حسبها ما خدعتنا! وإنا نقاسمك يا تليماك أننا لن نبرح عاكفين على ما شكوت من ذبح لنعمك، وإراغة لزادك، ومعاقرة لخمرك حتى تختار لنفسها، أو فلتعف هذه الدار، ولينضب معين خيرها.»
وشاعت الكبرياء في كل جارحة من جوارح تليماك، فقال: «أنتينوس! ماذا أصابك؟ كيف تسألني أن أقهر أمي التي غذتني ونشأتني على غير ما ترضاه؟ كيف أطردها من قصر بعلها الذي لا يعلم غير الله إن كان حيا أو ميتا؟ لبئس ما أجزيها به، ولشد ما أغضب أبي وأثير غضب الآلهة علي إن فعلته، إنها ستدعو إيرينيس كي تنتقم لها مني، وستنصب علي لعنات الناس جميعا، ويحك أيها الرجل! لن أقولها أبدا، بل اذهبوا أنتم فسلوها ما شئتم، فإما أجابت طلبتكم، وإلا فانصرفوا غير مأجورين، اذهبوا فأولموا ولائمكم في غير هذا القصر، وأريغوا من زادكم، وأنفقوا مما تحبون، أما إن رأيتم أنه أحلى لكم أن تأكلوا مال غيركم؛ فإني سأهتف أبدا بالآلهة أن تقتص لي منكم، فهي محيطة بكم.»
شرع العشاق المجرمون يلتهمون ما لذ وطاب، ثم شرع فيميوس ليغني.
وما كاد يفرغ تليماك من مقالته حتى أرسل سيد الأولمب نسرين عظيمين طفقا يضربان الهواء بخوافيهما، ثم جعلا يدومان فوق الملأ ويقدحان الشرر من أعينهما نذيري ردى وصيحة منون، ثم انطلقا نحو المدينة وغابا في ظلام البعد.
وشده القوم، وريعت أفئدة العشاق وأخذوا يتخافتون. ثم نهض فيهم القديس هاليتير بن نسطور المعروف بورعه وصدق نبوءته، فقال: «أيها الناس، يا أبناء إيثاكا، اسمعوا وعوا، ليحذر العشاق المعاميد ما يخبئ لهم الغيب من شر أوشك أن ينقذف على رءوسهم، إن أوديسيوس حي يرزق، وإنه عائد إلى وطنه، بل إنه ليغذ السير إلى هنا، وإنه ليحمل الموت الأحمر إلى خصومه، والخير الأخضر إلى مواطنيه، أنا هاليتير قديسكم الذي لا يكذب قد أنبأته قبل أن يبحر إلى طروادة بذلك النبأ وأنه عائد إلى وطنه بعد أن ينتصر على أعدائه، ويذيقهم ضعف ما صنعوا، ولن يجديهم أن يتوبوا أو يندموا، وليأتينكم نبؤه بعد حين.»
وسخر القوم منه واستهزءوا به، وقام يوريماك يرجمه بهذه الكلمات: «انقلب إلى دارك أيها العجوز الخرف، هلم إلى أحفادك الكسالى فتنبأ لهم بما ينبغي أن يأخذوا حذرهم منه، لقد قصف المنون عود أوديسيوس الفينان، فليته قصف عودك كذلك! طير؟! ها إن الطير طالما يستنسر في سماء إيثاكا، إن أكبر الظن أنك تطمع في منحة من ابن مولاك تليماك، ولكن أصغ إلي، لتكن لك منحة منا إن تنبأت له عما يكاد يذهب بك وبه من بطشتنا إن لم يختر لنفسه، أسمعت؟ لقد نصحنا له أن يرسل أمه إلى بيت أبيها ليختار لها الكفء الذي ترضى به فلم ينتصح، وأنا أرسلها كلمة صريحة في غير مين؛ إننا لن نبرح عاكفين على ما نحن فيه من هذا الخير حتى تخضع بنلوب فنمضي مأجورين، وثق أيها الشيخ المهيب الخرف أن نبوءاتك لن تفزعنا، بل هي تضاعف سخطنا عليك وبغضاءنا لك، ألا ما أطيب الإقامة هنا! لتزدد بنلوب عنادا؛ فإنا لن نزداد إلا جلادا.»
ونهض تليماك فقال: «على رسلك يا يوريماك، وعلى رسلكم أيها العشاق جميعا، لقد أرسلتها كلمة حق فلم تستمعوا لها، أبدا لن أضرع إليكم مرة أخرى. الآلهة بيني وبينكم، والإغريق أجمع أعلم بأمري وأمركم، غير أن لي طلبة إليكم بودي لو أنلتموني إياها؛ فهل تسمحون لي بمركب وعشرين بحارا فأقلع من فوري هذا إلى بيلوس ثم إلى أسبرطة، عسى أن أسمع خبرا عن أبي، أو أتلقف نبوءة من سيدة الأولمب الذي بيده ملكوت كل شيء. إني إذا أيقنت أن أبي لا يزال حيا فقد أوفق في العثور عليه ولو بعد حين، أما إذا استيقنت من هلاكه فإني عائد إلى إيثاكا فمقيم له نصبا يتفق وهذا المجد الباذخ والذكر التليد، ثم يكون لي مطلق الحرية في منح أحدكم يد أمي فتكون زوجه المخلصة إلى الأبد، بعد أن أتم لأبي كل المراسم الجنائزية؛ لتقر روحه العظيمة وتسكن إلى ربها في ظلال هيدز.»
7
وكان في المجتمعين رجل تبدو عليه مخايل النبل، وتتقد في رأسه جمرات المشيب، تهالك على نفسه حين وقف ينافح عن تليماك، فإذا هو الشيخ منطور الذي كان أوديسيوس قد استخلفه على أهله قبل إبحاره إلى طروادة لصداقة قوية كانت تجمع بينهما. قال منطور: «اسمعوا إلي يا أهل إيثاكا، ما لكم اليوم قد نسيتم آلاء ملككم أوديسيوس عليكم، وهو الذي كان يرعاكم كأب، ويغدق عليكم من فيضه العميم؟ ما لكم قد تقاعستم دون هؤلاء العشاق الذين يذهبون بخير مولاكم ويأكلون مال ابنه بغير الحق، وهم قل وأنتم كثر، آمنين مطمئنين، لا يرهبون أوبة مفاجئة من البطل الشريد؟»
وهاجت كلمة الرجل كوامن العشاق فهب أحدهم وهو ليوكريتوس يقول: «رويدك يا منطور! أيها الثرثارة العجول، كيف تجرؤ أيها الرجل فتثير الشعب على العشاق وهم سادتك؟ هل أعجبتك كثرتهم يا منطور؟ إذن فأبشر بعجزهم دون ما ابتغيت، وثق أن ملك إيثاكا نفسه لن يستطيع معهم شيئا إذا حاول إخراجهم من بيته هذا - إذا قدر له يوما أن يعود - إنه إذا فعل فسيذوق وبال أمره، ولن تنال منا حماقاتك ولا نبوءات هاليتير، وبنلوب نفسها لن تسر بأوبة أوديسيوس، ولكن اسمع أيها الشيخ، إنه لن يضيرنا أن يذهب تليماك فيذرع البحر باحثا عن والده، وله أن يتخير من السفن ما يشاء.»
Halaman tidak diketahui