وقال السير كنث: «لم يأخذ الكرى بمعقد جفنيه لست ليال مضت، كما يؤكد لي الشاب الذي يباشره.»
فقال توماس دي فو وقد أمسك بيد الفارس الاسكتلندي وضغط عليها ضغطا فيه من الإخلاص ما لم يبد في كلامه: «أيها الاسكتلندي النبيل، ينبغي لك أن تعنى بخادمك هذا، فهو لا يأخذ من الطعام ما يكفيه؛ ولا من العناية ما يغنيه.»
ورفع صوته بطبيعة الحال إلى نبرته المألوفة الحاسمة في العبارة الأخيرة من كلامه، وحينئذ اضطرب العليل في سباته.
فقال: وكأنه يدمدم في حلم: «سيدي، أي سير كنث النبيل، هلا نشرب أنا وأنت من ماء الكليد
3
البارد الشافي بعد مياه العيون الآسنة في فلسطين؟»
فأسر السير كنث إلى دي فو وقال: «إنه يحلم بموطنه، وإنه لسعيد في نعاسه .» ولم يكد يلفظ بهذه الكلمات حتى هب الطبيب من مكانه بجوار سرير المريض، ووضع يد العليل - التي كان يرقب نبضها بعناية وحذر - على الفراش، في هدوء وسكينة، ثم أقبل على الفارسين وأمسك كلا منهما من ذراعه، وأشار إليهما أن يلزما الصمت، وسار بهما إلى خارج الكوخ.
ثم قال: «باسم عيسى ابن مريم، الذي نكرم كما تكرمون، ولكنا لا نحوطه بالخرافة العمياء، لا تفسدا أثر الدواء الناجع الذي تناول منه المريض. في يقظته الآن إما حتفه أو فقدان عقله؛ اذهبا وعودا حينما ينادي المؤذن من فوق المنارة بصلاة المغرب في المسجد، وإذا بقي المريض دون قلق حتى آنئذ، فإني أعدكم أن هذا الجندي الفرنجي سوف يقوى - دون إجهاد لصحته - على أن يتبادل معكما حديثا قصيرا في أي أمر تسألانه فيه، وبخاصة إن كان السائل سيده.»
فتراجع الفارسان طوعا للأمر الجازم الذي أمرهما به الطبيب، وكان يبدو عليه أنه يفهم جد الفهم أهمية الحكمة الشرقية السائرة، وهي أن غرفة المريض مملكة الطبيب.
وتوقف الفارسان عن المسير، ولبثا واقفين معا لدى باب الكوخ، وعلى سيماء السير كنث أنه كان يتوقع من زائره أن يودعه، ويبدو على دي فو كأن في نفسه شيئا يحول بينه وبين أن يفعل ذلك؛ ولكن الكلب انطلق من الخيمة وراءهما ورمى بوجهه الطويل الخشن في يد صاحبه، كأنه يتوسل إليه خاشعا أن يخلع عليه بعض عطفه، ولم يكد الكلب يحظى من صاحبه بالرعاية التي أراد، في كلمة طيبة، وتربيت خفيف، حتى ود أن يظهر عرفانه للجميل وسروره بمجاوبة سيده له، فهرع مسرعا، وهرول في مسيره، ومد ذيله ولوح به يمينا ويسارا، وأداره هنا وهناك، وهزه إلى أعلى وإلى أسفل، وهو يجوس خلال الأكواخ المتهدمة والرحبة التي وصفنا، ولكنه لم يتخط حدود المنطقة التي عرف بفطنته أن علم صاحبه يحميها، وبعد بضع وثبات من هذا القبيل، دنا الكلب من صاحبه وتخلى لحينه عن مجونه، وعاد إلى الجد الذي ألف، وإلى حركاته الوئيدة ومسلكه المتواني، وبدا عليه الخجل لأنه تنحى إلى هذا الحد البعيد عن الرزانة وحكم النفس، أيا كان الباعث على ذلك.
Halaman tidak diketahui