في تقديري المتواضع أن العلاقة التي ربطت بين ثيوفراسط وأستاذه هي النموذج الأسمى لعلاقة التلميذ بالمعلم؛ فهو يأخذ عنه ويتعاون معه ويعمل بوحيه ومشورته، ولكن هذا لا يمنعه من الاستقلال برأيه، على الأقل في دقائق التفصيل والشرح والتفسير. وهو حين يمتد به العمر لا يجاهر بمعارضته ولا يرميه بالسهام بعد أن اشتد ساعده، وإنما يعلي البناء - كما سبق القول - على الأسس التي وضعها المعلم، ولا يكترث بعد ذلك أن ينسب البناء له أو لأستاذه. وعسى ألا أكون مبالغا إذا قلت إن القليل الذي قرأته لثيوفراسط أو قرأته عنه يؤكد أنه كان يتحلى بفضيلة التواضع والعرفان الذي يحمله التلميذ الوفي لأستاذه، وإن لم تحل هذه الفضيلة بينه وبين توجيه النقد للأستاذ كلما احتاج الأمر في تقديره لتوجيه النقد، ثم الاستقلال بالرأي الخاص الذي يعد في الحقيقة من تمام الوفاء للأستاذ الذي لا يسعده أن يكون تلميذه نسخة منه ولا لسانا ناطقا عنه ومرددا لأقواله، كما لا يسعده أن يتحول تلميذه إلى كلب يعضه في حياته أو بعد موته، أو إلى شاهد زور عليه وكاتب للعرائض ضده.
كتب ثيوفراسط في سنوات الطلب بعض البحوث والدراسات تحت إشراف أرسطو وتوجيهه، ولكن لم يصلنا للأسف شيء منها. ولما اكتسب ثقة المعلم الأول الذي أتاح له أن يعاونه في البحث وتجميع المادة اللازمة لدراساته العلمية والطبيعية المختلفة على طريقته الاستقرائية المعروفة، كتب دراسات «دوكسوجرافية» تتبع فيها آراء الفلاسفة الطبيعيين السابقين وشرحها وقيمها في لغة «مشائية»، ومن ذلك دراساته عن النبات التي لا أشك في أن أرسطو نفسه قد أفاد منها - حتى إذا بلغنا المرحلة التي تولى فيها رئاسة اللوقيون لم نجد بأسا من أن نفترض أنه كتب بعض بحوثه وفي ذهنه توجيهات المعلم الراحل وإرشاده، دون أن نستبعد مع ذلك أنه بدأ في الاستقلال بالرأي والشروع في إرساء معالم «نسقه» الخاص به. وربما جاز القول بأن العلاقة بينه وبين أستاذه خلال العشرين سنة الأخيرة من تعاونهما المشترك كانت علاقة أخذ وعطاء، وأن أستاذية المعلم الأول لم تقتصر على التوجيه والإرشاد، بل تعدتهما إلى التلقي من التلميذ والصديق الحميم، عل الأقل من خلال الحوار وتبادل الآراء.
وغني عن الذكر أن مهمة الباحثين المحدثين والمعاصرين في الكشف عن تأثير ثيوفراسط على أعمال أرسطو المتأخرة لا بد أن تكون شاقة بقدر ما هي شديدة الأهمية. وإذا كانوا قد قطعوا خطوات ملموسة على هذه الطريقة، فلم تزل أمامهم خطوات أخرى ينتظر منهم إنجازها ليمكن الكلام عن نسق فلسفي متبلور وواضح المعالم لثيوفراسط، وهو الأمر الذي لم يتحقق حتى الآن بصورة كافية.
والحق أن هذه الطريقة «التاريخية» في الاستدلال تجعلنا نستبعد على ثيوفراسط أن يكون قد انزلق بعد موت أرسطو إلى الوقوع في خطأين لا نظن أن وفاءه لأستاذه من ناحية، وتكوينه العقلي والعلمي من ناحية أخرى، كان من الممكن أن يستدرجاه إليهما؛ أولهما: هو اتخاذ موقف الهجوم على أستاذه، أو على الأقل موقف المعارضة أو المناقضة الصريحة لآرائه ومذاهبه. وثانيهما هو محاولة وضع أفكار صديقه وأستاذه في قالب اعتقادي متزمت أو نهائي، لا سيما أنه - أي ثيوفراسط - قد تعلم من صحبته الطويلة لأرسطو أن هذا الأخير لم يكن يتوقف عن فحص آرائه ومراجعتها وتعديلها وتغييرها إذا لزم الأمر، شأن كل فيلسوف أصيل.
13
أي طريق بقي له إذن أن يسلكه لكي يكون نفسه من جهة، ولكيلا يتهم نفسه أو يتهمه أحد من جهة أخرى بالتنكر أو الجحود؟
لم يتبق إلا مواصلة البناء على الأسس التي أرساها المعلم والصديق كما سبق القول، مع الاستمرار في فحص هذه الأسس ومراجعتها واقتراح بدائل أخرى كلما اقتضى الأمر.
هذا هو الذي فعله ثيوفراسط ولم يكف عن فعله؛ فهو يطرح المشكلة كما وضعها أرسطو، ثم يناقش هذا الوضع بطريقته الإشكالية «أو النقدية المتسائلة»؛ إما لكي يقترح وضعا أو حلا آخر للمشكلة، أو لكي يواصل البحث فيها أو يشير على غيره بمواصلته. ومن الأمثلة التي تدل على هذا المنهج الذي سار عليه نذكر بحوثه في كتابه عن «الميتافيزيقا» عن مفاهيم مختلفة كمفهوم المكان والحركة، ومناقشته لنظرية العناصر الأربعة الشهيرة في بداية بحثه الذي أشرنا إليه من قبل عن النار إلى حد التشكك في النظرية نفسها. أضف إلى هذا عددا من دراساته وبحوثه في موضوعات جزئية لا تكاد تحصى، وإن كان معظمها يدور حول موضوعات متصلة بالعلوم الطبيعية التي انصب عليها معظم اهتمامه وجهده. إنه يصل في هذه البحوث إلى نتائج جديدة، تطرح بدورها أسئلة جديدة، وتجعله أثناء ذلك ينصرف عن بناء نسقه الخاص أو على الأقل يؤجله إلى أن يفرغ من بحوثه «النوعية» التي لا تنتهي، ولكن هذا لا ينفي أنه كان بصدد تأسيس أو إعلاء بناء مختلف عن بناء المعلم الأول. وما زالت مهمة الكشف عن معالم هذا البناء أو تحديد هذا النسق المتميز في بدايتها، وتحتاج إلى مزيد من البحث والجهد لإتمامها.
14 (6)
استدل الباحثون من القراءة المتأنية ل «الطباع»، والنظر في التاريخ الاجتماعي والسياسي والحضاري الذي يحيط به ويتغلغل أحيانا فيه (لا سيما في اللوحة الثامنة عن مروج الإشاعات، وفي اللوحتين السابعة عن الثرثار والسادسة والعشرين عن الأوليجاركي أو المتسلط وغيرهما بدرجة أقل)؛ استدلوا على أن ثيوفراسط قد كتبه بعد سنة 319 قبل الميلاد؛ أي بعد أن ناهز الخمسين من عمره وقضى في رئاسة «اللوقيون» ما يربو على الثلاث سنوات. وهو يقدم فيه كما سوف يرى القارئ ثلاثين لوحة (أو رسما تخطيطيا حيا) جمعها إلى جوار بعضها بغير نظام يربط بينها، ولا مقدمة تمهد لها. ويبدو أن أحد المعجبين المجهولين ب «الكتيب الذهبي» قد عز عليه ذلك، فتطوع بأن يضيف إليه - في العصر البيزنطي على أرجح الأقوال - مقدمة من عنده ثبت بعد مراجعة نص البردية الأصلية أنها منحولة - ولم يكتف بهذا، بل مر بقلمه على بعض اللوحات فدس عليها بعض المواعظ الفجة التي لم يجد الباحثون مشقة كبيرة في التحقق من زيفها واستبعادها.
Halaman tidak diketahui