ولكن الأحداث التي وقعت إبان ذلك جرت مجرى يناقض الظنون التي لعبت برأس توماس دي فو، فلم يكد يترك السرادق الملكي حتى بدأ رتشارد - وهو بين جزع أنشبته الحمى وجزع هو من طبيعة نفسه - يشكو غياب البارون، ويبث شديد رغبته في عودته؛ وقد عانى من قبل كثيرا، فحاول الآن أن يخلص من هذا الهياج الذي زاد من علة جسمه زيادة كبيرة، وأضنى أتباعه بكثرة ما طلب إليهم من ألوان اللهو، وعبثا ما استعان القس بدعواته، والكاهن بقصص الخيال، بل ومغنيه المحبوب بقيثارته. وأخيرا، قبيل انحدار الشمس بنحو ساعتين - وكان ذلك قبل الوقت الذي كان يرتقب فيه نبأ يسره عن سير العلاج الذي يباشره المغربي (أو العربي) بزمن طويل - أرسل كما سمعنا رسولا يأمر فارس النمر بالحضور؛ واعتزم أن يهدئ من جزعه بحصوله من السير كنث على بيان مفصل عن سبب تغيبه عن المعسكر، وعن ظروف التقائه بهذا الطبيب الذائع الصيت.
استدعي الفارس الاسكتلندي ومثل لدى حضرة المليك، وكأنه ليس بالغريب على أشباه هذه المقابلات؛ لكن ملك إنجلترا لم يكد يعرف منه حتى مرآه، وذلك رغم أنه (الفارس) كان شديد الاحتفاظ بمرتبته، وكان متفانيا في إخلاصه للسيدة التي تملكت منه سويداء القلب، فلم يغب في ظرف واحد من الظروف التي كانت أريحية إنجلترا وسخاؤها تفتح فيها بلاط مليكها لكل من بلغ مرتبة خاصة في سلك الفروسية . ونظر الملك وأمعن في النظر إلى السير كنث وهو يقترب من فراشه، وقد ثنى الفارس ركبتيه لحظة من الزمن، ثم نهض ووقف أمام الملك موقفا يليق بضابط في حضرة مليكه، موقف الإجلال ولكن بغير ذلة أو خنوع.
قال الملك: «اسمك كنث فارس النمر؛ أنى لك مرتبة الفروسية؟»
فأجاب الاسكتلندي: «لقد نلتها من حسام وليم الأسد ملك اسكتلندا.»
فرد عليه الملك وقال: «والله إنه لسلاح ما أجدره بمنح الشرف، وتالله إنه لم يوضع على كتف ليست له أهلا
1
فلقد شهدناك وأنت في موقف الفروسية والشجاعة لما حمي وطيس القتال واشتدت الحاجة؛ ولكن قبل أن تعرف أنا بكفاءتك علماء، بلغت بك القحة في بعض الأمور حدا لا يخول لك أن تطلب لخدماتك جزاء خيرا من العفو عن عدوانك، فماذا تقول في هذا؟»
فحاول كنث أن يجيب عن ذلك، ولكن عجز عن أن يفصح عن نفسه، وقد تآصر على بلبلته إحساسه بحب عالي المطامح، ونظرة ثاقبة كنظرة البازي رمقه بها قلب الأسد، وكأنه يريد أن ينفذ إلى دخيلة نفسه.
ثم قال الملك: «ومع ذلك، ورغم أن الجند عليهم طاعة الأمر، وعلى الأتباع احترام أولي الأمر، فإنا نستطيع أن نعفو عن فارس مقدام جرما أخطر من اقتنائه لكلب عز، مع ما في ذلك من مخالفة لما فرضناه على الناس فرضا صريحا لا يحتمل التأويل.
وظل رتشارد يحدق في وجه الاسكتلندي، ويبادله النظر، وسر في دخيلة نفسه واطمأن للأسلوب الذي ساق فيه اتهامه.
Halaman tidak diketahui