بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه نستعين
الْحَمد لله الْعلي الْعَظِيم الْحَلِيم الْكَرِيم الغفور الرَّحِيم
الْحَمد لله رب الْعَالمين الرَّحْمَن الرَّحِيم مَالك يَوْم الدّين أظهر خلق الْإِنْسَان من سلالة من طين ثمَّ جعله نُطْفَة فِي قَرَار مكين ثمَّ خلق النُّطْفَة علقَة سَوْدَاء للناظرين ثمَّ خلق الْعلقَة مُضْغَة وَهِي قِطْعَة لحم بِقدر أَكلَة الماضغين ثمَّ خلق المضغة عظاما مُخْتَلفَة الْمَقَادِير والأشكال وَالْمَنَافِع أساسا يقوم عَلَيْهِ هَذَا الْبناء الْمُبين ثمَّ كسا الْعِظَام لَحْمًا هُوَ لَهَا كَالثَّوْبِ للابسين ثمَّ أنشأه خلقا آخر فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ
فسبحان من شملت قدرته كل مَقْدُور وَجَرت مَشِيئَته فِي خلقه بتصاريف الْأُمُور وَتفرد بِملك السَّمَوَات وَالْأَرْض يخلق مَا يَشَاء ﴿يهب لمن يَشَاء إِنَاثًا ويهب لمن يَشَاء الذُّكُور﴾ الشورى ٤٩ وتبارك الْعلي الْعَظِيم الْحَلِيم الْكَرِيم السَّمِيع الْبَصِير الْعَلِيم ﴿هُوَ الَّذِي يصوركم فِي الْأَرْحَام كَيفَ يَشَاء لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ آل عمرَان ٣
1 / 3
وَأشْهد أَن لَا اله إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ إِلَهًا جلّ عَن المثيل والنظير وَتَعَالَى عَن الشَّرِيك والظهير وتقدس عَن شبه خلقه فَلَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير
وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله وَخيرته من خلقه وأمنيه على وحيه وحجته على عباده أرْسلهُ رَحْمَة للْعَالمين وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين وَحجَّة على الْعباد أَجْمَعِينَ فهدى من الضَّلَالَة وَعلم بِهِ من الْجَهَالَة وَكثر بِهِ بعد الْقلَّة وأعز بِهِ بعد الذلة وأغنى بِهِ بعد الْعيلَة وَفتح برسالته أعينا عميا وآذانا صمًّا وَقُلُوبًا غلفًا فَبلغ الرسَالَة وَأدّى الْأَمَانَة ونصح الْأمة حَتَّى وضحت شرائع الْأَحْكَام وَظَهَرت شرائع الْإِسْلَام وَعز حزب الرَّحْمَن وذل حزب الشَّيْطَان فأشرق وَجه الدَّهْر حسنا واصبح الظلام ضِيَاء واهتدى كل حيران فصلى الله وَمَلَائِكَته وأنبياؤه وَرُسُله وعباده الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِ كَمَا وَجه الله وَعرف بِهِ ودعا إِلَيْهِ وَعَلِيهِ السَّلَام وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته
أما بعد فان الله سُبْحَانَهُ نوع أَحْكَامه على الْإِنْسَان من حِين خُرُوجه إِلَى هَذِه الدَّار إِلَى حِين يسْتَقرّ فِي دَار الْقَرار وَقبل ذَلِك وَهُوَ فِي الظُّلُمَات
1 / 4
الثَّلَاث كَانَت أَحْكَامه الْقَدَرِيَّة جَارِيَة عَلَيْهِ ومنتهية إِلَيْهِ فَلَمَّا انْفَصل عَن أمه تعلّقت بِهِ أَحْكَامه الأمرية وَكَانَ الْمُخَاطب بهَا الْأَبَوَيْنِ أَو من يقوم مقامهما فِي تَرْبِيَته وَالْقِيَام عَلَيْهِ فَللَّه سُبْحَانَهُ فِيهِ أَحْكَام قيمه بهَا مَا دَامَ تَحت كفَالَته فَهُوَ المطالب بهَا دونه حَتَّى إِذا بلغ حد التَّكْلِيف تعلّقت بِهِ الْأَحْكَام وَجَرت عَلَيْهِ الأقلام وَحكم لَهُ بِأَحْكَام أهل الْكفْر وَأهل الْإِسْلَام وَأخذ فِي التأهب لمنازل السُّعَدَاء أَو دَار الأشقياء فتطوى بِهِ مراحل الْأَيَّام والليالي إِلَى الدَّار الَّتِي كتب من أَهلهَا وَيسر فِي مراحله تِلْكَ لأسبابها وَاسْتعْمل بعملها فَإِذا انْتهى بِهِ السّير إِلَى آخر مرحلة أشرف مِنْهَا على الْمسكن الَّذِي عمر لَهُ قبل إيجاده إِمَّا منزل شقوته وَإِمَّا منزل سعادته فهناك يضع عَصا السّفر عَن عَاتِقه ويستقر نَوَاه وَتصير دَار الْعدْل مَأْوَاه أَو دَار السَّعَادَة مثواه
فصل
وَهَذَا كتاب قصدنا فِيهِ ذكر أَحْكَام الْمَوْلُود الْمُتَعَلّقَة بِهِ بعد وِلَادَته مَا دَامَ صَغِيرا من عقيقته وأحكامها وَحلق رَأسه وتسميته وختانه وبوله وثقب أُذُنه وَأَحْكَام تَرْبِيَته وأطواره من حِين كَونه نُطْفَة إِلَى مستقره فِي الْجنَّة أَو النَّار فجَاء كتابا نَافِعًا فِي مَعْنَاهُ مُشْتَمِلًا من الْفَوَائِد على مَا لَا يكَاد يُوجد بسواه من نكت بديعة من التَّفْسِير وَأَحَادِيث تَدْعُو
1 / 5
الْحَاجة إِلَى مَعْرفَتهَا وعللها وَالْجمع بَين مختلفها ومسائل فقهية لَا يكَاد الطَّالِب يظفر بهَا وفوائد حكمِيَّة تشتد الْحَاجة إِلَى الْعلم بهَا فَهُوَ كتاب ممتع لقارئه معجب للنَّاظِر فِيهِ يصلح للمعاش والمعاد وَيحْتَاج إِلَى مضمونه كل من وهب لَهُ شَيْء من الْأَوْلَاد وَمن الله أَسْتَمدّ السداد وأسأله التَّوْفِيق لسبل الرشاد انه كريم جواد وسميته
تحفة المودود بِأَحْكَام الْمَوْلُود
وَالله سُبْحَانَهُ المسؤول أَن يَجعله خَالِصا لوجهه الْكَرِيم انه حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل وَجَعَلته سَبْعَة عشر بَابا
١ - الْبَاب الأول فِي اسْتِحْبَاب طلب الْأَوْلَاد
٢ - الْبَاب الثَّانِي فِي كَرَاهَة تسخط مَا وهب الله لَهُ من الْبَنَات
٣ - الْبَاب الثَّالِث فِي اسْتِحْبَاب بِشَارَة من ولد لَهُ ولد
٤ - الْبَاب الرَّابِع فِي اسْتِحْبَاب الْأَذَان وَالْإِقَامَة فِي أُذُنه
٥ - الْبَاب الْخَامِس فِي اسْتِحْبَاب تحنيكه
٦ - الْبَاب السَّادِس فِي الْعَقِيقَة وأحكامها وَذكر الِاخْتِلَاف فِي وُجُوبهَا وَحجَّة التَّابِعين
1 / 6
٧ - الْبَاب السَّابِع فِي حلق رَأسه وَالتَّصَدُّق بزنة شعره
٨ - الْبَاب الثَّامِن فِي ذكر تَسْمِيَته ووقتها ووجوبها
٩ - الْبَاب التَّاسِع فِي ختان الْمَوْلُود وَأَحْكَامه
١٠ - الْبَاب الْعَاشِر فِي ثقب أذن الذّكر وَالْأُنْثَى وَحكمه
١١ - الْبَاب الْحَادِي عشر فِي حكم بَوْل الْغُلَام وَالْجَارِيَة قبل أكلهما الطَّعَام
١٢ - الْبَاب الثَّانِي عشر فِي حكم ريق الرَّضِيع ولعابه وَهل هُوَ طَاهِر أَو نجس لِأَنَّهُ لَا يغسل فَمه مَعَ كَثْرَة قيئه
١٣ - الْبَاب الثَّالِث عشر فِي جَوَاز حمل الْأَطْفَال فِي الصَّلَاة وان لم يعلم حَال ثِيَابهمْ
١٤ - الْبَاب الرَّابِع عشر فِي اسْتِحْبَاب تَقْبِيل الْأَطْفَال والأهل
١٥ - الْبَاب الْخَامِس عشر فِي وجوب تَأْدِيب الْأَوْلَاد وتعليمهم وَالْعدْل بَينهم
١٦ - الْبَاب السَّادِس عشر فِي ذكر فُصُول نافعة فِي تربية الْأَطْفَال
١٧ - الْبَاب السَّابِع عشر فِي أطوار الطِّفْل من حِين كَونه نُطْفَة إِلَى وَقت دُخُوله الْجنَّة أَو النَّار
1 / 7
الْبَاب الأول
فِي اسْتِحْبَاب طلب الْوَلَد
قَالَ الله تَعَالَى ﴿فَالْآن باشروهن وابتغوا مَا كتب الله لكم﴾ الْبَقَرَة ١٨٧ فروى شُعْبَة عَن الحكم عَن مُجَاهِد قَالَ هُوَ الْوَلَد وَقَالَهُ الحكم وَعِكْرِمَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالسُّديّ وَالضَّحَّاك
وَأَرْفَع مَا فِيهِ مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن سعد عَن أَبِيه حَدثنِي عمي حَدثنِي أبي عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ هُوَ الْوَلَد وَقَالَ ابْن زيد هُوَ الْجِمَاع وَقَالَ قَتَادَة ابْتَغوا الرُّخْصَة الَّتِي كتب الله لكم وَعَن ابْن عَبَّاس رِوَايَة أُخْرَى قَالَ لَيْلَة الْقدر
1 / 8
وَالتَّحْقِيق أَن يُقَال لما خفف الله عَن الْأمة بِإِبَاحَة الْجِمَاع لَيْلَة الصَّوْم إِلَى طُلُوع الْفجْر وَكَانَ المجامع يغلب عَلَيْهِ حكم الشَّهْوَة وَقَضَاء الوطر حَتَّى لَا يكَاد يخْطر بِقَلْبِه غير ذَلِك أرشدهم سُبْحَانَهُ إِلَى أَن يطلبوا رِضَاهُ فِي مثل هَذِه اللَّذَّة وَلَا يباشروها بِحكم مُجَرّد الشَّهْوَة بل يَبْتَغُوا بهَا مَا كتب الله لَهُم من الْأجر
وَالْولد الَّذِي يخرج من أصلابهم يعبد الله لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا ويبتغوا مَا أَبَاحَ الله لَهُم من الرُّخْصَة بِحكم محبته لقبُول رخصه فَإِن الله يحب أَن يُؤْخَذ بِرُخصِهِ كَمَا يكره أَن تُؤْتى مَعْصِيَته وَمِمَّا كتب لَهُم لَيْلَة الْقدر وَأمرُوا أَن يبتغوها لَكِن يبْقى أَن يُقَال فَمَا تعلق ذَلِك بِإِبَاحَة مُبَاشرَة أَزوَاجهم فَيُقَال فِيهِ إرشاد إِلَى أَن لَا يشغلهم مَا أُبِيح لَهُم من الْمُبَاشرَة عَن طلب هَذِه اللَّيْلَة الَّتِي هِيَ خير من ألف شهر فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُول اقضوا وطركم من
1 / 9
نساءكم لَيْلَة الصّيام وَلَا يشغلكم ذَلِك عَن ابْتِغَاء مَا كتب الله لكم من هَذِه اللَّيْلَة الَّتِي فَضلكُمْ الله بهَا وَالله أعلم
وَعَن انس قَالَ كَانَ رَسُول الله ﷺ يَأْمر بِالْبَاءَةِ وَينْهى عَن التبتل نهيا شَدِيدا وَيَقُول «تزوجوا الْوَدُود الْوَلُود فَإِنِّي مُكَاثِر بكم الْأَنْبِيَاء يَوْم الْقِيَامَة» رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَأَبُو حَاتِم فِي صَحِيحَة
وَعَن معقل بن يسَار قَالَ جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي ﷺ فَقَالَ إنى
1 / 10
أصبت امْرَأَة ذَات حسن وجمال وَإِنَّهَا لَا تَلد أفأتزوجها قَالَ لَا ثمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَة فَنَهَاهُ ثمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَة فَقَالَ تزوجوا الْوَلُود فَإِنِّي مُكَاثِر بكم رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ
وَعَن عبد الله بن عَمْرو أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ أنكحوا أُمَّهَات الْأَوْلَاد فَإِنِّي أباهي بكم يَوْم الْقِيَامَة رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد
وَعَن عَائِشَة قَالَت قَالَ رَسُول الله ﷺ النِّكَاح من سنتي وَمن لم يعْمل بِسنتي فَلَيْسَ مني وَتَزَوَّجُوا فَإِنِّي مُكَاثِر بكم الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة
وَقد روى حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَاصِم عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي ﷺ قَالَ إِن العَبْد لترفع لَهُ الدرجَة فَيَقُول أَي رب أَنى لي هَذَا فَيَقُول باستغفار ولدك لَك من بعْدك
1 / 11
فصل
وَمِمَّا يرغب فِي الْوَلَد مَا رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه عَن أبي حسان قَالَ توفّي ابْنَانِ لي فَقلت لأبي هُرَيْرَة سَمِعت من رَسُول الله ﷺ حَدِيثا تحدثناه تطيب بِهِ أَنْفُسنَا عَن مَوتَانا قَالَ نعم صغارهم دعاميص الْجنَّة يتلَقَّى أحدهم أَبَاهُ أَو قَالَ أَبَوَيْهِ فَيَأْخُذ بِنَاحِيَة ثَوْبه أَو يَده كَمَا آخذ أَنا بصنفة ثَوْبك هَذَا فَلَا يتناهى حَتَّى يدْخلهُ الله وأباه الْجنَّة
وَقَالَ أَحْمد حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا شُعْبَة عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن أَبِيه أَن رجلا كَانَ يَأْتِي النَّبِي ﷺ وَمَعَهُ ابْن لَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِي ﷺ أَتُحِبُّهُ فَقَالَ يَا رَسُول الله أحبك الله كَمَا أحبه فَفَقدهُ النَّبِي ﷺ فَقَالَ مَا فعل ابْن فلَان قَالُوا يَا رَسُول الله مَاتَ فَقَالَ النَّبِي ﷺ لِأَبِيهِ أما تحب أَن لَا تَأتي بَابا من أَبْوَاب الْجنَّة إِلَّا وجدته ينتظرك
1 / 12
عَلَيْهِ فَقَالَ رجل أَله خَاصَّة يَا رَسُول الله أَو لكلنا قَالَ بل لكلكم
قَالَ أَحْمد وَحدثنَا عبد الله حَدثنَا عبد ربه بن بارق الْحَنَفِيّ حَدثنَا أَبُو زميل الْحَنَفِيّ قَالَ سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول من كَانَ لَهُ فرطان من أمتِي دخل الْجنَّة فَقَالَت عَائِشَة رصي الله عَنْهَا بِأبي أَنْت وَأمي فَمن كَانَ لَهُ فرط فَقَالَ وَمن كَانَ لَهُ فرط يَا موفقة قَالَت فَمن لم يكن لَهُ فرط فِي أمتك قَالَ فَأَنا فرط أمتِي لم يصابوا بمثلي
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ للنِّسَاء مَا مِنْكُن امْرَأَة يَمُوت لَهَا ثَلَاثَة من الْوَلَد إِلَّا كَانُوا لَهَا حِجَابا من النَّار فَقَالَت امْرَأَة وَاثْنَانِ فَقَالَ ﷺ وَاثْنَانِ وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة نَحوه وَرَوَاهُ عَن النَّبِي ﷺ ابْن مَسْعُود وَأَبُو بزْرَة الْأَسْلَمِيّ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي ﷺ مَا من
1 / 13
مُسلم يَمُوت لَهُ ثَلَاثَة من الْوَلَد لم يبلغُوا الْحِنْث فَتَمَسهُ النَّار إِلَّا تَحِلَّة الْقسم
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ من حَدِيث أنس قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ مَا من النَّاس مُسلم يَمُوت لَهُ ثَلَاثَة من الْوَلَد لم يبلغُوا الْحِنْث إِلَّا أدخلهُ الله الْجنَّة بِفضل رَحمته إيَّاهُم وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ أَتَت امْرَأَة بصبي لَهَا فَقَالَت يَا نَبِي الله أدع الله لَهُ فَلَقَد دفنت ثَلَاثَة فَقَالَ دفنت ثَلَاثَة قَالَت نعم قَالَ لقد احتظرت بحظار شَدِيد من النَّار فَالْوَلَد انه إِن عَاشَ بعد أَبَوَيْهِ نفعهما وان مَاتَ قبلهمَا نفعهما
وَقد روى مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ إِذا مَاتَ الْإِنْسَان انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاث صَدَقَة جَارِيَة أَو علم ينْتَفع بِهِ أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ
1 / 14
فان قيل مَا تَقولُونَ فِي قَوْله ﷿ ﴿وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع فَإِن خِفْتُمْ أَلا تعدلوا فَوَاحِدَة أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم ذَلِك أدنى أَلا تعولُوا﴾ النِّسَاء ٣
قَالَ الشَّافِعِي إِن لَا تكْثر عيالكم فَدلَّ على أَن قلَّة الْعِيَال أولى قيل قد قَالَ الشَّافِعِي ﵀ ذَلِك وَخَالفهُ جُمْهُور الْمُفَسّرين من السّلف وَالْخلف وَقَالُوا معنى الْآيَة ذَلِك أدنى أَن لَا تَجُورُوا وَلَا تميلوا فانه يُقَال عَال الرجل يعول عولا إِذا مَال وجار وَمِنْه عول الْفَرَائِض لِأَن سهامها إِذا زَادَت دَخلهَا النَّقْص وَيُقَال عَال يعيل عيلة إِذا احْتَاجَ قَالَ تَعَالَى ﴿وَإِن خِفْتُمْ عيلة فَسَوف يغنيكم الله من فَضله إِن شَاءَ إِن الله عليم حَكِيم﴾ التَّوْبَة ٢٨ وَقَالَ الشَّاعِر
(وَمَا يدْرِي الْفَقِير مَتى غناهُ ... وَمَا يدْرِي الْغَنِيّ مَتى يعيل)
1 / 15
أَي مَتى يحْتَاج ويفتقر
وَأما كَثْرَة الْعِيَال فَلَيْسَ من هَذَا وَلَا من هَذَا وَلكنه من أفعل يُقَال أعال الرجل يعيل إِذا كثر عِيَاله مثل ألبن وأتمر إِذا صَار ذَا لبن وتمر هَذَا قَول أهل اللُّغَة
قَالَ الواحدي فِي بسيطه وَمعنى تعولُوا تميلوا وتجوروا عَن جَمِيع أهل التَّفْسِير واللغة وَرُوِيَ ذَلِك مَرْفُوعا رَوَت عَائِشَة ﵂ عَن النَّبِي ﷺ فِي قَوْله ذَلِك أَن لَا تعولُوا قَالَ أَن لَا تَجُورُوا وَرُوِيَ أَن لَا تميلوا قَالَ وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَقَتَادَة وَالربيع وَالسُّديّ وَأبي مَالك وَعِكْرِمَة وَالْفراء والزجاج وَابْن قُتَيْبَة وَابْن الأنبا ري
قلت وَيدل على تعين هَذَا الْمَعْنى من الْآيَة وان كَانَ مَا ذكره الشَّافِعِي ﵀ لُغَة حَكَاهَا الْفراء عَن الْكسَائي أَنه قَالَ وَمن الصَّحَابَة
1 / 16
من يَقُول عَال يعول إِذا كثر عِيَاله قَالَ الْكسَائي وَهُوَ لُغَة فصيحة سَمعتهَا من الْعَرَب لَكِن يتَعَيَّن الأول لوجوه
أَحدهَا أَنه الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة الَّذِي لَا يكَاد يعرف سواهُ وَلَا يعرف عَال يعول إِذا كثر عِيَاله إِلَّا فِي حِكَايَة الْكسَائي وَسَائِر أهل اللُّغَة على خِلَافه
الثَّانِي أَن هَذَا مَرْوِيّ عَن النَّبِي ﷺ وَلَو كَانَ من الغرائب فانه يصلح للترجيح
الثَّالِث أَنه مَرْوِيّ عَن عَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَلم يعلم لَهما مُخَالف من الْمُفَسّرين وَقد قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله تَفْسِير الصَّحَابِيّ عندنَا فِي حكم الْمَرْفُوع
الرَّابِع أَن الْأَدِلَّة الَّتِي ذَكرنَاهَا على اسْتِحْبَاب تزوج الْوَلُود وأخبار النَّبِي ﷺ أَنه يكاثر بأمته الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة يرد هَذَا التَّفْسِير
الْخَامِس أَن سِيَاق الْآيَة إِنَّمَا هُوَ فِي نقلهم مِمَّا يخَافُونَ الظُّلم والجور فِيهِ إِلَى غَيره فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَولهَا ﴿وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع﴾ النِّسَاء ٤ فدلهم سُبْحَانَهُ
1 / 17
على مَا يتخلصون بِهِ من ظلم الْيَتَامَى وَهُوَ نِكَاح مَا طَابَ لَهُم من النِّسَاء البوالغ وأباح لَهُم مِنْهُ ثمَّ دلهم على مَا يتخلصون بِهِ من الْجور وَالظُّلم فِي عدم التَّسْوِيَة بَينهُنَّ فَقَالَ ﴿فَإِن خِفْتُمْ أَلا تعدلوا فَوَاحِدَة أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم﴾ النِّسَاء ٤ ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ أَن الْوَاحِدَة وَملك الْيَمين أدنى إِلَى عدم الْميل والجور وَهَذَا صَرِيح فِي الْمَقْصُود
السَّادِس أَنه لَا يلتئم قَوْله ﴿فَإِن خِفْتُمْ أَلا تعدلوا﴾ فِي الْأَرْبَع فانكحوا وَاحِدَة أَو تسروا مَا شِئْتُم بِملك الْيَمين فان ذَلِك أقرب إِلَى أَن لَا تكْثر عيالكم بل هَذَا أَجْنَبِي من الأول فَتَأَمّله
السَّابِع أَنه من الْمُمْتَنع أَن يُقَال لَهُم إِن خِفْتُمْ أَن أَلا تعدلوا بَين الْأَرْبَع فلكم أَن تتسروا بِمِائَة سَرِيَّة وَأكْثر فانه أدنى أَن لَا تكْثر عيالكم
الثَّامِن أَن قَوْله ﴿ذَلِك أدنى أَلا تعولُوا﴾ تَعْلِيل لكل وَاحِد من الْحكمَيْنِ الْمُتَقَدِّمين وهما نقلهم من نِكَاح الْيَتَامَى إِلَى نِكَاح النِّسَاء البوالغ وَمن نِكَاح الْأَرْبَع إِلَى نِكَاح الْوَاحِدَة أَو ملك الْيَمين وَلَا يَلِيق تَعْلِيل ذَلِك بعلة الْعِيَال
التَّاسِع أَنه سُبْحَانَهُ قَالَ ﴿فَإِن خِفْتُمْ أَلا تعدلوا﴾ وَلم يقل وان خِفْتُمْ أَنا تفتقروا أَو تحتاجوا وَلَو كَانَ المُرَاد قلَّة الْعِيَال لَكَانَ الْأَنْسَب أَن يَقُول ذَلِك
1 / 18
الْعَاشِر أَنه سُبْحَانَهُ إِذا ذكر حكما مَنْهِيّا عَنهُ وَعلل النَّهْي بعلة أَو أَبَاحَ شَيْئا وَعلل عَدمه بعلة فَلَا بُد أَن تكون الْعلَّة مصادفة لضد الحكم الْمُعَلل وَقد علل سُبْحَانَهُ إِبَاحَة نِكَاح غير الْيَتَامَى والاقتصار على الْوَاحِدَة أَو مَا ملك الْيَمين بِأَنَّهُ أقرب إِلَى عدم الْجور وَمَعْلُوم أَن كَثْرَة الْعِيَال لَا تضَاد عدم الحكم الْمُعَلل فَلَا يحسن التَّعْلِيل بِهِ
1 / 19
الْبَاب الثَّانِي
فِي كَرَاهَة تسخط الْبَنَات
قَالَ الله تَعَالَى ﴿لله ملك السَّمَاوَات وَالْأَرْض يخلق مَا يَشَاء يهب لمن يَشَاء إِنَاثًا ويهب لمن يَشَاء الذُّكُور أَو يزوجهم ذكرانا وإناثا وَيجْعَل من يَشَاء عقيما إِنَّه عليم قدير﴾ الشورى ٤٩ ٥٠
فقسم سُبْحَانَهُ حَال الزَّوْجَيْنِ إِلَى أَرْبَعَة أَقسَام اشْتَمَل عَلَيْهَا الْوُجُود وَأخْبر أَن مَا قدره بَينهمَا من الْوَلَد فقد وهبهما إِيَّاه وَكفى بِالْعَبدِ تعرضا لمقته أَن يتسخط مَا وهبه وَبَدَأَ سُبْحَانَهُ بِذكر الْإِنَاث فَقيل جبرا لَهُنَّ لأجل استثقال الْوَالِدين لمكانهن وَقيل وَهُوَ أحسن إِنَّمَا قدمهن لِأَن سِيَاق الْكَلَام أَنه فَاعل مَا يَشَاء لَا مَا يَشَاء الأبوان فان الْأَبَوَيْنِ لَا يُريدَان إِلَّا الذُّكُور غَالِبا وَهُوَ سُبْحَانَهُ قد أخبر أَنه يخلق مَا يَشَاء فَبَدَأَ بِذكر الصِّنْف الَّذِي يَشَاء وَلَا يُريدهُ الأبوان
وَعِنْدِي وَجه آخر وَهُوَ أَنه سُبْحَانَهُ قدم مَا كَانَت تؤخره الْجَاهِلِيَّة
1 / 20
من أَمر الْبَنَات حَتَّى كَانُوا يئدوهن أَي هَذَا النَّوْع الْمُؤخر عنْدكُمْ مقدم عِنْدِي فِي الذّكر وَتَأمل كَيفَ نكر سُبْحَانَهُ الْإِنَاث وَعرف الذُّكُور فجبر نقص الْأُنُوثَة بالتقديم وجبر نقص التَّأْخِير بالتعريف فَإِن التَّعْرِيف تنويه كَأَنَّهُ قَالَ ويهب لمن يَشَاء الفرسان الْأَعْلَام الْمَذْكُورين الَّذين لَا يخفون عَلَيْكُم ثمَّ لما ذكر الصِّنْفَيْنِ مَعًا قدم الذُّكُور إِعْطَاء لكل من الجنسين حَقه من التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير وَالله أعلم بِمَا أَرَادَ من ذَلِك
وَالْمَقْصُود أَن التسخط بالإناث من أَخْلَاق الْجَاهِلِيَّة الَّذين ذمهم الله تَعَالَى فِي قَوْله ﴿وَإِذا بشر أحدهم بِالْأُنْثَى ظلّ وَجهه مسودا وَهُوَ كظيم يتَوَارَى من الْقَوْم من سوء مَا بشر بِهِ أيمسكه على هون أم يدسه فِي التُّرَاب أَلا سَاءَ مَا يحكمون﴾ النَّحْل ٥٨ ٥٩ وَقَالَ ﴿وَإِذا بشر أحدهم بِمَا ضرب للرحمن مثلا ظلّ وَجهه مسودا وَهُوَ كظيم﴾ الزخرف ١٧ وَمن هَاهُنَا عبر بعض المعبرين لرجل قَالَ لَهُ رَأَيْت كَأَن وَجْهي أسود فَقَالَ أَلَك امْرَأَة حَامِل قَالَ نعم قَالَ تَلد لَك أُنْثَى
وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أنس بن مَالك قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ
1 / 21
من عَال جاريتين حَتَّى تبلغا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة أَنا وَهُوَ هَكَذَا وَضم إصبعيه
وروى عبد الرَّزَّاق أخبرنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة قَالَت جَاءَت امْرَأَة وَمَعَهَا ابنتان لَهَا تَسْأَلنِي فَلم تَجِد عِنْدِي شَيْئا غير تَمْرَة وَاحِدَة فأعطيتها إِيَّاهَا فأخذتها فشقتها بَين ابنتيها وَلم تَأْكُل مِنْهَا شَيْئا ثمَّ قَامَت فَخرجت هِيَ وابنتاها فَدخل رَسُول الله ﷺ على تفيئة ذَلِك فَحَدَّثته حَدِيثهَا فَقَالَ رَسُول الله ﷺ من ابْتُلِيَ من هَذِه الْبَنَات بِشَيْء فَأحْسن إلَيْهِنَّ كن لَهُ سترا من النَّار رَوَاهُ ابْن الْمُبَارك عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عَن عُرْوَة وَهُوَ فِي الصَّحِيح والْحَدِيث فِي مُسْند أَحْمد
وَفِيه أَيْضا من حَدِيث أَيُّوب بن بشير الْأنْصَارِيّ عَن أبي سعيد
1 / 22