16
تحت أسوار إليوم فما كان يتكلم إلا لماما، وما كان ينطق عن الهوى إذا فعل، وإذا استثنينا نسطور، وأنا، فما كان أحد ينهض إلى مقامه، أو يقارن به من جميع الأبطال الإغريق، وكنا نكر حول طروادة ونفر، فما أعرف أن أحدا كان أجرأ منه كرا ولا أحذق فرا ... ولقد جندل من أبناء طروادة الصناديد أقرانا وفرسانا حتى ما أستطيع سرد أسمائهم جميعا، بيد أنني أذكر فيمن أذكر منهم يوريبيلوس بن تلفوس البطل الذي أغرى «بريام» نساءه بالرشى ليقنعنه بخوض غمار الحرب إلى جانب الطرواديين، فما زلن به حتى خاضها هو وجنوده السيتيون. لله ما كان أجمل وما كان أروع! أبدا ما رأيت زعيما ولا سيد قوم - باستثناء ممنون - أبهى منه ولا أصفى جمالا، وما أنسى لا أنسى يوم حصان أبيوس الخشبي، يوم قمت أتخير الصناديد المذاويد من أبناء هيلاس ليكونوا معي داخله، وكان علي أن أظل عند بابه السري؛ لأرى في فتحه أو إغلاقه ما أرى. لا أنسى ما كان من هلع أبطالنا وذعرهم وذهاب نفوسهم وتحدر دموعهم من هذه المهمة رعبا وفرقا، أما ولدك فيا ما كان أشجع ويا ما كان أربط جأشا! إن عبرة واحدة لم تنسرق من عينيه، بل إنه كان يحثني ويحرص جد الحرص على أن أختاره، حتى إذا فعلت تقدم متبخترا يجر رمحه الظمئ، ويغلي صدره بنار الانتقام يود لو يصبها على طروادة وأبنائها جميعا، وما إن فتحت علينا وأبنا منها بالغنائم والأسلاب والسبي حتى نظرت إليه قبل أن يبحر فما وجدته يشكو رمية، ولا يئن من جرح، ولا أثر في جسمه لخدش مما تصنع الحرب، وما تسجل فعال مارس.»
الملكة الحسناء والأبناء الغر الميامين.
وزهى أخيل من كثرة ما أثنيت على ولده، فراح يتخايل ويدل وسط شجر البرواق،
17
وكانت جموع من أشباح الموتى تملأ الرحب، وقد جلس كل أو هام على وجهه يبكي ويشكو بثه لغير سميع، وقد رأيت بينهم شبح صديقي التيلاموني - أجاكس - وكان يحدجني في الفينة بعد الفينة، ولكنه لم يشأ أن يكلمني ، آه إنه لا يزال ينقم علي ما شجر بيني وبينه من نزاع على عدة أخيل «بعد مقتله» وما كان من طلب ذيتيس
18
ألا يلبس دروع ولدها سواي، ثم ما كان من تأييد مينرفا للأم الرءوم فيما طلبت، لقد كان انتصارا لي، كم كنت أوثر ألا يكون؛ لأنه كان فيما يبدو سبب مقتل أجاكس المغوار الذي لم يكن فينا من هو أشجع منه إلا أخيل نفسه، ولقد وجهت إليه ألين الخطاب لأقل من ثورة غضبه، فقلت له: «أيها العزيز أجاكس، يا ابن تيلامون المجيد، أما تستطيع أن تغضي - وأنت في الدار الآخرة - عما شجر بيننا بسبب هذه العدة المشئومة؟ لعنتها الآلهة من عدة كتبت فوقها صحيفة موتك، فخسرنا فيك أشجع فرساننا وأعظم مقاتلينا، إنا ما نفتأ نبكيك ونشكو رزأنا فيك، ونعد فقدك كفقدنا أخيل نفسه ولكن لا تثريب على أحد قط؛ فجوف - كبير الآلهة - الذي ما ينفك يصب لعنته على جيوش آخايا هو الذي قضى عليك بالموت. أيها البطل، هلم نحوي كيما تسمع إلى الكلم الطيب الذي أجهد أن أترضاك به؛ لتخمد جذوة الغضب علي في نفسك، ولنحسم ما بيننا من خصام.» بيد أنه ما حرك شفتيه، بل لوى عنانه وانخرط في جماهير الأشباح الهائمة، وترك الرغبة الملحة المشتعلة في صدري شوقا إلى تكلمه تنطفئ رويدا، فقلبت نظري في الأرواح القريبة عسى أن أعرف منها أحدا فأتحدث إليه، فلمحت بينها مينوس سليل جوف الأكبر، وكان يجلس على عرش ممرد للقضاء بين الموتى، وفي يمينه صولجانه الذهبي الثمين، ومن حوله زرفت جموع سكان هيدز؛ فمنهم الواقف ومنهم الجالس، ومنهم المنتصب يشرح للقاضي شكواه ويبثه بلواه، بينا قد أهطعت الرءوس وانحبست النفوس، وتكأكأت الموتى عند البوابات الكبيرة الهائلة تنتظر دورها. ثم راعني أن أرى بين تلك الجموع أوريون الجبار يسوق قطعانه التي ذبحها بيديه في الدار الأولى، وهو يرعاها على أوراق البرواق، ورأيت فيمن رأيت تيتوس الجبار سليل هذه الغبراء، وقد كان منبطحا على الأرض بحيث يشغل فضاء تسعة أفدنة، وعلى كل من جنبيه أفعوان هائل يتغذى بمضغ من كبده الكبير الدامي، وينغب من أحشائه الغلاظ؛ جزاء بما حاول أن يستذل لانونا اللعوب الطروب عشيقة جوف سيد الأولمب، التي فرت من وجهه في بطائح بيتو إلى فراديس بانوبيوس، ثم رأيت تانتالوس في ضعف من العذاب، رأيته يتخبط في عين حمئة من حميم، وقد غاص فيها إلى ذقنه، والموج يضرب وجهه ويسفعه، وهو مع ذاك يلهث من الظمأ، لا يجد ما يبل به غلته أو يطفئ جواه وصداه، فهو إن حنى رأسه غمرته الحمم، وإذا رفع جسمه كرت الأرض على قدميه بأمر ربها فهو في عذاب مقيم، ولله أشجار الفاكهة دانية قطوفها فوق رأسه من رمان حلو وتفاح عطري وتين معسول وزيتون، كلما اشتهى أن يقطف ثمرة وكاد، هبت الرياح عاتية فذهبت الغصون عالية في السحاب، ثم رأيت سيسفوس ذا الأنياب يضنى ويشقى ويتعذب، يدفع أمامه حجرا جلمودا عظيما فيجعله في رأس جبل، حتى إذا انتهى إليه غاضت الأرض من تحته بقوة خفية فكانت بئرا عميقة، فيهوي الحجر من عل، فيعود المسكين إلى نصبه عودا على بدء، ويتحدر عرقه على جسمه العظيم، ويتبخر من رأسه كأنما ينقذف من بركان، ثم شهدت هرقل الحديدي القوي الجبار، شبحه فقط؛ لأنه هو قد منح بركة الآلهة وخلودها، فهو أبدا يحضر ولائمها في شعاف الأولمب، شهدته يحتضن ابنة جوف الجميلة المفتان، هيب، ذات القدمين الناصعتين والنعلين الذهبيتين، رأيته وأشباح الموتى ترف من حوله صافات كالطير، ثم يقبضن. وراعني أن أراه عابسا كالحا كقطعة من الظلام، وقد حملق بعينيه في الأرض وفي يديه قوسه وسهامه يوشك أن يرميها، وعلى وسطه حزامه الرائع المموه بالذهب، وقد نقشت عليه صور مئات من الدببة والذؤبان والسباع ينقدح الشرر من عيونها، دائبة في عواء وزئير وتقاتل ونهش؛ صنعة معجزة لم يقدر على مثلها أحد من قبل ولا من بعد، وما كاد يتبينني حتى عرفني، وظل يقلب في عينيه السادرتين، ثم قال لي: «آه، يا ابن ليرتيس النبيل ذا المجد ما أتعسك! ما أظنك إلا معنيا ببعض المجازفات التي كنت أشغف بها في حياتكم الدنيا. ها أنت ذا تراني هنا في ظلمات هيدز عبدا رقيقا لإله أحقر مني شأنا وأقل قدرا؛ لأنني - وأنا ابن جوف الأعظم - قد كتب علي أن أشقى هنا لأصل آلام الحياة ولأواءها، أتصدق أنه يأمرني أحيانا أن أسوق كلبة، مع ما في هذا الأمر من سخرية وتحقير! ولكني لن أنسى أني جذبته من مملكته هيدز إلى نور الحياة الدنيا بمساعدة أخي هرمز، وبمعونة مينرفا ذات العينين الزبرجديتين.» ثم هام على وجهه في ظلمات مملكة بلوتو، ثم تلبثت أنا مكاني راجيا أن ألقى غير من لقيت من أرواح الأبطال الذين عرفتهم في الدار الأولى، أولئك العظماء ذوو العزة والمجد، وكم وددت أن أرى بيريثوس وثيذيوس سليلي الآلهة. بيد أن جموع الموتى الحاشدة التي أقبلت تصرخ قذفت الرعب في قلبي، وخفت أكثر أن ترسل برسفونية ملكة هيدز رأس الجرجون من ظلمات هيدز فتفعل بي الأفاعيل، فآثرت أن أسرع بمركبي. وأمرت الملاحين فأقلعوا، وجلسوا على الظهر وحملنا تيار سريع عبر البحر المحيط بعد أن أعملنا المجاديف وقتا غير طويل.
تمام قصة أوديسيوس
(1)
Halaman tidak diketahui