لم ينشر ذلك البلاغ - بطبيعة الحال - ولكن ألقي القبض على الهادي نويرة يوم الاثنين 31 مارس، لقد خيروه بين الوزارة والسجن فاختار السجن.
ولم تجد السلطات الفرنسية من بين التونسيين من يرضى أن يخون وطنه، فلجأت إلى اختيار بعض صنائعها الذين ملأت بهم الإدارات التونسية، وميزتهم الجهل والأمية وطاعة الفرنسيين طاعة عمياء، ولكن شيئا من ذلك لم ينفع؛ لأن الملك كان يؤخر يوما بعد يوم تنصيب الوزارة الجديدة انتظارا لقرار مجلس الأمن في قضية تونس.
وتعددت المظاهرات الشعبية ضد الوزراء الخونة وتكررت وتنوعت، فتارة تهاجم بيوتهم، وطورا تهاجمهم في مقر وزاراتهم رغم قوات البوليس الكبيرة التي كانت تحرسها من كل جهة حتى من السطوح، وأصبح المقيم العام يتخبط ولم يجد مخرجا، خاصة وأن الاتحاد العام التونسي للشغل والمنظمات القومية كلها قررت القيام بإضراب عام يوم غرة أبريل. وقد كان الإضراب تاما شاملا، وشارك فيه الموظفون رغم تهديدات السلطات الفرنسية ووعيد الجنرال غارباي، فاختار المقيم العام ذلك اليوم نفسه لنشر ما سماه بمشروع إصلاحات، فرفضها الشعب لما فيها من اعتداءات جديدة على السيادة التونسية، وهي في حقيقتها خطوة في إلحاق تونس بفرنسا بإعطاء الجالية الفرنسية حقوقا قارة في مؤسسات الدولة التونسية.
ومرت الأيام والوزارة لم تشكل؛ لأن بكوش أطاع كعادته أسياده الفرنسيين، فسعى في تشكيل الوزارة وتكوين اللجنة المختلطة في آن واحد، وجمع يوم 7 أبريل عددا وافرا من الشخصيات التونسية وعرض عليهم عضوية تلك اللجنة، فخابت آماله وآمال أسياده؛ لأن التونسيين رفضوا بالإجماع المشاركة فيها، وفضحت الإقامة العامة مناوراتها بنفسها؛ إذ صرحت الجريدة شبه الرسمية «لابريس» يوم 8 أبريل «يعتمد بكوش على اللجنة المختلطة ليقوي وزارته.» ولما رأى البكوش فشله الذريع سعى في إتمام تشكيل وزارته، ولكن لم يتم ذلك له إلا بعد بحث مجلس الأمن لمشكلة تونس 15 / 4 / 1952.
وأعاد البكوش يوم 12 أبريل ما كان قد قاله من قبل من أن دور وزارته الأصلي هو القيام بأعمال الإدارة لا غير، ومعنى ذلك زيادة وطأة الحكم الفرنسي المباشر، وازدادت الحالة تعكرا؛ لأن بونص الكاتب العام الفرنسي للحكومة التونسية، أخذ يتحكم في نشاط الوزراء التونسيين تحكما لا يطاق، فأملى عليهم نظام دواوينهم (منشور 24 أبريل المتعلق بنظام تلك الدواوين) وحرم عليهم الاتصال بالصحافة ونشر التصريحات من تلقاء أنفسهم وإصدار البلاغات (منشور 30 أبريل).
وذهبت وعود «دي هوتكلوك» بعدم معاقبة الموظفين التونسيين الذين قادوا الإضراب، وبتهدئة الخواطر أدراج الرياح، وبقي الجو قاتما والعلاقات متوترة بين تونس وفرنسا، واستمر الإضراب العام بشدته وشموله، ولم تنقص حدة المظاهرات ضد البكوش، كما استمرت السلطات العسكرية في اعتقال التونسيين بالجملة بتونس، واتخذت الرقابة على الصحف شكلا هزليا؛ إذ تمنع من نشر أخبار يسمعها التونسيون من الإذاعة، وازداد تحرج موقف المقيم العام لما أعلن البكوش استحالة تشكيل اللجنة المختلطة في تلك الآونة ووجوب تأخير اجتماعها إلى ما بعد 24 أبريل الذي وعد به «دي هوتكلوك»، فدعته الحكومة الفرنسية إلى باريس لمحاسبته.
وأراد الفرنسيون أن يسهلوا على الوزارة الخائنة مأموريتها في تكوين تلك اللجنة التي أصبحت حيوية بالنسبة لفرنسا؛ إذ تدل بوجودها على استئناف المفاوضات بين تونس وفرنسا، فخفف الجنرال غارباي من منع التجول، فجعله يبدأ من الساعة التاسعة مساء فقط، وأطلق سراح بعض المعتقلين (119) ومنح حرية السير في الطرقات العامة التي كانت محددة وممنوعة أحيانا ، ورفع مراقبة البرقيات. ولم يمنع ذلك من قيام مظاهرات قوية ضد الوزارة يوم 14 أبريل جرح أثناءها عدد من التونسيين، وكسرت عربة الوزير الخائن دنقزلي، وقررت الوزارة الفرنسية في تلك الأثناء تعيين أعضاء اللجنة الفرنسيين (23 أبريل)، ولكن الاضطرابات استمرت وشارك فيها طلبة المدارس على نطاق واسع للغاية، فأضربوا وتظاهروا وعم التشويش البلاد كلها، ووقعت محاولة اغتيال الوزير ابن رايس، فتشددت الرقابة على الصحف واعتقل عدد من الشخصيات التونسية من بينهم الصيدلاني المعروف محمد بن حمودة والمحامي الكبير الدكتور البحري قيقة.
وأراد المقيم بعد رجوعه من باريس أن يكون جوا ملائما لأغراضه، وأن يرغب التونسيين في المشاركة في لجنته المختلطة قائلا لهم: «إن بحث مشروع الإصلاحات سيكون (في وسط اللجنة) بحثا نزيها يمكن لجميع الآراء - سواء أكانت فرنسية أم تونسية - أن تظهر بحرية، فإن كان إطار الإصلاحات ومراحلها في الزمان قد حدد، فليس معنى ذلك أن اقتراحات أعضاء اللجنة لا تقبل إذا لم تمس بذلك الإطار وبتلك المراحل.»
ولكن محاولة «دي هوتكلوك» بدلا من أن تقضي على المعارضة التي وجدها البكوش قوتها وزادتها صلابة في موقفها، وإذا بالسلطات العسكرية تمنع احتفالات ومظاهرات العمال في غرة مايو، فاشتد غضب الشعب وحنقه.
وكان النداء الذي وجهه دولة محمد شنيق من منفاه في الصحراء (30 مارس 1952) إلى حكومة الولايات المتحدة الأمريكية قد وجد بعض الصدى؛ إذ زار هنري بايرود سكرتير الدولة المساعد لشئون الشرق الأدنى تونس في طريقه إلى مصر، وحل بها 4 مايو، ثم قدم إلى وزارة الخارجية الأمريكية تقريرا ذكر فيه أنه يتوقع نشوب اضطرابات كثيرة في شمال أفريقيا، وأنه يود كثيرا مؤازرة الفرنسيين هناك على شرط أن يعطوه شيئا يستند إليه بأن يتقدم الفرنسيون بمشروع ثماني أو عشر سنوات لتونس ومراكش، يبينون فيه تماما للعرب كيف يكون اطراد تقدمهم نحو الاستقلال، وحينذاك يؤيدهم بايرود تأييدا كاملا، فيعزز بذلك مركز فرنسا في أوروبا حيث دأبت الولايات المتحدة الأمريكية على إنعاش القوى الفرنسية. على أن بايرود يخشى أن يحول ضعف فرنسا دون انتهاجها سياسة الكرم والمرونة التي تعوزها لصيانة مركزها في شمال أفريقيا، ويضرب مثلا عن ضعفها ما حدث للفرنسيين قبل توقيعهم الميثاق الألماني؛ إذ أثاروا ضجة كبرى حولهم حتى أصبحوا في مركز مشين، وبعد ذلك أمضوا الميثاق بدون قيد ولا شرط. وهذه الغريزة التي تدفع الفرنسيين إلى عمل الأشياء غير المحببة واتخاذ المظاهر العدائية، قد تؤدي بهم في أفريقيا كما أودت بهم في أوروبا، ويقوم بايرود بمساعيه لدى باريس وهو متمسك بفكرته بكل قواه.
Halaman tidak diketahui