ما إسمُ سَمى عَن خاطِرِ الأَوهامِ ... وَنَدَ عَن غَيرِ ذوي الإِلمامِ
هذا شرع في تركيب السؤال على وجه الألغاز والإجمال، وحقيقة اللغز لغة على ما ذكره في القاموس، ميلك بالشيء عن وجهه بالضم والألغوزة ما يعني به والغز كلامه وفيه عمى مراده، وقال الشريف في تعريفاته: اللغز مثل المعمى إلا أنه يجيء على طريقة السؤال كقول الحريري في الخمر:
وَما شيءٌ إذا فَسَدا ... تَحولُ غَيهُ رُشدا
وقال بعض المحققين في حواشي شرح المفتاح: الألغاز والتعمية يطلق على قصد الدلالة بالألفاظ دلالة عقلية بالغة في مراكز الخفي بحيث يصعب الانتقال منه إلى تلك المدلولات العقلية. وهذا أوان الشروع في تفسير الأبيات مستعينين بالله عزوجل، فتقول قوله سمى أي ارتفع وخاطر الأوهام يحتمل أن تكون الإضافية بيانية وأن يكون استعارة بالكناية، شبه الأوهام بذي الخاطر تشبيها مضمرا وأثبت من أمور لوازمه الخاطر والمعنى أن الأفهام قصرت عن إدراك حقيقته، ومعرفة هويته وهو كذلك كما تقدمت الإشارة غليه في المقدمة حتى تفرقت فيه المذاهب، وتباينت الآراء، ولم يعثر على فص الأمر وحقيقة الواقع إلا البعض اليسير المشار إليه بقوله: وند عن غير ذوي الإلمام، أي أهل القرب من الله والصفوة من عباده وندى من ند البعير، يند ندا إذا شرد ونفر.
قَد وَسَعَ العالَمُ طَرًا صَدرَهُ ... وَفاضَ في بَرٍ وَبحرٍ بَرَهُ
يعني أن الروح الذي هو الحقيقة الإنسانية قد وسع صدره جميع العالم كما وسعت المرأة صور ما قابلها وهو المعنى الذي أراده الشاعر بقوله:
وَتحسَبُ أَنّكَ خَلقٌ ضَعيفُ ... وَفيكَ اِنطوى العالَمُ الأَكبَرُ
قال بعض العارفين: لما كان الإنسان حقيقة جامعة بحقائق العالم لطيفة وكثيفة قد جمع في تركيبه جميع معاني الموجودات من البسائط والمركبات لأنه مركب من جسد غليظ جسمان ومن نفس بسطية روحانية، فمن أجل هذا سمي الإنسان عالمًا صغيرًا، والعالم إنسانا كبيرًا فإذا عزم على معرفة الموجودات ابتدأ بمعرفة نفسه التي أقرب الأشياء إليه، ثم بعد ذلك سائر الأشياء: قلت: وإليه يشير الحديث في قوله ﷺ: من عرف نفسه عرف ربه، وتفصيل ذلك منوط في موضعه، ويحتمل أن يكون معنى البيت أنه لإحاطته بالعلوم والمعارف قد وسع صدره علم حقائق الموجودات، وهو معنى ما تقدم ذكره في المقدمة من أن النفس عالمة لجميع المعقولات بالقوة فتستفيض المعاني وتفيضها بمجرد الصفاء الخ. ومعنى فيضان بره في البر والبحر أنه لما كان مظهرا للخلافة الإلهية التي ذكرها الله عزوجل في كتابه الكريم بقوله: (إِني جاعِلٌ في الأَرضِ خَليفَة) ترتب على ذلك ظهور نعم الله على عباده بما أكرمهم من أنواع الإحسان وحباهم بأصناف البر والامتنان غير منقطع عنهم، في كل زمان ومكان، والإضافة في بره من إضافة المصدر إلى مفعوله ويحتمل أن الروح الإنساني لما كان من شأنه إفاضة أنواع الخيرات وطبعه الميل إلى الباقيات الصالحات وصف بكونه مفيضا لبره بالبر والبحر إذ هو لباب القشر وخلاصة السر.
يَنظُر بِالعَينِ إِلى إنسانِها ... وَيُطَبَقُ الطَرفُ عَلى أَجفانِها
قد علمت مما سبق أن النفس لما تعلقت بالبدن وعبر عنها كل أحد بقوله: إنا سقط عليها أنها إذا نظرت بالعين التي هي آلة تدرك بها حقائق المبصرات أدركت حينئذ من جملة ذلك إنسانها الذي هو هيكلها أو إنسان عينها على حذف مضامين أي إنسان عين جنسها، ثم وصفها بكونها تطبق الطرف الذي هو العين على أجفانها، فالضمير يعود إلى الطرف يطلق على معنى واحد وهو قوة مركبة في العصبتين اللتين تلتقيان فتفترقان إلى العينين.
تَصيخُ بِالأُذنِ إِلى صَماخِها ... وَتَخرُجُ البَيضَةُ مِن فِراخِها
1 / 15