وهم خيري أن يخرج من الباب الذي دخل منه، ولكن يسري عاجل يسبقه قائلا: بل من هنا يا آبيه خيري، فهذا بابي الخاص، لا تزرني بعد اليوم إلا منه.
ولم يقل خيري شكرا، بل واصل طريقه إلى باب الشركة الخارجي ويسري من خلفه يتبعه حتى خرج إلى الطريق.
وعاد يسري إلى مكتبه مسرعا، واستقر على كرسيه وطلب أن يدخل إليه صبحي. ورحب يسري بصديقه ترحيبا بالغا، وراح يسأله عن زملائهما، وراح صبحي يجيب في لعثمة أول الأمر، ثم انطلق لسانه في ظلال الذكريات، ووجد نفسه دون أن يحس قد عاد مرة أخرى زميلا لهذا الجالس على الكرسي الأنيق لا يفصله عنه منصب كبير حين هو بلا منصب على الإطلاق، ولا يفصله عنه غنى وجاه حين هو بلا غنى ولا أمل في الجاه، تحادث الصديقان وجمحت بهما الأحاديث حتى لقد نسى يسري نفسه هو أيضا، وراحت الذكريات ترفرف عليهما بجناحين فيهما حنان ولها في القلب وجيب قوي الأخذ آسر. وكان يسري ينسى ما انتوى أن يقوله لصديقه، بل كاد صبحي نفسه ينسى ما جاء له وقد جاء لحياته. قليلا ما ترفرف هذه الأجنحة، وقليلا ما يدوم هذا الحنان في حجرة اجتمع فيها اثنان لكل منهما عند الآخر نشيدة ترتجى وأمل مرموق. غير أن يسري عجب من نفسه أن أحست هذا الدفء، وعجب من نفسه أن تسيطر عليه الذكريات فيلتذ أسلوبها. وسرعان ما أفاق إلى مجلسه ومنصبه فحرص أن يشيع في الغرفة صمت، وحرص ألا يفاتح صبحي فيما جاء له، فقد أراده أن يكون هو البادئ بالطلب. وسرعان ما استرد صبحي نفسه من الأيام الغابرة ليعيش في حاضره ويذكر ما نسيه من فوارق ومن فراغ ومن فقر وشظف عيش.
قال صبحي: ماذا عملت لي؟
واصطنع يسري النسيان، فقد كان يعلم كيف يصطنع النسيان: فيم؟ - في مسألتي. - آه، الوظيفة. - نعم.
وأطرق يسري ليقول: والله يا صبحي المسألة معقدة. - ألا أمل يرجى؟ - كل شيء ممكن، إلا أن المسألة صعبة جدا، فالوظائف معدومة والشركة تشكو كثرة الموظفين. وقد نبهنا مجلس الإدارة مرات إلى تضخم اعتماد الوظائف، حتى إننا نفكر في هذه الأيام في توفير بعض الموظفين.
وأطرق صبحي صامتا آسفا، يرى أمله يصرع بعد أن كان قد أنشأه في نفسه فكبر حتى كاد يصبح حقيقة، ولم يجد ما يقوله إلا: أي وظيفة يا يسري، يا يسري بك، لا يهمك أنني أحمل شهادة عالية، فقد أصبحت الشهادات اليوم عقبة أمامنا، وضاق بي أبي وأصبح في كل يوم يصبحني ويمسيني بقوله: «ها قد تعلمت، فهل جئت بالسبع من ذيله؟ لو تعلمت الصنعة مثلي لكنت اليوم تأتي بأكلك على الأقل.» وحياتي أصبحت لا تطاق حتى أمي أصبحت تضيق بي، اللقمة التي أتناولها في بيتي لا أستطيع أن أبتلعها، فإني أحس أنها حق إخوتي الذين يعملون مع أبي، أو حق أبي الذي يشقى نهاره وليله ليأتي بها، وإني أحس أنظار البيت جميعه تحدق باللقمة في طريقها إلى فمي فتمسك أنظارهم بها وأعيدها إلى الطبق وأقوم ... جوعان، أرى الأكل ولا أطيق أن آكله، تعافه نفسي وأحتاج إليه، أي عمل يا يسري، يا يسري بك.
وانهار صبحي باكيا في نشيج مكتم لا يعلو، ولم يملك يسري إلا أن يقول: الله! صبحي ما بك؟ تشجع إنك رجل!
فقال صبحي: لا رجولة مع الحاجة أبدا.
فقال يسري وقد قام يقف إلى جانب صبحي ويربت كتفه: تهون يا صبحي، تهون إن شاء الله، اسمع. - نعم. - هل أنت متزوج؟
Halaman tidak diketahui