2
للراهبات، وبين هاتيك الراهبات ألفيت تلك التي أحببت طويلا، وفقدت من زمن بعيد . بربك إلا أغنيتني عن الاعتراف بأكثر من هذا! إن راهبة ساقطة كفرت عن إثمها بالانتحار ترقد هادئة في لحدها في عين جدة، وفوق قبرها يتمتم ويئن ويزأر مخلوق لم يبق له من العقل إلا ما يكفي لأن يجعله يحس بشقائه كل الإحساس!»
فقال رتشارد: «أتعس بك من رجل! إني لن أعجب لبؤسك بعد هذا. قل لي كيف خلصت من الحكم الذي يقضي به الشرع في مثل جرمك هذا؟»
فقال الناسك: «سل في هذا رجلا ما برح شغوفا بهذه الدنيا المريرة يحدثك عن حياة بقيت لأسباب خاصة ولاعتبار النسب الكريم، ولكن إن سألتني أنا يا رتشارد أقل لك إن العناية الإلهية قد أبقتني كي ترفعني إلى العلا منارا وهدى، وبعدما يحترق مني هذا الوقود الدنيوي تتبدد رفاتي في النار. هذا الجسد الذي تراه ذاويا ضامرا يسري فيه روحان، أحدهما فعال ثاقب نافذ يدفع عن قضية الكنيسة في بيت المقدس، والآخر وضيع حقير بائس، يتذبذب بين الجنون والبؤس، يبكي شقائي ويسهر على الآثار المقدسة، والآثار التي إن أنا رمقتها بعيني كنت آثما جارما. بربك لا تشفق علي! إن هو إلا إثم أن تشفق على ضياع شيء دنيء كهذا. لا تشفق علي وأفد من مثالي. أنت تقف فوق أعلى قمة يشغلها أمير مسيحي، ولذا أنت في أشد المواقف خطرا. أنت متكبر في نفسك، متهاون في حياتك، دام في يدك، أبعد عنك الذنوب التي هي منك بمثابة البنين! انف من صدرك هذا الغضب وذلك الكبرياء والترف والتعطش للدماء، مهما تك هذه العواطف عزيزة على الإنسان الآثم فيك!»
فتحول رتشارد ببصره عن هذا الرجل الناسك، والتفت إلى دي فو، كأنه أحس ببعض الألم من هذا التهكم الذي لم يستطع له ردا، وقال: «إنه يهذي.» ثم التفت إلى الناسك في سكينة وهدوء، وفي شيء من الازدراء والاستخفاف، وقال: «إنك قد وجدت أيها الأب المبجل سربا من حسان البنات
3
لرجل لم يتزوج إلا منذ أشهر قلائل، ولما كان من واجبي أن أبعدهن عن ظل بيتي ، فقد زودتهن بأزواج يليقون بهن، كما يفعل الآباء ببناتهم، فتخليت عن كبريائي لشرف الكنيسة الكريم، وعن ترفي - كما تقول - لرهبان الدير، وعن تعطشي للدماء لفرسان المعبد.»
فأجابه الناسك وقال: «إن لك لقلبا من الصلب، ويدا من الحديد، لا يجديهما نصح أو مثال! - ومع ذلك فلسوف نعطيك فرصة من الزمن، ربما تحولت بعدها وفعلت ما يرضي الله في سمائه - أما أنا فينبغي لي أن أعود إلى مكاني. رحماك اللهم! أنا ذلك الرجل الذي تخترقه أشعة الرحمة الإلهية، كما تخترق أشعة الشمس العدسة الحارقة، ثم تتجمع فوق جسوم أخرى فتشتعل الجسوم وتلتهب، بينما تبقى العدسة باردة ما بها أثر. رحماك اللهم! لقد نبذ الغني المأدبة، فللفقير أن يتقدم. رحماك اللهم!»
ولم يكد يتم حديثه حتى انطلق من السرادق يصيح صياحا عاليا، وهذه الصيحات الجنونية من الناسك محت من ذهن رتشارد شيئا من الأثر الذي تركه تفصيل ماضيه وأرزائه الخاصة، فقال الملك: «تالله إنه لقس معتوه! اتبعه يا دي فو، وراقبه كي لا يصيبه أذى، لأنا وإن كنا صليبيين، إلا أن للمشعوذ بين سوقتنا تقديرا فوق تقدير القس أو القديس، وربما ألحقت به السوقة بعض المهانة.»
فصدع الفارس بالأمر، وأفسح رتشارد لتوه في المجال للخواطر التي أوحت بها نبوءة الراهب الساذجة، فقال محدثا نفسه: «هل أموت عاجلا ولا يخلفني من بعدي ولد، ولا يبكي على باك؟ أثقل به من حكم، والحمد لله على أنه حكم لم يصدر عن قاض كفء قدير. ومع ذلك فالأعراب، الذين بلغوا الذروة في علم الروح، كثيرا ما يقولون إن الله - الذي ليست حكمة الحكماء في تقديره إلا حمقا وجهلا - يوحي بالحكمة والكهانة في ثنايا الخبل البادي على المعتوهين من الرجال. إن ذلك الناسك يقال عنه كذلك إنه يقرأ النجوم، وهو فن كثيرا ما يمارس في هذه البلاد التي كانت فيها جيوش السماء من قديم الزمان موضع العبادة. وددت والله لو أني سألته في شأن ضياع رايتي فليس «تشبيت» المبارك ذاته مؤسس مذهبه بأكثر منه صراحة وسذاجة، أو يتكلم مثله بلسان أشبه ما يكون بلسان نبي.» «والآن ماذا رأيت يا دي فو، وما خبر هذا القس المعتوه؟»
Halaman tidak diketahui