ولم يكد يتم قوله حتى استل حسامه ووجه نحو الملك ضربة، كان فيها قضاؤه لولا أن اعترضها الرجل الاسكتلندي وتلقاها بدرعه.
فقال الملك رتشارد، وقد استشرى وعلا صوته الشغب الذي ارتفع ضجيجه إذ ذاك: «لقد أقسمت يمينا ألا أضرب رجلا يحمل الصليب على كتفه، وإذن فلتعش يا «والنرود»، ولكن عش لتذكر رتشارد ملك إنجلترا.»
ولم يفرغ من حديثه حتى أمسك الرجل المجري الطويل القامة من خصره - وهو رجل لا يبارى في الصراع كما لا يبارى في غيره من الحركات الحربية - وطوح به إلى الوراء بعنف، فتدحرج جسم الرجل البدين - وكأنه ينطلق من مدفع عسكري - لا وسط النظارة الذين شهدوا هذا المنظر الشاذ فحسب، وإنما فوق حافة الجبل نفسه وعلى جرفه الذي أخذ يتقلب عليه والنرود رأسا على عقب، حتى ارتكز أخيرا على كتفه، وتخلخلت عظامه، ولبث ملقى على الأرض وكأن الحياة قد فارقته. هذا الحادث الذي بدت فيه قوة الملك - وهي تكاد تفوق الطاقة البشرية - لم تشجع الدوق أو أحدا من أتباعه، على أن يعاود السجال الذي لم تكن بدايته ميمونة الطالع؛ وحقا لقد صلصل بالسيوف أولئك الذين وقفوا بعيدا إلى الخلف وصاحوا: «مزقوا وغد الجزيرة إربا إربا.» ولكن الأقربين منهم أخفوا مخاوفهم الشخصية تحت ستار مصطنع، هو ستار الرغبة في حفظ النظام، وكنت أكثر ما تسمع منهم «السلام، السلام ! سلام الصليب ! سلام الكنيسة المقدسة وأبينا البابا!»
هذه الصيحات المختلفة من المغيرين كان يناقض بعضها بعضا فتدل على فتور في العزيمة، بينما كان رتشارد - وقدمه ما تزال فوق راية الأرشدوق - يتطلع حواليه بعين كأنها تبحث عن عدو، عين تراجع منها الأشراف الغاضبون فزعين، كأن ليثا هصورا يتهددهم بالهجوم، ولبث دي فو وفارس النمر مكانهما إلى جوار الملك، ورغم أن سيفيهما ما برحا مغمدين، إلا أنه كان جليا أنهما يتحفزان لحماية شخص رتشارد حتى النفس الأخير، وكانا بضخامة جسميهما وقوة بنيتهما الفائقة يدلان دلالة واضحة على أن دفاعهما سوف يكون دفاع المستقتلين.
وقد دنا سولزبري وحاشيته كذلك إذ ذاك برماح وحراب مسنونة وقسي مشدودة.
وفي تلك الآونة جاء فيليب ملك فرنسا يتبعه واحد أو اثنان من أشرافه، واعتلى المنصة مستعلما عن سبب تلك الشحناء، ولوح بشارات التعجب حينما ألفى ملك إنجلترا وقد هب من فراش مرضه، وواجه دوق النمسا، حليف الطرفين، وقد وقف وقفة المتوعد المتحدي؛ ولقد خجل رتشارد نفسه حينما رآه فيليب - وكان يقدر فيه حكمته بقدر ما كان يكره شخصه - وهو في هيئة لا تليق بمركزه كملك، ولا بصفته كصليبي، ولحظ الحاضرون أنه رفع قدمه - وكأنه غير عامد - من فوق الراية المهينة، وبدل من نظرته الممزوجة بالعاطفة الحارة نظرة اصطنع فيها الطمأنينة وعدم المبالاة؛ وجاهد ليوبولد أن يظفر بشيء من الهدوء، وكاد يموت كمدا حينما رآه فيليب وهو في موقف الذلة والخنوع بسبب الإهانة التي لحقته من ملك إنجلترا وهو يتقد غضبا.
وكان فيليب على كثير من تلك الصفات الملكية التي أطلقت عليه رعيته من أجلها لقب العظيم، حتى أنا نستطيع أن ندعوه «يوليسيز» كما كان رتشارد «أخيليس»
5
غير منازع في الحرب الصليبية. كان ملك فرنسا حكيما عاقلا حازما في مشورته، متزنا ساكنا فيما يعمل، يتبصر فيما يدبر لصالح مملكته، ويرسم لذلك خطة يتابعها راسخ القدم ثابت العزيمة؛ وهو في سلوكه ملك موقر، مقدام في نفسه، إلا أنه إلى السياسي أدنى منه إلى المقاتل. وما كان للحرب الصليبية أن تكون من محض اختياره، ولكن عدواها أصابته، وفرضت عليه الكنيسة الحملة فرضا، كما دفعته إليها رغبة قوية أجمع عليها أشرافه. ولو كان الظرف غير الظرف، أو لو كان العصر أشد رفقا، لكان يعلو في خلقه على قلب الأسد الجسور، ولكن في حرب صليبية - هي في ذاتها أمر لا روية البتة فيه - لا يكون العقل السليم من بين جميع الصفات إلا أقلها قدرا؛ ولو أن شجاعة الفروسية، التي كان يتطلبها العصر ومشروع الحرب، اختلطت بأدنى أثر من آثار الحكمة لحط ذلك من قدرها، ولذا فإن مزية فيليب، إذا قيست بصفات منافسه الشامخ بأنفه، ما كانت إلا كضوء المصباح الضئيل الصافي إذا وضع إلى جوار وهج المشعل المتوقد الذي ليس له من النفع نصف ما للآخر، إلا أن له من الأثر على العين عشرة أمثاله. وكان فيليب يحس بحطته عن رتشارد في أعين الجمهور، فيألم لذلك ألما يحس به كل أمير كريم النفس. وليس عجيبا أن ينتهز كل فرصة تسنح كي يقرر شخصيته إلى جوار منافسه بحيث يرفع من قدر نفسه، وكان الظرف إذ ذاك إحدى تلك المناسبات التي تنتصر الحكمة والهدوء فيها على العناد والتهور والعنف. «ما وراء هذا الشجار الذي لا يليق بأخوين في الصليب أقسما له الولاء، بين صاحب الجلالة ملك إنجلترا والأمير الدوق ليوبولد؟ كيف يجوز لزعماء هذه الحملة المقدسة وعمدها أن ...»
فقال رتشارد - وقد تأججت النار في صدره حينما ألفى نفسه وقد وضع على شيء من المساواة مع ليوبولد، ولم يدر كيف يستنكر هذا الموقف: «مهلا بعض هذا العتاب ملك فرنسا؛ إن هذا الدوق أو الأمير أو الدعامة - إن شئت - قد دل على قحته فلاقى مني الجزاء. وهذا هو ما نحن فيه. وحقا إن هذا لشغب كثير من أجل وغد مهين!»
Halaman tidak diketahui