أبوللو ومارسياس وميداس.
ووصلت الهدايا الأخرى مع غروب الشمس، فنهض أبناء الملك يتسلمونها، ويحملونها إلى داخل القصر، حيث أمهم أريتا الملكة، ونهض الملك فتوجه إلى الداخل كذلك، وسأل الملكة أن تحضر ثوبا وأكسية، وأن تعد صندوقا يتسع لهدايا الزعماء ملوك البحر التي خلعوها على الضيف، وقدم هو هديته؛ كأسه الخاصة من الذهب الخالص المحلاة بأبهج الطرف وأبهى التصاوير؛ «ليذكرني بها كلما أفرغ منها الخمر تقدمه للآلهة»، وسألها أن تعد للرجل حماما ينعشه وأن تعطيه الأثواب والأكسية كيما يتدثر بها.
وأمرت الملكة خدمها فأعددن الحمام، وأحضرت هي ثوبا فضفاضا فوضعت فيه بدر الذهب وكأس الملك وسائر الهدايا، ثم تلفتت إلى أوديسيوس فقالت له: «والآن أيها السيد، هلم فغلق هذا الصندوق فهو لك؛ لتكون آمنا عليه إذا غفوت في السفينة.» ولبى أوديسيوس، وأغلق الصندوق ثم ربطه بحبل طويل عقده تعقيدا. ثم دعته ربة البيت إلى حمامه، ولله كم ألقت عيناه حين رأى الثوب الديباجي العظيم، الذي لم يلبس مثله منذ فارق كليبسو، ثم اغتسل وتدثر، وتضمخ بأحسن الطيوب وبرز كأحد آلهة الأولمب، وبينا هو يطوي الأبهاء إذا صوت جميل ذو غنة يهتف به، وإذا هي الأميرة الفينانة «نوزيكا» واقفة خلف عمود وهي تقول: «س ... س ... أيها الغريب النازح، اذكرني دائما، أنا أول من لقيك هنا.» وتبسم أوديسيوس وقال: «نوزيكا! أنت؟ ابنة أكرم الملوك ألكينوس؟! لك الله ألا وحق جوف رب الصواعق، لو صحت الأحلام ووصلت سالما إلى بلادي لظللت آخر الدهر أعبدك عبادة أيتها الجميلة العذراء، كما أعبد الآلهة أربابي.» وبلغ مجلس الملك فاستوى إلى كرسي بجواره، واجتمع الفياشيون مرة أخرى ودارت الأقداح، وأجلس المطرب الأعمى الإلهي فخر شيرا قريبا من العرش، وقدم إليه أوديسيوس جزءا من شواء حملة أحد الندل، فأقبل عليه المطرب حتى اغتذى، ثم توجه إليه أوديسيوس بالحديث فقال: «كم أنت جديري بالثناء يا دمودوكوس، بل أنت أولى به من أكثر الناس، ليت شعري هل ثقف موسيقاك عن عرائس الفنون! أم أنت قد حذقتها على أبوللو نفسه؟ لقد أنشدت ما كان من جيش الأخيين كأنك كنت شاهد عيان، أو كأن شاهد عيان قد قصه عليك، أنشد لعمرك، تحدث عن الحصان الهولة الذي صنعه أبيوس بإرشاد مينرفا، والذي حمله أوديسيوس الجبار هو وصحبه إلى قلاع طروادة، ثم اختبأ هو وهم فيه، فكانوا أول خراب إليوم! تغن، إني سوف أحمل اسمك فأنشره في الآفاق أيها المطرب المعجز الذي لا يباريه إلا عازف موسيقى السماء أبوللو تقدس اسمه.»
وتنزل أبوللو على لسان المنشد فراح يقص الوقائع الطروادية منذ حرق اليونانيون معسكرهم وبعد إقلاعهم من شطآن إليوم، وذاك الانقسام في الرأي بين الطرواديين بسبب الحصان الهولة أيقصمون ظهره أم يدقون عنقه أم يحفظونه تذكارا لهذه الحرب ونصبا للآلهة؟ على كل حال لقد نقلوا الحصان داخل أسوارهم؛ ليكون القاضي عليهم بمن فيه من هذه النخبة أولي القوة من أبطال الإغريق، وهكذا قدر عليهم في الأزل أن يهدموا قريتهم بأيديهم. تغنى الشاعر المفتن بكل هذا، وأثنى أيما ثناء على أوديسيوس الذي كان يكر كأنه مارس، ومنلوس الذي كان يفر كالصاعقة، وعلى بقية الأبطال الصناديد الذين فازوا بالنصر في ظل باللا - مينرفا - ربة الحكمة، وكان أوديسيوس ينصت إلى غناء المطرب وإنشاده ودموعه تنحدر غزيرة على خديه، والآهات العميقة تشق صدره شقا، كأنها آهات تلك الأم الرءوم التي وقعت فوق جثمان زوجها الباسل تبكيه وتنعيه، وقد سقط في الحومة يدفع عن مدينته أعداءها، وقد وقف من خلفها أبناؤها خضرا يتامى كأفراخ القطا، ثم يقبل الأعداء فيخمدون أنفاس هذه الأم بضربة لازبة فتنظر مرة إلى زوجها القتيل ومرتين إلى أبنائها التاعسين! كذاك كان أوديسيوس، وكذاك كان يخفي دموعه في طرف ردائه فلا يراها أحد إلا ألكينوس الملك الجالس قريبا منه، وقال الملك متحدثا إلى رعاياه: «أيها الزعماء والأشياخ الفياشيون، أولى للمنشد ثم أولى أن يفرغ من إنشاده؛ فلقد تصدع قلب ضيفكم ووهنت روحه مما يسمع من هذا القصص الحزين، لقد أحببناه كأخ ووهبنا له محبتنا وودنا وصافي أخوتنا لا ليحزن أو يأسى، والآن هل يسمح ضيفنا فيذكر لنا اسمه الذي يعرفه به آله ويدعونه به؟ لقد كتم هذا عنا، فهل ولد أحد ولم يحمل اسما؟ من أنت أيها العزيز؟ وما بلادك؟ وإلى أين تحملك سفينتي ويبحر بك رجالي؟ لقد منحنا نبتيون - رب البحار - الأمن في ذلك اليم، وذلل لنا غواشيه، ولكنه ليس أشق عليه من أن تحمل سفننا أغرابا مثلك لا نعرفهم فنبحر بهم إلى بلادهم، إنه يغضب علينا، وقد يغرق سفننا تشفيا وانتقاما حينما تعود أدراجها إلى بلادنا، فتهوي إلى الأعماق ثم يسحرها إلى جبل ناتئ فوق العباب قبل شيريا، تكلم أيها السيد، اصدقنا؛ من أنت؟ ومن أي البلاد قدمت؟ وأين ضربت بطون الركائب؟ وأي الأمصار شاهدت؟ وماذا يفجر هذا الأسى في أعماقك كلما سمعت عن جنود الأخيين، وكلما ترددت في أذنيك أغنيات طروادة؟ إن الآلهة تحيك من حاضر المرء طيلسان الهموم لغده، أقتل أبوك ثمة؟ أم صرع أخوك تحت أسوارها؟ أم قضى حموك في ساحتها؟ أم أودى أصدقاء لك أحباء في حلبتها كنت تعدهم كبعض أهلك أو أعز من أهلك؟ تكلم.»
النجيب الهرقلي الذي يقص أثر الأميرة ابنة الملك.
في أرض المردة (السيكلوبس)
وشرع أوديسيوس يجيب عما تساءل عنه الملك فقال: «أيها الملك تعالى جدك، لشد ما يطرب ما تغنى هذا المنشد غناء الآلهة، ولقل ما تعدل الدنيا بأسرها هذا المجلس الشادي ذا الأضياف والآكال والأشربات، على أنني مجيبك على ما بدهك من دموعي وهمومي، وما لقيت وما سوف ألقى مما قسم لي من أشجان وأحزان، إذن فاعرف اسم ضيفك الشريد الذي لا يجهل اسمه أحد؛ ضيفك اللائذ بكرمك المستذري بحماك، المتشبث بك ليصل في ظلك إلى بلاده مهما تقاصت ومهمات نأت. أنا أيها الملك أوديسيوس، أجل، هو أنا أوديسيوس ذو الذكر المعروف في السموات بالدهاء والمكر، ابن ليرتيس رب إيثاكا وملك نريوس ذي الشعاف السامقة والجزائر الآهلة حول ساموس ودلخيوم وزاسنتوس، أم الجزائر التي تصافح تباشير الصباح بكل روضة فيحاء وخميلة لفاء، وجنات ذوات شجر وثمر، صبغا لأبنائها الأوفياء؛ هناك، حيث احتجزتني عروس الماء كليبسو في كهفها وراودتني لأكون بعلها، وهناك حيث أغرتني سيرس هي الأخرى، سيرس صاحبة جزيرة أيايا، التي حاولت أن تتخذ مني خليلا، فأبيت ولم أقبل أن أضحي بأهلي ووطني ولو أصبحت زوجا لإحدى الربات الخالدات، ولكن لا، هلم قبل كل شيء أقص عليك من أنباء رحلتي منذ بارحت إليوم، ولأدع ما قبل ذلك فهو معلوم مشهور.
أقلعت بنا الفلك إلى بلد السيكون (أزماروس)،
1 (فبدا لي أن أزيد في ثروة رجالي وما فازوا به من أسلاب طروادة، فأشرت عليهم بفتح المدينة واغتنام ما فيها من كنوز وأذخار)
2
Halaman tidak diketahui