من المصادر، كما فعلت في دروس الشَّيخ ﵀ في التفسير الذي ألقاه في المسجد النبوي، وذلك لأنَّ عامة المسائل المذكورة في هذه الرحلة موجودةٌ ضمن التفسير المشار إليه وقد وثقتها هناك، ويمكن الرجوع إليها عن طريق الفهرس المشار إليه.
٤ - جعلت كل محاضرة على حدة، وأشرت في الحاشية إلى
1 / 8
الشريط الذي وُجدت فيه، أما السؤالات فقد جمعتها مع أجوبتها، وجعلتها متسلسلة تالية المحاضرات، كما أشرت في الحاشية إلى مواضع وجودها من الأشرطة، وجعلت لها ترقيمًا متسلسلًا، وصدرت الإجابة بـ (الجواب). ولم ألتزم كتابة نص السؤال حرفيًّا، بل قد أختصر فيه بعض الشيء إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
٥ - أَثْبَتُّ كلام الشَّيخ ﵀ بنصه (١)، وإذا وُجد مسح أو انقطاع في التسجيل أو جملة أو كلمة غير واضحة فإنّي أجعل مكان ذلك نقطًا مع الإشارة في الحاشية، ولربما أثبتُّ زيادة يتم بها المعنى، وأجعلها بين معقوفين مع الإشارة لذلك في الحاشية، كما حذفت الكلمات الزائدة التي تجري على لسان الشَّيخ ﵀ في ثنايا الكلام، كقوله بين حين وآخر: "مثلًا"، وكذا بعض العبارات المكررة.
هذا وأسأل الله أن يرحم الشَّيخ ويعلي درجته في الجنَّة، وأن يجزي خير الجزاء كل من أعان على إخراج هذا العمل إنَّه سميع مجيب، وصلى الله وبارك على نبينا محمَّد وعلى الله وصحبه وسلم.
تم الفراغ من مراجعته ليلة الأوَّل من محرم من عام (١٤٢٤ هـ).
وكتبه: خالد بن عثمان السبت
_________
(١) حتَّى الآيات التي تلاها الشَّيخ على قراءة نافع.
1 / 9
القسم الأول (المحاضرات والكلمات)
1 / 11
[١] تفسير الآيات (٢١ - ٢٤) من سورة البقرة
1 / 13
(١) أعوذ بالله من الشَّيطان الرجيم، يقول الله جلَّ وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (٢٤)﴾ [البقرة / ٢١ - ٢٤].
تلونا عليكم هذه الآية الكريمة من أول سورة البقرة، وإن كان الكلام عليها لا يسعه يوم ولا بعض يوم، إلَّا أنا يزيد أن نذكر حولها نماذج يستبين بها النَّاس بعضًا من أضواء القرآن.
أولًا: ننبه إخواننا على فضل القرآن العظيم؛ لأنَّ فيه جميع خير الدُّنيا والآخرة، فعلينا جميعًا أن نتدارسه ونتعلمه، حتى نعتقد عقائده، ونحل حلاله، ونحرّم حرامه، ونتأدب بآدابه، وننزجر بزواجره، ونتربى بما فيه من مكارم الأخلاق، وأن نتعظ بما فيه من العبر، والمواعظ، والأمثال، وقصص الأمم الماضية.
الله -جل وعلا- في هذه السورة الكريمة -التي تلونا منها هذه الآيات- التي هي سنام القرآن، السورة العظيمة التي بين الله -جل وعلا- فيها ومهَّد فيها جميع دين الإسلام، ذكر فيها أخبار الأمم الماضين، وأخبار الجنَّة والنَّار، وأقام فيها براهين العقائد، ومناظرة
_________
(١) من الشريط الأوَّل.
1 / 14
الخصوم، وذكر فيها دعائم الإسلام من صلاة وصوم وزكاة وحج، وذكر فيها العمرة، وأكل الحلال، والأحوال الشخصية من نكاح وطلاق وخُلْع، والمعاملات كالديون والربويات والوثائق والشهادات والرهون، وما جرى مجرى ذلك.
نلفت أنظار إخواننا إلى التَّرتيب الغريب العجيب الذي فعله الله في هذه السورة:
أولًا ابتدأ الله هذه السورة الكريمة بحروف مقطعة ﴿الم (١)﴾ وهذه الحروف المقطعة لا شك أنَّها تُلفت نظر السامع إلى ما يُتكلم به بعدها وتجعله متعطشًا عليه.
والآن ليس مرادنا الكلام على الحروف المقطعة لأنَّه كلام يستغرق الوقت كله، ولكن لما ذكر الله هذه الحروف المقطعة وابتدأ بها هذه السورة العظيمة قال: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيبَ فِيهِ﴾ فبين أن هذا الكتاب المشتمل على خير الدُّنيا والآخرة الذي هو النور المبين، والحبل المتين، الذي أوضح الله به العقائد، والحلال والحرام، وجميع خير الدُّنيا والآخرة لا تتطرقه الرِّيب ولا الشكوك؛ لأنَّ معجزته أوضح من أن يتطرق إليه شك.
ومعروف أن للسائل أن يقول: كيف يقول: ﴿لَا رَيبَ فِيهِ﴾ بـ "لا" التي لنفي الجنس، مع أن قومًا ارتابوا فيه وحصل منهم ريب، كقوله في قوم: ﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)﴾ [التوبة / ٤٥]؟
ونحن نقول: الجواب: أن القرآن بالغ من كمال المعجزة وإيضاح
1 / 15
المعجزة ما لا تتطرقه الرِّيب ولا الشكوك، وإنَّما ارتاب فيه المرتابون لعمى بصائرهم، كما نص الله على ذلك في سورة الرعد: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٩)﴾ [الرعد / ١٩].
فصرح بأن من لم يعلم أنَّه الحق إنَّما منعه من ذلك عماه، ومعلوم أن عدم رؤية الأعمى للشمس لا تقدح في كون الشَّمس لا ريب فيها.
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة ... فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر (١)
ثم بعد أن بين أن هذا القرآن لا ريب فيه جعل جميع الأمة التي أنزل إليها هذا المحكم المنزَّل ثلاث طوائف.
جميع الأمة التي أنزل إليها هذا المحكم المنزَّل الذي هو مفتاح الجنَّة ومفتاح النَّار، لا يدخل أحد الجنَّة إلَّا عن طريق العمل بهذا القرآن، ولا يدخل أحد النَّار إلَّا عن طريق الإعراض عنه، قال جل وعلا في المعرضين عنه: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ﴾ أي كائنًا ما كان ﴿فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١٧)﴾ [هود / ١٧].
وقال جل وعلا فيمن أُورثوه وعملوا به: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَينَ يَدَيهِ إِنَّ
_________
(١) البيت في نفح الطِّيب (١/ ٦٨)، وأورده الشَّيخ ﵀ في دفع إيهام الاضطراب ص ٧، وهو في العذب النمير عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
1 / 16
اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَينَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر / ٢٩ - ٣٢]، فبين أن إيراثه علامة الاصطفاء، ثم قال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيرَاتِ﴾ [فاطر / ٣٢] ثم بيّن أنّ هذا القرآن هو أعظم نعمة ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)﴾.
ثم جاء بوعده الصادق: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاورَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٣٣)﴾ [فاطر / ٣٣] الواو في قوله: ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ شاملة للأصناف الثلاثة وعلى رأسهم الظالم لنفسه، وكان بعض العلماء يقول: "حُقَّ لهذه الواو أن تكتب بماء العينين" (١)؛ لأنَّ واو ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ فيها وعد صادق بالجنة للجميع وعلى رأسهم الظالم لنفسه.
وكان بعض العلماء يقول: "ما الحكمة في تقديم الظالم لنفسه قبل السابق والمقتصد، والله حكيم لا يقدِّم إلَّا لنكتة تستوجب التقديم"؟ ! (٢).
كان بعض العلماء يقول: هذا مقام إظهار الكرم، فقدَّم الظالم لئلا يقنط، وأخّر السابق بالخيرات لئلا يعجب بعمله فيحبط.
وكان بعض العلماء يقول: أكثر أهل الجنَّة الظالمون لأنفسهم؛ لأنَّ الله يقول: ﴿إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ [ص / ٢٤].
_________
(١) انظر: الأضواء (٦/ ١٦٥)، العذب النمير (تفسير الآية ٤٧ من سورة البقرة).
(٢) انظر: القرطبي (١٤/ ٣٤٩)، الأضواء (٦/ ١٦٥)، العذب النمير (تفسير الآية ٤٧ من سورة البقرة).
1 / 17
فبدأ بهم لأكثريتهم.
الشاهد أن الله بين في آيات البقرة التي تلوناها أن الأمّة بالنسبة إلى هذا الكتاب المنزل الذي هو أعظم نعمة أنزلها الله من السماء إلى الأرض، وعلمنا أن نحمده على إنزالها في غير ما آية، كقوله في أول سورة الكهف: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١)﴾ [الكهف / ١]، أي: لم يجعل فيه اعوجاجًا كائنًا ما كان، لا من جهة الألفاظ، ولا من جهة المعاني، فألفاظه في غاية الإعجاز والسلامة من العيوب والوصمات، ومعانيه كلها في غاية الكمال، أخباره صدق، وأحكامه عدل ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام / ١١٥] أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأحكام = بين أن الأمة بالنسبة إليه ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منها-: طائفة آمنت به ظاهرًا وباطنًا، وأبصرت هذا النور، فاهتدت بهذا النور، واتصلت على ضوئه بخالق الكون، فرأت الحق حقًّا والباطل باطلًا، والنافع نافعًا والضار ضارًّا، والحسن حسنًا، والقبيح قبيحًا. قال في هذه الطائفة: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة / ٢ - ٤] ثم أثنى عليهم بقوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)﴾ [البقرة / ٥].
ثم بين أن هناك طائفة أخرى من الطوائف الثلاث بالنسبة إلى هذا القرآن الذي لا ريب فيه أنَّها طائفة -والعياذ بالله- كفرت به ظاهرًا
1 / 18
وباطنًا، قال فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧)﴾ [البقرة / ٦ - ٧] وهذه الطائفة -والعياذ بالله- إنَّما عميت من أنوار القرآن لأنَّها خفافيش البصائر، والخفاش لا يرى الشَّمس.
خفافيش أعماها النهار بضوئه ... ووافقها قِطْع من الليل مظلم (١)
مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نورًا ويعمي أعين الخفاش (٢)
كما بينا كما في قوله في سورة الرعد: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٩)﴾ [الرعد / ١٩].
والطائفة الثَّالثة: وهي أخس الطوائف -هي طائفة آمنت به ظاهرًا، وكفرت به باطنًا فكانت من المذبذبين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهي طائفة المنافقين، وهي أخس الطوائف، ذكرها الله في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)﴾ [البقرة / ٨ - ١٠].
_________
(١) البيت لابن الرومي، وهو في ديوانه (١/ ١٥٧)، تحقيق حسين نصار، ولفظه هناك:
خفافيش أعشاها نهار بضوئه ... ولاحمها قطع من الليل غيهب
(٢) البيت في المغني لابن قدامة (١٣/ ٣٢٣)، حياة الحيوان للدميري (١/ ٢٩٦)، صبح الأعشى (٢/ ٨٨)، الأضواء (٢/ ٢٧٤).
1 / 19
وأطال في كلامه في هذه الطائفة لأنَّها أخس الطوائف، فضرب لها الأمثال بمثل النَّار ومثل الماء ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة / ١٧] ومثل الماء في قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ [البقرة / ١٩].
ولا يسعنا المقام في أن نتكلم على المثلين لأنَّه يستغرق وقتًا طويلًا.
والشاهد أن الله لمَّا نوه بهذا القرآن العظيم، وبينَ أنَّه الكتاب الأعظم الذي لا ريب فيه، وبيّن أن النَّاس بالنسبة إليه ثلاث طوائف: طائفة طيبة، وطائفتان خبيثتان، ليس المقصود من القرآن في تقسيم هذه الطوائف مجرد تاريخ ولا إخبار، بل مجرد وعظ وإرشاد ليعلم خلقه ويبيِّن لهم أنهم يجب عليهم أن يُسارعوا إلى أن يكونوا من الطائفة الطيبة، ويتباعدوا كل التباعد من الطائفتين، المقصود تنبيه المسلمين على أن يكونوا من المتقين الذين يؤمنون بالغيب ومما رزقناهم ينفقون، وأن يتباعدوا كل التباعد أن يكونوا من طائفة الكافرين أو طائفة المنافقين.
لا شك أن المسلم إذا علم هذا التقسيم من خالق الكون -جل وعلا- أنَّه يتشوف بتعطش إلى الطَّريق التي يجتنب بها الكينونة مع الطائفتين الخبيثتين، والصيرورة مع الطائفة الطيبة، لا شك في هذا؛ لأجل هذا أتبع الله هذا التقسيم بإيضاح كلمتين عليهما مدار خير الدُّنيا والآخرة، وجميع الهدى، والصلة الكاملة بمن رفع هذه السماء ودحا هذه الأرض، وفتح هذه العيون في أوجهكم، ففرق أصابعكم وشدَّ رؤوسها بالأظفار، وأنتم في بطون أمهاتكم من غير أن يحتاج إلى أن
1 / 20
يشقها ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ﴾ [الزمر / ٦]. هاتان الكلمتان هما: (لا إله إلَّا الله محمَّد رسول الله). فبدأ بالكلمة الأولى التي هي (لا إله إلَّا الله) وبينها لأنها مركبة من نفي وإثبات، (لَّا إله) نفي، (إلَّا الله) إثبات. ومعنى نفيها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله في جميع أنواع العبادات، ومعنى إثباتها: إفراد خالق هذا الكون -جل وعلا- بالعبادة.
وأصل العبادة في لغة العرب: الذل والخضوع، وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته (١):
تُباري عتاقًا ناجيات وأتبعت ... وظيفًا وظيفًا فوق مَوْرٍ مُعَبدِ
أي: مذلل لدوس الأقدام والأرجل.
أما العبادة في اصطلاح الشرع فهي: التقريب إلى خالق هذا الكون بما أمر أن يتقرب له به على الوجه الشرعي على لسان محمَّد ﷺ مع الخضوع والذل والمحبة، فلا يكفي الذل والخضوع دون المحبة، ولا المحبة دون الذل والخضوع، لأنَّ المحبة إن لم يكن معها خوف كان صاحبها في إذلال وجراءة، فقد يقع في المقام الإلهي بما لا ينبغي إدلالًا بالحب وأمنًا من عدم الخوف، والخوف إذا كان منفردًا عن المحبة كان صاحبه مُبْغِضًا. وهذا كله لا يليق، لا بد من ذل وخضوع من جهة، ومن محبةٍ من جهة أخرى.
هذه الكلمة التي بيّنا معناها جاء الله بإثباتها منفردة في قوله:
_________
(١) شرح القصائد المشهورات (١/ ٦٠).
1 / 21
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة / ٢١].
وجاء في نفيها في حدة في قوله: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)﴾ [البقرة / ٢٢] وكان أول أمر في المصحف الكريم -إذا نظرت المصحف الكريم أول أمر فيه على التَّرتيب الذي هو عليه- قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا﴾ [البقرة / ٢١] في هذه الآية التي تلونا من أول سورة البقرة. وأول نهي فيه قوله: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ [البقرة / ٢٢]. فأول [أمر] (١) في المصحف يتضمن حظ الإثبات من: (لا إله إلَّا الله). وأول نهي منه يتضمن حظ النفي من: (لا إله إلَّا الله).
ثم إن الله لما بين هذه الكلمة الأولى وأوضحها جاء ببراهينها: بيَّن تفسير جزأيها، ثم ضمنها براهين البعث، وسنتكلم على هذا ونوضحه الآن.
ثم بعد ذلك أقام برهان (محمَّد رسول الله) بعد أن بين (لا إله إلَّا الله) وبراهينها العقلية المضمنة براهين البعث أتبع ذلك بقوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة / ٢٣] وهذا برهان الإعجاز؛ لأنَّ إعجاز جميع الخلائق عن أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن برهان قاطع على أنَّه تنزيل رب العالمين، إذ لو كان من كلام العرب لقدر البشر على محاكاته؛ ولذا لما قال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ قال: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ [البقرة / ٢٤] لنفي المستقبل علّق ونفى الشرط المعلق عليه ليدل على أن المشروط لا يأتي أبدًا، ولذا قال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ لا يمكن أن تفعلوا، وهذا التعليق والنفي أسلوب بليغ من كلام
_________
(١) الأصل: نهي، وهو سبق لسان.
1 / 22