وما إن دنت أديث من العبد الساكن الجاثي، وأصبحت منه على قيد خطوة، حتى صوبت الضوء على وجهه كأنها تريد أن تستشف ملامحه بدقة، ثم أشاحت بوجهها عنه، ووضعت مصباحها بحيث يرتمي ظل وجه العبد من أحد جانبيه على سجاف يتدلى جانبا، وأخيرا تكلمت بصوت فيه الطمأنينة، ولكن رنين الأسى فيه شديد.
وقالت: «أفهذا حقا أنت فارس النمر الباسل؛ السير كنث الاسكتلندي الشهم؟ أفهذا أنت حقا؟ تنكرت هذا التنكر المشين، وأحاطت بك مئين المخاطر؟»
وما إن سمع الفارس نبرات صوت معشوقته، وقد وجهت إليه الخطاب على غير انتظار، وبنغم فيه من العطف ما يوشك أن يكون خفة ورقة، حتى استبق الجواب إلى شفتيه، وكاد أن يرد ويخرج على ما أمره به رتشارد وما وعد من صمت؛ فلقد كان المنظر الذي رأى، والصوت الذي سمع، يكفيانه عوضا عن رق مدى الحياة، وأخطار يستهدف لها في كل حين، ولكنه استجمع قواه، ولم يزد جوابه على سؤال أديث ابنة البيت الكريم عن تنهد عميق شديد الانفعال.
واستأنفت أديث حديثها وقالت: «أجل لقد أصاب حدسي، إني عرفتك مذ ظهرت أول الأمر قريبا من المنصة التي وقفت عليها مع الملكة، وعرفت كذلك كلبك الجسور؛ إن كان تنكر الزي أو تغير اللون يخفي عن فتاتك خادما مخلصا أمينا، فهي ليست سيدة مخلصة، وليست قمينة بخدمات أمثالك من الفوارس. تكلم إذن ولا تخش أديث بلانتاجنت، فهي تعرف كيف ترفق بالفارس الكريم وهو في محنته، ترفق بالفارس الذي أدى واجبه وأحرز الشرف وأصاب المرمى من أجل اسمها حينما كان الخطر له حليفا. أفما زلت صامتا؟! أمن الخوف أو العار أنت لا تنطق؟ ينبغي لك أن تعرف الخوف، أما العار فليصب أولئك الذين أساءوا إليك.»
فيئس الفارس من الإبقاء على الصمت في مثل هذا اللقاء الممتع، ولكنه لم يستطع أن يعبر عن خزيه بغير النهد العميق، ووضع إصبعه على شفتيه، فتراجعت أديث كأنها مستاءة.
ثم قالت: «ما هذا! هل أنت أبكم آسيوي في فعالك، كما أنت في ردائك؟ إني ما كنت أرتقب هذا. ولربما ازدريتني لأني اعترفت لك صراحة بأني لحظت ولاءك لي واكترثت له، ولكن ناشدتك السماء ألا تسيء الظن بأديث من أجل هذا! إنها تعرف جد المعرفة الحدود التي تنحصر فيها بنات البيوت الكريمة، والخفر الذي يحق عليهن، وهي تعرف متى وإلى أي حد ينبغي لتلك الحدود وذلك الخفر أن يفسحا في المجال للاعتراف بالجميل؛ لرغبتها الصادقة في أن تتمكن من إثابتك على خدماتك، وأن تخفف من آلامك التي نالتك من جراء الإخلاص الذي حملته لها، كما يفعل الفارس الكريم. لماذا تطبق ذراعيك وتضغط عليهما بكل هذا الانفعال؟» ثم قالت وقد خطر لها خاطر اقشعر بدنها منه: «أفحقا بلغت بهم القسوة حدا يحرمك فعلا من نعمة الكلام؟ إنك تهز رأسك! لئن كان هذا سحرا أو عنادا، فلن أسألك بعد هذا، وسوف أتركك تؤدي رسالتك كما تحب، فإني أستطيع كذلك أن ألزم الصمت.»
فتحرك الفارس المتنكر حركة تدل على أنه يندب حاله ويستعيذ من غضبها، وقدم لها في نفس الوقت رسالة صلاح الدين مطوية كالعادة في حرير رقيق وقماش من ذهب، فتسلمتها وتصفحتها بغير اكتراث، ثم طرحتها جانبا وصوبت بصرها بعدها ثانية نحو الفارس، وقالت بنغم خافت: «أفما تقول ولو كلمة واحدة وأنت تؤدي الرسالة لي؟»
فضغط الفارس بكلتا يديه على جبينه، كأنه يشير إلى الألم الذي أحس به لأنه لا يستطيع أن يصدع بأمرها، ولكنها انصرفت عنه غاضبة.
وقالت: «اغرب عني، لقد تكلمت كثيرا - بل وكثيرا جدا - إلى رجل لا يريد أن يصرف في سبيل كلمة واحدة جوابا علي. اغرب عني! وقل إن كنت قد أسأت إليك من قبل، فقد كفرت الآن عن إثمي؛ فلئن كنت أنا ذلك السبب التعس الذي هوى بك من منزلة الشرف، فلقد نسيت في هذه المقابلة مكانتي، وحططت من قدر نفسي في عينيك وفي عيني.»
ثم سترت عينيها بيديها، وبدا عليها الارتباك الشديد، وكاد السير كنث أن يدنو منها، ولكنها أشارت إليه أن يعود وقالت: «قف بعيدا! لقد أعدت السماء روحك لأمر جديد! لو كنت أقل غباء ورعبا من عبد أبكم لنطقت بكلمة شكر تواسيني بها في حطتي وعاري. لماذا تتريث؟ اغرب عني!»
Halaman tidak diketahui