227

The Music of Remembrance

العزف على أنوار الذكر

Genre-genre

وقد جاء عن ابن الأثير أن التقديم في قول الله ﷿: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (الفاتحة:٥) لمكان نظم الكلام ولمراعاة حسن النظم السّجعي (١)
الاقتصار على هذا الأثر النفسي للقيم الصوتية في البيان القرآني غير عَلِيّ القول به بل هنالك ما يصاحبه من الأثر الموضوعيّ المتعقل الذي لا يخحسن البتة الغفلة عن صحبته له، وغن كان لطيفًا في بعض المقامات.
***
وأما النوع الثانى: إيقاع المعاني فإنَّ ذلك بادٍ فيما يكون بين معانى المفردات فى العبارة وبين أنماط التراكيب فى الجمل، وما بين الفصول والمعاقد من توازٍ وتقابلٌ، وترديدٌ، وذلك فى العربية ظاهرة شائع، وهو فى القرآن الكريم جد بديع، فقد وصفه الله ﷾ بأنَّه كتاب متشابه مثانٍ:
﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ (الزمر:٢٣) (٢)

(١) - المثل السائر لابن الأثير - تح: محيي الدين عبد الحميد:٢/٣٦- المكتبة العصرية بيروت
(٢) - بنيت هذه الآية على نهج بديع رفيع:
بني الخبر الجملة الفعلية (نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) على اسم الجلالة فدلّ على تأكيد وقوع الخبر من المخبر به عنه، ودلّ على أن السياق للحديث عن المخبر عنه ﷻ، وأنَّ من جليل ما يخبر عنه إنزال أحسن الحديث، فهذا الخبر مناط عناية منسولة من العناية بالإخبارعن الله = = ولو أنّه قيل: نزّل الله أحسن الحديث، لكانت العناية منوطة بغير ما هي منوطة به فيما جاء به البيان القرآني.
ويأتي قوله (أحسن الحديث) مبرزًا وصف الإحسان الحامل إلى القلب معنى الأفضلية من جهة صيغته، ومعنى التفضّل من جهة مادته، كما سبق أن أشرت إلى معنى الحسن.
ويهدي البيان بقوله (الحديث) إلى تلاحظ هذا النعت مع قوله (نزّل)، وهذا ما يكشفه لك ويقربه إلى قلبك أو يودعه فيه قول الله ﷿: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) (الاسراء:١٠٦) فانظر قوله (فرقناه) وقوله (على مكث) وقوله (نزلناه تنزيلا)
سمَّاه (حديثًا) لا من أنَّه محدثٌ القول به، بل هو حديث إنزال من السماء الدنيا إلى الأرض كلمَّا نزل بالناس في عصر المبعث نازلة نزل فيها بيان الهدى من القرآن الكريم، فجاء قوله: (كتابًا) كانه احتراس مما قد تضل بعض القلوب، فتحسب أنّه لا يجمعه جامع يقيم آياته وسوره المنزلة على مكث، فإذا هوأمشاج وأخلاط، لا تنتسب، فقال (كتابًا)، ونعت هذا الكتاب بالذي هو أحسن الحديث بنعوت مهمة جدًا تكشف عن حقيقة ونعت هذا الكتاب الذي هوأحسن الحديث: مُتَشَابِهًا - مَثَانِيَ - تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ - ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
هذه النعوت الأربعة الأول والثاني منها: (متشابها مثاني) كالسبب، والثالث والرابع: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) كالمسبب، كونه متشابها ومثاني يثمر اقشعرار قلوب الذين يخشون ربهم، ولين قلوبهم وجلودهم.
التشابه يشير لى نعت التوازن والتوازي الحسي والمعنوي في البيان القرآني، وهذا ركن عظيم من أركان الإيقاع الحسي والمعنوي الذي نشعربه في ترتيلنا، وإن عجزنا أحيانا كثيرة عن عقل وضبط ما نشعر به، فيملأ قلوبنا بجلاله مما يفيض على جوارحنا وجلودنا، فتقشعر رهبة من جلاله الذي أثمرته الخشية (الخوف عن علم) فإذا ما قمنا في تلك المنزلة العلية من استشعار الجلال والرهبة أنشرحت الصدور، ففاض النور من ربنا، فتلذذت قلوبنا وجورحنا وجلودنا، فلانت من قسوتها التي كانت عليها من قبل.
والتثنية المقرونة بالتشابه تشير إلى نعت التصريف المبني على التنوع المقيم حجازًا بين النفس والملل، فلا تشبع منه العلماء، فالتثنية التي لا تقوم على التكرار الأجرد ركنٌ عظيم من أركان الإيقاع الحسيّ والمعنوي الذي نستشعره في البيان القرآني.
وممَّا يقوله أهل العلم في معنى (مثاني) أن التثنية أن «تثنّى فيه القصص والمواعظ والأحكام والحكم، مختلفة البيان في وجوه من الحكم، متفاوتة الطرق ففي وضوح الدلالات، من غير اختلاف أصلًا في أصل المعنى، ولا يمل من تكرار، وترداد قراءته وتأمله واعتباره مع أنَّ جميع ما فيه أزواج من الشيء وضده:
المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، والرحمة العامة والرحمة الخاصة، والجنة والنار، والنعيم والشقاء، والضلال والهدى، والسّراء والضّراء، والبشارة والنذارة، فلا ترتب على شيءٍ من ذلك جزاء صريحًا إلاَّ ثُنّي بإفهام ما لضدّه تلويحًا، فكان مذكورًا مرتين، ومرغبًا فيه أو مرهبًا منه كرّتين ...» (نظم الدرر للبقاعي: ٦ / ٤٣٨)
الآية زاخرة بالمعاني الإحسانية، ومما يزيدك اقترابًا من الشعور بها أن تنظر في الآية السابقة عليها (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الزمر:٢٢) وعلاقتها بها.

1 / 227