وقالت إجلال هانم وقد رأت يسري: أهلا، أنت محق يا عزت، إنه بك فعلا.
وسيطر الخجل على يسري فلم يجد ما يقوله إلا حمرة علت وجهه وهمهمة تشبه الحديث وما هي بحديث، أو تشبه الشكر وما هي بشكر، إنما هي لعثمة تتحرك بها شفتاه ولا يبين عنها صوته.
كان يسري قد غاب عن البيت سنوات، ولولا أن عزت باشا كان يراه كلما زارهم هو في منزلهم لتبين هذا الغياب. ولكن إجلال هانم كانت تبينت هذه القطيعة منه، ثم لم تجعل لها في نفسها شأنا مقدرة أنه شاب ذو أصدقاء قد يلهونه عن الزيارة كما تلهيه المذاكرة، دون أن يجنح بها الذهن إلى هذه الأفكار الثائرة التي تمور في ذهن يسري.
ودخلوا جميعهم إلى حجرة الجلوس اليومي، وما كاد الحديث يدور حتى أقبلت إلى الحجرة فايزة. إنها سنوات قلائل التي غابها يسري، أتستطيع هذه السنوات القلائل أن تفعل كل هذا؟ أصبحت ريانة العود، استوى نبتها واخضل، واكتملت أنوثتها وكادت تطغى، لولا هذه النظرة الحزينة ماثلة في عينيها الزرقاوين وفي وجهها الهادئ المستسلم، لا تمنع عنه غشاوة الحزن تلك البسمة التي ارتسمت على وجهها حين رأت يسري، ابتسامة طفلة كانت تلقاه بها حين كان يجيء ليلاعبها، هناك في هذه الأيام التي لم يكن يفكر فيها في ثرائهم وفقره، هي نفسها تلك الابتسامة البريئة لا تعرف الشباب ولا الأنوثة، لا ولا هي تستشعر السنوات مررن فجعلن من الطفلة فتاة ومن الطفل ثائرا. وخالط عينيها بعض العجب، لقد أصبح الطفل العربيد الذي كان يضع ملابسه على نفسه لا يعنى بموضعها أو مظهرها، والذي كان يصر على الطربوش أن يكون فوق رأسه ثم لا يحفل به مائلا أو معتدلا، منهارا أو مستويا، والذي كانت عيناه الغريرتان لا تومضان إلا إذا همست في ذهنه لعبة خطرة من لعب الطفولة تستهدف تسلقا أو قفزا، أو تستهدف معاكسة لخادم أو تقليدا لمشية كبير من كبار البيت. أصبح هذا الطفل أنيق الملبس يختار رباط العنق ملائما للحلة، وأصبح بلا طربوش إنما هو شعر كثيف يغطي رأسه وقد جرى فيه المشط فهو مستو مستقر المكان، وأصبح وهو ذو عينين عميقتين فيهما ذكاء وفيهما وقار وإن بدا مصطنعا، وأصبح وهو ذو وجه بارحته آثار الطفولة فهو صلب محدد المعالم. ولكن الأيام لم تستطع أن تغير لون عينيه السوداوين، ولا أن تغير تلك السمرة التي تشوب وجهه، ولا أن تغير شفتيه الغليظتين بعض الشيء، وإن كانت الأيام قد عدت على تلك البساطة التي كانت تتسم بها شفتاه فإذا هما اليوم شفتان فيهما عزم يؤيده ذلك البريق المصر الذي يشع من عينيه، عينين تعرفان طريقهما وترودانه في تشبث، وإن يكن تشبثا حائرا قلقا.
قالت فايزة بعد هنيهة: أهلا يسري.
ووقف يسري وفي وجهه بعض دهشة: أهلا فايزة.
ولم تسمع فايزة ما يقول وإن كانت فهمته، وقبل أن يعود الحديث إلى أفواههم أقبلت دولت تتبع فايزة، فقد تعودت أن تلازمها وأن تكتب لها ما يراد لها أن تسمعه. ووقف يسري يسلم على دولت لم تختلج يده ولا يدها ولا طرفت عينه ولا عينها، وإنما هي تحية طبيعية لا تنم عما كان بينهما في اللقاء القريب. ودار الحديث بعد ذلك شتى مناحيه، ولاحظ يسري ما تقوم به دولت من عون لفايزة ولكنه لم يظهر أنه لاحظ، وما لبثت خاطرة أن هفت إلى ذهن يسري، ماذا لو تزوج فايزة؟! إنها صماء؟ وهذا هو طريقه الوحيد إلى الزواج بها، أفكان يقبله عزت باشا لو لم تكن صماء، وما البأس بالصمم؟ أيريدها مراقبة في الإذاعة أم يريدها زوجة، ويريدها غنى وعزا؟! ماذا عليه لو تزوجها وعاش في هذا القصر وخلت حياته من الفقر وفرغ إلى الغنى والبلهنية؟ الوحيد الذي سيدرك الدوافع التي حدت به إلى هذا الزواج هو خيري، بل وقد تدركها أمه أيضا، ولكن ماذا عليه إن أدركا؟ ومنذ متى أقام لرأيهما أو إدراكهما وزنا؟ إنها حياته وإنها فرصته وما كان ليتركها. إن الأغنياء الذين ولدوا فقراء لم يصلوا إلى الغنى إلا بخطوة من هذه الخطوات الحاسمة في حياتهم، يقدمون على تجارة يظنها الناس بائرة فإذا هي رابحة، فما لي لا أتخذ هذه الخطوة في حياتي؟ إن أحدا لم يطلب فايزة لأنها صماء، جهل من الخطاب وحمق، أتترك هذه الثروة جميعا لأن العروس صماء، وكانت نظرته مثبتة على فايزة ودولت، فما لبثت دولت أن أوحت إليه بحجة أخرى، إنه سيتزوج كلتيهما، أما فايزة فعلى سنة الله ورسوله؛ لأن الثروة لا يمكن أن تأتيه إلا على سنة الله ورسوله، وأما دولت فعلى مألوف ما جرى بينهما ولن يحتاجا بعد ذلك إلى بيت أخيها، فسيكون بيت فايزة مكانا لهما يلتقيان فيه ما شاء لهما اللقاء، ويصخبان به أيضا فإنها لن تسمع.
إن للصمم فوائد كبرى فهو سيتيح لي هذه الزيجة التي ما كنت لأطمح إليها أو أصبو، وهو سيتيح لي أيضا أن أحادث دولت أمامها ما شئت من حديث، ومن يدري فقد يتيح لي بعد ذلك مكاسب أعظم وأضخم، أما لو تحقق هذا الأمل؟ إذن فوداعا للفقر، ووداعا للحلة الواحدة والشقة الضيقة.
وقبل أن يدعوهم الخادم للغداء أقبلت وفية في سمتها الرفيع الجميل، وقد أمسكت في يدها بابنها عزت، ورحبت بيسري ترحيبا بالغا وعاتبته على غيبته عتبا هينا لا مرارة فيه، ولم تجلس وفية، فقد دعي الجميع لتناول الغداء.
وعلى المائدة ظل يسري يحملق في فايزة ودولت، ولم يلحظ الأب ولم تلحظ الأم ولم يلحظ محسن، فقد شغلهم الحديث والطعام. وكانوا قد يئسوا أن ينظر أحد - أي أحد - إلى فايزة على أنها فتاة تصلح للزواج، اثنتان لحظتا هذا الإنعام الصامت الذي ينظر به يسري إلى فايزة، دولت ووفية، فأما دولت فقد ظنت أنه ينظر إليها ويصطنع النظر إلى فايزة حتى لا يفتضح أمره وفرحت بهذا الظن وارتاحت إليه مطمئنة واثقة.
Halaman tidak diketahui