267

Tuhfat Asmac

تحفة الأسماع والأبصار

رضيت قسرا وعلى القسر رضا .... من كان ذا سخط على صرف القضاء ومن عجايب ما نذكره، أنه قد يتفق في هذه الديار الخريف في نزول نار من السماء، يرونها كالدخان العظيم المجتمع في جو السماء، يركمه الرياح بعضه على بعض ثم ينزل مجتمعا، وهم يرونه بأعينهم حتى يقع على الأرض، فإن أصاب بيوتا أحرقها، وإن وقع على نفوس أهلكها، وهذا لم نشاهده عيانا، وإنما رواه لنا بعض جماعتنا المصاحبين كان مترحا في البادية، فوقع ذلك في تلك المحلة التي كان فيها، ولما روى لنا ذلك سألنا عنه كثيرا من أهل تلك الديار، فأخبرونا أن ذلك شيء معروف، وأمر ظاهر مشكوف، فسبحان الملك القدير، المخوف بآياته، المظهر لعباده[92/أ] ما أراهم من دلايل نقماته وسطواته: {إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } ولما انقضت أيام الخريف، رجعنا إلى مذاكرة الملك، ومطالبته في شأن السفر، والحث له على الوفاء الذي هو أطيب ما تضمنته السير، وأفضل ما ذكره في طي الذكر، فرجع إلى تلك المماطلات الكذبية، والمواعيد العرقوبية، وغالب أحوالهم أنهم يعدون الكذب شعارا ودثارا، ويتعاملون به ولا يرونه عارا وبوارا، ونحن في خلال هذه الإقامة، نطلب من نجتمع به من أهل شريعتهم وقراء كتابهم، فلم نجد أحدا ممن يعرف بذلك، إلا من كان منهم تسمى باسم الرهبانية والأغلب عليهم عدم الإطلاع على أحكام شريعتهم، وإنما طريقتهم الزهادة، والعبادة والميل إلى الخلوة، واجتناب الأنكحة، فأما هؤلاء فكثير جاءنا منهم، وكنا نخوض معهم في أشياء من علوم الشريعة، فلم نجد عندهم ما يعرف به كونهم من أهل علمهم، فإن محاورة العالم لا تخفى، وقد كان بلغ إلينا خبر رجل عظيم من عظماء القسيسين وأحبارهم الذين يأخذون عنهم أحكام الدين، ولكنه وقع في قضية اقتضت حبسه بيد الملك، والأخذ عليها بالتضييق الشديد في جزيرة من جزر النيل، وها نحن نذكر ما بلغ إلينا من أمره، وهو أن القسيس المذكور رجل من القبط من أهل مصر، والقاعدة التي جرت عليها سنتهم أنه لا يقعد في هذا المقعد إلا رجل من القبط بأمر البترك صاحب بيت المقدس يوليه ذلك، ويبعث به إلى أرض الحبشة، نصت على ذلك سنن الماضين، واحتذاه من خلفهم الآخرين، ولسان هؤلاء القبط لسان عربي فصيح ويخرج من مصر وكتاب الإنجيل معه مكتوب بالعربي، وجميع ما يستصحبه من كتب شريعتهم وأحكام دينهم كذلك مكتوب بالعربي أيضا، ومن تصدر لهذا الشأن يسمونه بلغة الحبشة الأبوان، كما يقال في لغة العرب: القاضي وحين يستقر في هذه المرتبة، يشارك الملك في نصف ما يجبى إليه من ولايته من قليل وجليل، وعظم ملكه وتكبر في نفسه، ومالت إليه الأكابر، واعتمدت عليه الرعية والعساكر، واغتار منه الملك، وصار يطلب إعمال الحيل على هذا الأبوان، والأخذ عليه، والإنتقام منه، وكان من الأسباب المهيئة لذلك أنه بطش[92/ب] برجل من المسلمين كان من أهل بطانته، والإختصاص بخواص خدمته، فأنتهبه وهتك ستره، ومع ذلك فإنه -أعني هذا المسلم- من أهل الهمة والأنفة، فما برح يتطلع إلى الإتصال بالملك، لينم إليه بأمور يستنكرونها على الأبوان، وعلم أنهم يؤاخذونه عليها، والملك يطلب مثل ذلك، فاتصل هذا المسلم بالملك، وباح إليه بجميع ما عنده، وما أطلع عليه من أمره، وكشف له ما كان مستودعا عنده من سره، فاستثبت منه الملك في ما نقل، ثم طلب الوزراء الأول فالأول، يطلعهم على ذلك ويخبرهم أن هذا الرجل صار يخبط بهم في مهاوي المهالك، وللرهبان كبير يعتزون إليه ويسمونه الأجيق بوزن زنديق، فاحضره في ذلك المجلس، وشاوره في الرأي، فاجتمع رأي الجميع أنهم يصيحون في المدينة، أنه من علم بفاحشة على الأبوان تخالف دينهم وصل إلى الملك في يوم معلوم، فلما سمع الناس ذلك النداء استعد للإجابة إلى الملك خلق كثير من الرجال والنساء، وأحفلوا في مجلس الملك في ذلك اليوم المعلوم، والميقات المحتوم، ورمته ألسن الحاضرين بما علموا من معاصيه، واطعلوا عليه من مخازيه، حتى لقد شهد عليه بعض نساء الملك بما تشاركوا فيه من الفجور، واتفقوا عليه من الفواحش المخزية في يوم النشور، وهم يرقمون شهادة من حضر ذلك الجمع، ويسندون شهادتهم إلى ما أدركته حاسة البصر والسمع، وكاتب هذه المخزيات الشريف محمد بن موسى المقدم ذكره بالقلم العربي؛ لأنهم يريدون رفع ذلك إلى البترك صاحب بيت المقدس وقلمهم هناك عربي، فلما استكملوا ما أرادوه من فضيحته، وعلم الملك أنه قد أدرك ما يريده من حط مرتبته، شاور الوزراء والكبراء ما ذا يفعل به، فقال كثير منهم: يقتل، ورجح للملك أن يحبسه فحبسه في جزيرة بحر النيل كما قدمناه وأخذوا فيه رأي البترك، ورفعوا إليه بتلك الفواحش واستدعوا منه من يقوم مقام هذا الأبوان، فهذا آخر ما نقل إلينا من حديث الأبوان من رواية محمد بن موسى البخاري.

Halaman 402