39

Bau Itu

تلك الرائحة: وقصص أخرى

Genre-genre

كنت قلقا أتلهف على رؤية ما يجري في السماء، وزحفت إلى حافة السرير مقتربا من النافذة. أخرجت رأسي وتطلعت إلى أعلى فرأيت جانبا من السماء. أخذت أتأمل منتظرا. كانت هناك نجوم كثيرة، وكنت أثبت عيني على كل واحدة حتى أتأكد من أنها لا تتحرك. وما لبثت أن ارتجفت من الفرح؛ فقد رأيت نجمة كبيرة تنساب متحركة، وأدركت أنها طائرة يهودية، ولم أشأ أن أفوه بكلمة حتى لا يحرمني أبي من الفرجة، ومضيت أرقب الطائرة وهي تسير ببطء. وفجأة ظهرت عدة كشافات، أخذت تتلاقى وتتعانق ثم تفترق، وتصعد ثم تهبط من حول الطائرة. وخيل إلي أن الطائرة غيرت طريقها، وأغمضت عيني ثم فتحتهما لأرى جيدا. كانت الكشافات تذرع السماء، وهمس أبي: «انت رحت فين؟ تعالى هنا.»

عدت إلى جوار أبي والتصقنا ببعض وانتظرنا في صمت. كان السكون شاملا وسمعنا طنينا بعيدا يزداد اقترابا لحظة بعد أخرى، وبدا كما لو كان يأتي من الجهات الأربع، ولأول مرة شعرت بالخوف. وتوقف الطنين فجأة، ثم سمعنا صوت انفجار قريب. التصقت بأبي، فجذبني إليه في قوة، وشرعت أختي بالبكاء، وتوالت سلسلة من الانفجارات القوية. وفجأة زحف أبي إلى الخارج وهو يجذبنا خلفه، وتبعناه في صمت، وتحركنا في الظلام إلى الصالة، ثم ناحية الباب الخارجي. وخطر لي أننا سنهبط إلى المخبأ، لكن أبي لم يفتح الباب، وإنما تجاوزه إلى الكنيف وفتح بابه. كان الصنبور يرسل نقطا صغيرة من الماء، فلم أبي جلبابه وانحنى إلى الأمام فأحكم إغلاق الصنبور، ثم أخرج علبة كبريت من جيبه، وأشعل عودا أضاء به الكنيف.

ظهرت فتحته الدائرية يحيط بها أثران بارزان على هيئة القدم، وسط قاعدة حجرية مرتفعة. ورفع أبي يده بالعود إلى الأعلى وارتقى القاعدة الحجرية، ثم استدار إلينا، واستند بظهره إلى الحائط حتى ثبت قدميه فوق القدمين البارزين بجوار فتحة الكنيف. وجذب أختي فأوقفها إلى يمينه، وعندئذ انطفأ العود في يده فمد يده إلي وقال لي: «اطلع.» وأمسكت بيده وصعدت إلى جواره، ووقفت إلى يساره. وانحنى إلى الأمام فجذب الباب نحونا وأغلقه علينا.

وقفنا في ظلام تام، لكني كنت أشعر بالفرق بين اللون البني الغامق الذي دهنت به جدران الكنيف من أسفل حتى منتصفها، وبين اللون الأبيض الذي يغطي الأجزاء العليا، بل كنت قادرا على تبين لمعان اللون البني الذي استخدم الزيت في طلائه، وكنت أشم رائحة الطلاء الزيتي النافذة؛ فقد كانت الشقة جديدة ولم يكن لنا فيها أكثر من شهور.

لم أكن أسمع شيئا مطلقا. وبعد لحظة تبينت صوت تنفس أبي وكان قويا، وكان رأسي مستندا إلى جانبه، فشعرت بصدره يتحرك. واحتكت قطعة من المعدن في حزام الفتق الذي يلفه حول وسطه بأذني فآلمتني، وما لبثنا أن سمعنا صوت انفجارات متتالية. كان الصوت قريبا جدا كأنه في الشارع المجاور، وتصورت أن هناك طائرة تتقدم نحو منزلنا ، وهي تسقط القنابل أثناء تقدمها، ولأول مرة توقعت أن تقع علينا قنبلة بين لحظة وأخرى.

جذبتني يد أبي إلى جانبه في قوة، والتصقت به أنا في خوف. كان وجهي عاريا في مواجهة الباب، فأدرته وأخفيته في ملابسه، ولمس جلبابه فمي فقبلته، وشعرت به يرتجف، وسمعته يهتف في قوة: «يا لطيف الطف.»

لا أدري كم من الوقت مر علينا ونحن هكذا. لكن سرعان ما أدركت أن الانفجارات توقفت. واسترخت قبضة أبي على كتفي حتى هدأ تنفسه، ودام السكون بعض الوقت، ثم دوت صفارة حادة طويلة فانتفض أبي وتنهد بصوت مسموع، ورفع يده من فوق كتفي وانحنى على باب الكنيف ففتحه، ثم هبط إلى أرض الصالة وأسرع يضيء نورها، بينما كنت أسرع خلفه وأختي تنادي علي لأنتظرها حتى تهبط إلى الأرض.

وفي الصالة وقف أبي تحت المصباح، وأخرج سيجارته السوداء من جيبه وأخذ يشعلها، ووقفت أمامه مباشرة وتطلعت إليه، ورأيت عينيه محتقنتين.

جذبتني أختي من يدي. كانت تريد أن تنام، وتخاف أن تدخل الحجرة بمفردها، واتجه أبي إلى البلكونة في صمت. أما أنا فتبعت أختي إلى حجرتنا، فأضأت النور، وانتظرت حتى صعدت فوق السرير، ثم أطفأته وصعدت خلفها وتمددت في الظلام.

تقلبت عدة مرات، وأنصت في لهفة منتظرا أن أسمع صوت الراديو لأنام على الأغاني، لكن الراديو ظل صامتا، ولم أسمع صوتا واحدا من الشقة المجاورة.

Halaman tidak diketahui