وظيفة الصورة الفنية في القرآن
وظيفة الصورة الفنية في القرآن
Penerbit
فصلت للدراسات والترجمة والنشر
Nombor Edisi
الأولى
Tahun Penerbitan
١٤٢٢ هـ - ٢٠٠١ م
Lokasi Penerbit
حلب
Genre-genre
المقدمة
كانت السليقة العربية الصافية تساعد أصحابها على إدراك ما في القرآن الكريم من جمال فني، وتصوير جميل، وتعبير معجز.
واستمرت هذه السليقة ردحا من الزمن، إلى أن بدأت تفقد صفاءها، وقدرتها على تذوّق التعبير القرآني، وذلك نتيجة اتساع الفتوحات الإسلامية، ودخول الأجناس المختلفة في نسيج المجتمع الإسلامي، فبدأت حركة تفسير القرآن، وحركة الكشف عن مواضع الإعجاز فيه أيضا.
وتنوّعت الدراسات القرآنية آنذاك، وسارت في مسارات عدة، أهمها تلك الدراسات التي ركزت على البلاغة والأساليب وطرائق التعبير، وتأتي في مقدمتها كتب الجاحظ والجرجاني والزمخشري، والخطابي والرماني والباقلاني وغيرهم.
فقد رأت هذه الدراسات القيّمة أن «البيان» هو سرّ الإعجاز، وبه كان التحدي للعرب قديما فعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، وما زال هذا التحدي إلى يوم الدين.
وتعدّ «الصورة الفنية» قاعدة الأسلوب القرآني الأساسية، وأداته المفضّلة في التعبير عن المعاني المجردة، والحالات النفسية، والمواقف الإنسانية.
وقد تحدّث العلماء في القديم عنها في كتبهم، ولكنها لم تحظ عندهم بدراسة متخصصة مستقلة، كما أن آراءهم حولها، لم تخرج عن الفهم الجزئي المحدود لها، إلى «الفهم الكلي» المدرك لخصائصها الفنية في النص كله.
1 / 7
وحين كثرت الدراسات المعاصرة حول «الصورة» نجد أن الأدباء والنقاد كرّسوا جهودهم على دراسة «الصورة الشعرية»، ولم يهتموا بدراسة الصورة القرآنية، على الرغم من روعة بنائها الفني، وإيقاعها الفريد، وقوة تأثيرها في النفوس، فجاءت هذه الدراسات التنظيرية للصورة قاصرة وناقصة بسبب هذا الإهمال لظاهرة التصوير في التعبير القرآني.
وأستثني من هؤلاء الدارسين «سيد قطب» الذي خصص كتابا مستقلا لها عنوانه «التصوير الفني في القرآن» فكان بذلك أول من لفت الانتباه إلى ظاهرة الإعجاز في التصوير القرآني، ولكنه أيضا قصر دراسته على الجانب الفني دون الجانب الوظيفي لها، كما صرّح هو بذلك في مقدمة كتابه يقول: «إذ كان همي كله موجها إلى الجانب الفني الخالص» «١»، ويقول أيضا: «ولكننا إنما ننظر إليها هنا من الوجهة الفنية البحتة» «٢».
ولهذا رأيت ضرورة دراسة وظيفة الصورة أيضا، ولا سيما أن كتاب سيد قطب مضى على إصداره أكثر من نصف قرن تقريبا، وقد ظهرت في هذه الفترة دراسات نقدية قيّمة، يمكن الاستفادة منها في دراسة الصورة القرآنية.
إن الصورة الفنية في القرآن تخاطب الكينونة الإنسانية مجتمعة بما فيها من عقل وحس ووجدان، وتعزف على أوتار النفس المتقابلة لتقيم التوازن بينها حتى ترتسم صورة الإنسان «النموذج» بأبعاده الفكرية، لهذا كان لا بدّ من دراسة الصورة الفنية دراسة سياقية، تتجاوز الخصائص الفنية للمفردة القرآنية، والتركيب إلى دراستها في «النسق» القرآني كلّه.
وبذلك تتكامل دراسة الصورة من حيث «السياق والنسق» في تقديم المعنى المطلوب، والنموذج الإنساني المنشود، لتتحقق بذلك وحدة الصورة الفنية في وحدة النص.
ويبرز نظام العلاقات في هذه الدراسة السياقية بصورة جلية واضحة، وأعني به نظام العلاقات التعبيرية والتصويرية والفكرية، فهو سرّ الإعجاز في التعبير والتصوير، كما أنه سرّ الإعجاز في خلق الإنسان وتكوينه، وخلق الكون وتصميمه.
وقد حاولت في هذا الكتاب أن أوضح هذا النظام في التصوير الفني في القرآن،
_________
(١) التصوير الفني في القرآن: ص ٩.
(٢) المصدر نفسه: ص ٢٤٢.
1 / 8
فوزّعت الوظيفة للصورة القرآنية إلى قريبة، وبعيدة، وأكّدت على الترابط، وقوة التلاحم بينهما.
وقد استفدت في ذلك من حديث عبد القاهر الجرجاني عن «المعنى» و«معنى المعنى» «٣».
فالمعنى هو الذي يدرك من ظاهر اللفظ، و«معنى المعنى» هو المعنى الآخر المفهوم من المعنى الأول للفظ. وهكذا في وظائف الصورة أيضا، فالقريبة هي المفهومة من ظاهر التصوير الفني، والبعيدة هي ما ترمي إليه الصورة من الأفكار الدينية التي هي غاية التصوير الفني.
وليست هذه الوظائف مفصولة بعضها عن بعض، بل هي متلاحمة كتلاحم الروح بالجسم، ولكنّ الفصل بينها في هذا البحث، جاء لتسهيل عرض المادة العلمية.
وقد وزعت البحث على أبواب وفصول، فالباب الأول مخصص لدراسة طبيعة الصورة، ويعدّ هذا الباب مقدمة ضرورية لتحديد مفهوم الصورة، وعناصرها، وأنواعها، حتى يتضح منهج الدراسة، الذي سأسير عليه في هذا الكتاب.
فبدأت في الفصل الأول، بعرض مفهوم الصورة عند القدماء، والمؤثرات التي أثرت في تحديده، فرأيت أن البلاغيين والنقاد، تأثروا بالمفسرين واللغويين والفلاسفة، في مفهومهم للصورة، فراحوا يركزون على «الشكل» ويضعون له القواعد والمقاييس، دون أن يربطوا ذلك بالنفس أو المضمون، فقصروا الصورة على الجملة، ولم يتجاوزوها إلى دراسة السياق في النص كله، فجاءت آراؤهم جزئية لا تخرج عن هذا الإطار الجزئي المحدود، إلى استخلاص الخصائص الفنية العامة للصورة، ووظائفها
الكلية في نقل الفكر أو الرؤية.
ثم انتقلت إلى النقاد المعاصرين، لأحدّد مفهومهم لها، فرأيت تباينا كبيرا، وغموضا عجيبا، واضطرابا ملحوظا في تحديد مصطلح الصورة، وذلك لاختلاف المذاهب الأدبية، وانطلاق كل ناقد من مذهب معين في دراستها.
فحاولت جمع هذه الآراء في مفهوم موحّد للصورة يجمع بين القديم والحديث، سأسير عليه في دراستي.
وفي الفصل الثاني، قمت بتوضيح خصوصية الصورة القرآنية، وتميّزها بعناصر تشكيلها
_________
(٣) دلائل الإعجاز: ص ٢٦٣.
1 / 9
الفني، واعتمادها على الفكر الإسلامي بالدرجة الأولى في بنائها، فهو المحور الثابت الذي تدور من حوله بقية عناصر التشكيل الفني للصورة، مثل العاطفة والخيال واللغة ...
وفي الفصل الثالث: قسمت أنواع الصورة إلى قسمين رئيسين: صورة مفردة، والأخرى سياقية.
ويتفرع من هذين النوعين، صور جزئية أخرى، ترجع إلى هذين النوعين.
فالصورة المفردة هي الصورة البلاغية، من تشبيه، واستعارة، وكناية، ومجاز مرسل، ومجاز عقلي.
وهي الأنواع البلاغية، التي قصر القدماء الصورة عليها.
والصورة السياقية، هي أعم وأشمل من الصورة المفردة، وتتضمن صورة المشهد، فاللوحة، فالكلية، ثم الصورة المركزية، التي ترجع إليها جميع الصور وبهذا يتوسّع مفهوم الصورة، لتكون قادرة على تحقيق وظيفتها الدينية، وهذه الأنواع للصورة تعتمد نظام العلاقات بينها، فالصورة المفردة، تنمو وتكبر في السياق، لتكوّن صورة المشهد، التي تقوم بدورها أيضا في التفاعل مع السياق لتكوين «اللوحة»، ثم تنمو هذه اللوحة المرسومة لتكوين الصورة الكلية للسورة الواحدة، ثم إن هذه الصور الكلية، تدور من حول الصورة المركزية في النص القرآني كله، لجلائها وإبرازها. تماما كما دارت عناصر التشكيل للصورة من حول «الفكر الإسلامي» المكوّن الأساسي لها، والذي أكسبها هذه الخصوصية، والتميّز.
أما الباب الثاني، فقد عرضت فيه الوظائف القريبة للصورة القرآنية، ووزّعتها على فصول متعددة مراعيا، نمو الصورة في السياق، وانتقالها من الإطار الجزئي في التعبير عن المعاني المجردة، إلى الإطار الكلي، في ضرب الأمثال، وتصوير مشاهد الطبيعة، والتصوير القصصي، ورسم النماذج الإنسانية، وانتقالها أيضا من العالم المحسوس، إلى عالم الآخرة الغيبي، في نقلة واسعة في الحس والشعور والفكر والخيال ..
فنظام العلاقات واضح في توزيع الفصول، أو في الوظائف القريبة للصورة، لتحقيق التأثير الديني في النفوس. كما هو واضح في كل فصل على حدة، وقد راعيت ذلك في تناولي لكل فصل بالتحليل والدراسة.
ففي الفصل الأول عرضت تصوير المعاني الذهنية، والحالات النفسية، وحاولت أن أبرز
1 / 10
نظام العلاقات التصويرية والتعبيرية والفكرية فيه، فجمعت الصور في وحدات أو مجموعات مترابطة، لأداء المعاني، وربطتها بسياقها الواردة فيه. وأحيانا، كنت أتابع الصور في نموّها ودقتها في تصوير المعنى الواحد، لاستيفاء عناصر التصوير للمعنى من جميع جوانبه، كما سيتضح ذلك في الفصل المدروس.
وهكذا سرت في الفصل الثاني، فجمعت الأمثال القرآنية في مجموعات أو وحدات، وبيّنت ما فيها من ترابط وتناسق في كل مجموعة أو وحدة على حدة، ثم ترابط المجموعة من الأمثال، مع غيرها، في حركة تفاعل سياقية لتوضيح الفكر أو الرؤية الدينية.
وفي الفصل الثالث أيضا، عرضت تصوير مشاهد الطبيعة، ضمن نظام العلاقات التصويرية، فرتبت المشاهد في مجموعات متناسقة مترابطة، منها ما يتعلق بالسماء، ومنها ما يتعلق بالأرض، ومنها، ما يتعلق بالنبات والزروع وغير ذلك، وأبرزت ما بين هذه المشاهد الطبيعية، من تفاعل وتعاون، لإبراز الفكر الديني.
وفي الفصل الرابع، تناولت تصوير الحوادث الواقعة، في زمن نزول القرآن، وركزت على نمو التصوير، مع حركة تطور الأحداث، وكيف رسمت الصورة الأحداث، من خلال التركيز على جوانب منها، لأن هدف التصوير ليس التسجيل التاريخي للأحداث، وإنما تحقيق العظة والاعتبار منها.
لهذا أهملت الصورة ذكر أسماء الأشخاص، وتحديد الأزمنة والأمكنة وذلك حتى تكتسب الأحداث المصورة، وما صاحبها من توجيه ديني، صفة الشمول والبقاء.
وفي الفصل الخامس: عرضت التصوير القصصي، وأبرزت نظام العلاقات، في توزيع حلقات القصة على سور القرآن المختلفة، وذلك لتحقيق الأغراض الدينية.
فالقصة القرآنية، لا تعرض حلقاتها كاملة في سورة واحدة ما عدا قصة يوسف- بل توزّع على سور القرآن، حسب الإنسان التي تقتضيها، ضمن نظام العلاقات في الأسلوب القرآني.
ولكن هذه الحلقات لو جمعت. من أنساقها الواردة فيها، لشكلت قصة مكتملة، بحلقاتها، وتكامل أحداثها، وأشخاصها، وتعتبر قصة يوسف نموذجا للقصة القرآنية في تكامل أحداثها وأشخاصها، وهي القصة الوحيدة، التي عرضت في سورة واحدة من بدايتها إلى نهايتها.
1 / 11
وفي الفصل السادس: تحدثت عن النماذج الإنسانية التي ترسمها الصورة، وهي نماذج خيرة للاقتداء والاحتذاء، ونماذج شريرة، للتحذير منها، والابتعاد عنها.
وفي الفصل السابع: تناولت تصوير مشاهد القيامة، وعرضتها ضمن نظام العلاقات بين الصور، مرتبا هذه المشاهد حسب الأحداث الهائلة ليوم القيامة، فبدأت بتصوير النفخة، وما يعقبها من مشاهد كونية، في السماء والأرض، والجبال والبحار، ثم مشاهد خروج الناس من القبور ثم مشاهد الحشر، ثم مشاهد الحساب والميزان، ثم مشاهد النعيم، ومشاهد العذاب، وعرضت ما في مشاهد النعيم. من صور مترابطة تعتمد نظام العلاقات التصويرية، فتبدأ بتصوير مساحة الجنة، وأبوابها، وحراسها، وما يحيط بالمكان من أشجار وأنهار، ثم وفود أهل الجنة إليها، ثم تصوير ما في الجنة من أنواع النعيم الحسي والمعنوي، يشمل الطعام، والشراب، واللباس، والمجلس، والأثاث، والسمر، والأحاديث، وهكذا أيضا عرضت صور العذاب بنفس الطريقة التصويرية في النعيم، لكي تكون الصورتان متقابلتين في الأذهان، فتتضح الفروق في الثواب والعقاب.
والباب الثالث، تناولت فيه الوظائف البعيدة، ووزّعتها على أربعة فصول:
ففي الفصل الأول عرضت الوظيفة الفنية للصورة، وهي غرض مقصود من أغراض التصوير الفني في القرآن الكريم، لأن قضية الإعجاز في القرآن، تهدف إلى تحقيق غرض ديني، وهو إثبات أن هذا القرآن منزل من عند الله.
لهذا تحدى القرآن العرب أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله، فعجزوا، فثبت الإعجاز في أسلوبه وبيانه، وبذلك يتلاحم الغرض الفني بالغرض الديني، لتحقيق الإعجاز في القرآن الكريم.
وقد جعلت هذا الفصل أيضا يعتمد نظام العلاقات، في تشكيل الحروف، والكلمات، والجمل، والسياق العام، والإيقاع الموسيقى، والوحدة الفنية للصورة.
وفي الفصل الثاني، وضحت أن الصورة القرآنية، لا تكتفي بإثارة المشاعر الإنسانية على نحو مبعثر، وإنما تثيرها، ضمن نظام خاص، لإقامة التوازن بين المشاعر المتقابلة، لبناء النفس الإنسانية، على أساس التوازن بين المشاعر المتناقضة.
وفي الفصل الثالث انتقلت إلى الوظيفة العقلية، لأبيّن طريقة الصورة، في إيقاظ
1 / 12
العقل، لكي يستقبل الحقائق الدينية، كما أن الوظيفة العقلية، تسعى إلى مهمة أكبر، وهي تشكيل العقل على أسس جديدة، من التأمل والملاحظة في الكون المحسوس، لاستخلاص الحقائق أو القوانين المبثوثة فيه.
وقد اعتمدت الصورة على الجدل، والقياس، والمناظرة، والتمثيل وغير ذلك، لتحقيق هذه الوظيفة ثم انتقلت في الفصل الرابع إلى الوظيفة الدينية التي هي الوظيفة الأساسية للصورة، وهي بمنزلة المحور الثابت الذي تدور من حوله جميع الوظائف الأخرى، وذلك لخصوصية النص القرآني، باعتباره كتابا منزلا من عند الله سبحانه.
وفي الختام:
أشكر زوجتي وأولادي الذين وفّروا لي ظروف الكتابة وأجواءها، كما أشكر الإخوة والأصدقاء جميعا الذين شجعوني على طباعة هذا الكتاب، وأسأل الله سبحانه أن يوفقنا لخدمة كتابه العزيز. إنه سميع مجيب.
1 / 13
الباب الأول طبيعة الصورة
الفصل الأول: مفهوم الصّورة.
الفصل الثاني: مقوّمات الصورة الفنيّة في القرآن الكريم.
الفصل الثالث: أنواع الصّور في القرآن الكريم.
1 / 15
الفصل الأول مفهوم الصورة
أصبحت قضية «الصورة» من القضايا الأساسية في النقد العربي الحديث، لأنها متصلة اتصالا مباشرا بنظرية المعرفة الإنسانية، بجانبيها الفلسفي، والأدبي.
بيد أن الصورة على الرغم من أهميتها في الدراسات الحديثة، وخطورتها في الوقت نفسه، فإنها ما زالت مصطلحا غامضا، ينظر إليها كل ناقد، من خلال رؤيته المعرفية، ومذهبه الأدبي.
ومن هنا جاءت الدراسات النقدية متباينة في فهمها، كما جاءت تطبيقاتها في الشعر، مختلفة في مناهجها ونتائجها. على الرغم من أن مصطلح «الصورة» قديم في تراثنا الأدبي والفكري يرجع إلى استعمالات القرآن لهذا المصطلح بصيغ مختلفة، في سياق تكريم الإنسان، وتفضيله، وبيان ميزته على سائر المخلوقات، كما أن الجاحظ، قد لفت انتباه الأدباء والنقاد لهذا المصطلح، وأهميته في العمل الأدبي ولكن الدراسات البلاغية والنقدية، ضيّقت من مفهوم الصورة، وحصرتها في أنواع وأشكال لا تتعداها فأثّر هذا الفهم الجزئي، في تذوق النص القرآني، وما فيه من شمول، وتنوّع، وصل إلى حدّ الإعجاز للبشر، في تعبيره، وتصويره، وقوة تأثيره.
وكان من المفترض لدى النقاد المعاصرين، أن يهتموا بدراسة الصورة القرآنية، لأنها تصلح نموذجا يحتذى في تناسق التعبير مع التصوير، وتناسق الصورة مع المعنى، أو الشكل مع المضمون، كما تصلح نموذجا أيضا لتنوع الصور، وتفاعلها مع السياق، حتى أصبح النص كله مجسّدا للفكرة الدينية المطلوبة.
1 / 17
ولكن النقاد المعاصرين أهملوا الصورة القرآنية في دراساتهم النقدية والأدبية، تنظيرا وتطبيقا، وفضّلوا قصرها على الصورة الشعرية فقط، فجاءت أحكامهم مقصورة على الشعر لا تتعداه إلى أجناس التعبير الأخرى، ولا تكتمل دراسة الصورة إلا بدراسة الصورة القرآنية أيضا لمعرفة ما فيها من خصوصية في التعبير والتصوير.
إن الصورة القرآنية، لا يمكن أن تفهم من خلال الدراسات البلاغية القديمة لها فحسب وإنما لا بدّ من توسيع مفهوم الصورة القرآنية، لكي تستطيع استيعاب الفكر الإسلامي الذي تجسّده.
لهذا سأحاول في هذا الفصل أن أدرس مفهوم الصورة بين القديم والحديث، وما وقعت فيه البلاغة القديمة من الفهم الجزئي للصورة، والتركيز على الشكل دون المضمون، نتيجة مؤثرات عدة، لأصل في النهاية إلى أن الدراسات القديمة، لا تستوعب كل الصور القرآنية، ولا تبرز خصوصيتها في بنائها الفني المعتمد على الفكر الديني، ووظيفتها الهادفة لتحقيق الغرض الديني من التصوير. لهذا لا بدّ من توسيع مفهومها لتستوعب هذا الفكر، وتقوم بإيصاله. كما أن الدراسات الحديثة للصورة، اقتصرت على الشعر، واضطربت في فهمها على الرغم من محاولة النقاد المعاصرين التوسيع من مفهومها، وقد قسمت هذا الفصل إلى فقرتين أساسيتين، أدرس في الأولى مفهوم الصورة عند القدماء وفي الأخرى مفهومها عند المعاصرين.
أ- الصورة عند البلاغيين والنقاد القدماء:
اهتم البلاغيون والنقاد العرب بدراسة الصورة، وتحليل أركانها، وبيان وظائفها. من خلال دراساتهم للأسلوب القرآني الذي اعتمد الصورة في التعبير عن أغراضه الدينية، والشعر العربي الذي حفل بها حتى لا تكاد تخلو قصيدة شعرية منها.
ولكن آراءهم حول الصورة جاءت متأثرة بآراء اللغويين والمفسرين والفلاسفة الذين يحدّدون مدلول الكلمة في الشكل دون المضمون غالبا:
ففي المعاجم العربية يدور مدلول كلمة الصورة حول الشكل الخارجي، فقد جاء في القاموس المحيط «الصورة بالضم: الشكل والجمع صور وصور، وقد صوّره فتصوّر، وتستعمل
1 / 18
الصورة بمعنى النوع والصفة ...» «١» ولفظ «الصورة» اسم مصدر من فعل رباعي «وقد صوّره فتصور» وقد ورد مصدر الفعل قياسيا بصيغة «تصوير».
ووردت عين اللفظة واوا أو ياء بمعنى واحد، «قال الأزهري: ورجل صيّر شيّر أي حسن الصورة والشارة»، وقال ابن سيدة: الصورة في الشكل، ونقل عن الجوهري عن الكلبي في قوله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ الأنعام: ٧٣، ويقال هو جمع صورة مثل بسر وبسرة أي ينفخ في صور الموتى الأرواح. قال: وقرأ الحسن: (يوم ينفخ في الصور) بفتح الواو.
وقد يراد بالصورة الوجه من الإنسان أو الهيئة من شكل وأمر وصفة «٢».
وقد وردت كلمة «الصورة» في القرآن الكريم ست مرات. بصيغ مختلفة، فذكرت بصيغة الماضي والجمع في قوله تعالى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ غافر: ٦٤، وبصيغة الماضي فقط، في قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ الأعراف: ١١، وبصيغة المضارع، في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ آل عمران: ٦.
وبصيغة اسم الفاعل، في قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ الحشر: ٢٤.
وبصيغة المفرد «صورة» في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ الانفطار: ٦ - ٧.
وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن «الصورة» هي «الشكل».
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أي أحسن أشكالكم «٣».
وقال القرطبي: خلقكم في أحسن صورة «٤». ويرى الزمخشري أن الله خلق الإنسان على هيئة ميّزته عن سائر المخلوقات «٥».
فالصورة- عند هؤلاء المفسرين- تعني: الشكل الخارجي للإنسان، ولا تدل على الجانب المعنوي فيه، وإذا دققنا- نحن- في استعمالات مادة الصورة في القرآن الكريم واختلاف صيغها، نجد أنها وردت في صدد الحديث عن الإنسان، وفي سياق تذكيره بنعمة الله عليه
_________
(١) القاموس المحيط: مادة صور.
(٢) لسان العرب مادة (صير) ومادة (صور).
(٣) تفسير القرآن الكريم: ابن كثير ٤/ ١٠٦
(٤) الجامع لأحكام القرآن: القرطبي ١٥/ ٣٢٨.
(٥) الكشاف: الزمخشري ٣/ ٤٣٥.
1 / 19
في خلقه وتكوينه، وتمييزه عن سائر المخلوقات الأخرى، ولا يكون هذا التميّز عن سائر المخلوقات الأخرى بالشكل فحسب، وإنما أيضا بالعقل والإدراك والشعور.
وبذلك يمكن أن نوسّع من مدلول استعمال الكلمة في القرآن ليشمل الشكل والمضمون معا. وهذا المفهوم ينسجم مع آيات أخرى في القرآن، تعدّ المشركين كالأنعام، لأنهم فقدوا ميّزة الإنسان، في الإدراك والتفكير، وإن كانوا في صورة الآدميين في الظاهر.
ولكن المفسرين- على ما يبدو- كانوا ينطلقون في تفسير كلمة الصورة، من اللغة التي تدور دلالتها في المعاجم، حول الشكل الخارجي للأشياء.
ونضيف إلى ذلك التأثر بالمفهوم الفلسفي اليوناني للصورة وبالذات الفلسفة الأرسطية، فقد عرف العرب كلمة الصورة بمعناها الفلسفي التي تفصل بين «الصورة والهيولى» والصورة هي الشكل، والهيولى هي المادة، فالمنضدة هيولاها الخشب والغراء، وصورتها هي التركيب المخصوص للخشب والغراء حتى يظهر في شكل معين «٦».
وقد دعم هذا الفصل بين الصورة والهيولى فكرة المعتزلة، التي تفصل بين اللفظ والمعنى، في تفسير القرآن الكريم كما أثر في الدراسات الأدبية والبلاغية أيضا «٧».
هذه المؤثرات اللغوية والدينية والفلسفية، وجّهت البلاغيين والنقاد، نحو التركيز على الشكل في دراسة الصورة، ويعدّ الجاحظ (ت ٢٥٥ هـ) أول من لفت الانتباه إلى الصورة في العمل الأدبي بقوله: «فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير» «٨».
وقد أثارت هذه العبارة جدلا بين النقاد في تحديد مدلولها، فالدكتور كامل بصير يرى أن عبارة الجاحظ حول التصوير، تشمل اللفظ والمعنى معا، أو الشكل والمضمون. وهذا المفهوم- برأيه- يعدّ امتدادا لمدلولها في اللغة والقرآن، وقد حاول تأويل النصوص اللغوية والقرآنية، وتحميلها من الأفكار ما لا تحتمله، حتى يرجع مفهوم الصورة إلى أصول عربية، ونفي أي تأثر بالثقافات الأجنبية «٩».
_________
(٦) الصورة في الشعر العربي: د. علي البطل ص ١٥.
(٧) الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي: د. جابر عصفور ص ٣٤٧ وما بعدها.
(٨) كتاب الحيوان: الجاحظ ج ٣ ص ١٣١ - ١٣٢.
(٩) بناء الصورة الفنية في البيان العربي: د. كامل البصير ص ٢٤ - ٢٨.
1 / 20
والظاهر من عبارة الجاحظ؛ أنه ينحاز إلى الشكل في مفهومه للتصوير مقلّلا من أهمية المعنى، كما يرى الدكتور إحسان عباس «١٠». ولكن لماذا اتجه الجاحظ هذا الاتجاه الشكلي في التصوير مع أنه ليس من الشكليين في التطبيق؟
قد يكون هدف الجاحظ من عبارته المذكورة الرد على أستاذه النظّام الذي يقول «بالصرفة» في إعجاز القرآن فأراد الجاحظ أن يرجع الإعجاز إلى صياغة القرآن الكريم ونظمه، وليس لقانون «الصّرفة». أو لعله يريد أن يرد على النقاد الذين انصرفوا إلى متابعة الشعراء في «سرقات المعاني»، أو ربما يرجع السبب إلى الجاحظ نفسه الذي لم يكن يعجزه الموضوع أو المعنى، فأحس بأن المعنى مبذول في الطريق، وأن القيمة تكمن في الصياغة والتصوير، فالجاحظ لم يكن يدور في ذهنه أن يفضل الشكل على المضمون في عبارته هذه، أو أن تصبح هذه العبارة «نظرية» مطبقة عند البلاغيين من بعده، الذين انصرفوا إلى العناية بالصورة الشكلية على حساب المعاني والأفكار.
ثم جاء قدامة بن جعفر (ت ٣٣٧ هـ) فاتجه اتجاها شكليا، في فهم الصورة، متأثرا بالثقافة اليونانية وفلسفتها في الفصل بين «المادة والهيولى»، ويقيس الصورة الفنية في الشعر على الصورة في المواد المحسوسة، مكررا رأي الجاحظ في قياسها على المواد المحسوسة كالخشب والفضة وغيرهما، وكأن الصورة تعني تشكيل المادة في هيئة معينة يقول: «إن المعاني كلها معرضة للشاعر، وله أن يتكلم منها فيما أحب وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه. وإذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيه كالصورة، كما يوجد في كل صناعة من أنه لا بد فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصورة فيها، مثل الخشب للنجارة والفضة للصياغة» «١١».
فقدامة في هذه العبارة لا يقدم مفهوما جديدا للصورة، وإنما يكتفي بالتركيز على الفصل بين المادة والصورة. فيعتبر «الصورة» تقابل «المادة»، وكأنها هيئة خارجية لها أو شكل، فهو يفصل بين الشكل والمضمون، ليطلق حرية الشاعر في اختيار المعاني التي يريد، طالما صحت الأشكال الخارجية للشعر. وهذا الفهم للصورة هو فهم الفلاسفة الذي يفصلون بين
_________
(١٠) تاريخ النقد الأدبي عند العرب: د. إحسان عباس ص ٩٨ - ٩٩.
(١١) نقد الشعر: قدامة بن جعفر: ص ١٤.
1 / 21
المادة والصورة «١٢». فالعمل الأدبي- في طبيعته- لا يمكن أن يقرّ هذا الفصل بين الشكل والمضمون، فهما متلاحمان فيه كتلاحم الروح في الجسد. وقد قام عبد القاهر الجرجاني فيما بعد بالقضاء على هذه الثنائية في فهم الصورة، فربط بين الشكل والمضمون في نظريته المعروفة ب «نظرية النظم» وسوف أتحدث عنه بعد قليل.
ويلتقط الرماني (ت ٣٨٦ هـ) فكرة التصوير من الجاحظ، ويخطو بها خطوة أخرى، فيطوّرها من خلال تطبيقها على استعارات القرآن الكريم وتشبيهاته، ويصبح مفهوم «التصوير» أكثر تحديدا عنده.
فالتصوير عند الرماني هو «تجسيد المعنويات في صورة المحسوسات التي ترى بالأبصار» «١٣». وتقوم الصورة البلاغية عنده بنقل المعنى المجرد إلى الحس العيني، فقوله تعالى: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ الملك: ٨ «الاستعارة أبلغ لأن مقدار شدة الغيظ على النفس محسوس» «١٤»، وقوله: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ آل عمران: ١٨٧، التعبير بالاستعارة أبلغ «لما فيه من الإحالة على التصور» «١٤»، وقوله: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ إبراهيم: ١، «والاستعارة أبلغ لما فيه من البيان بالإخراج إلى ما يدرك بالأبصار» «١٤».
ويتحدث عن وجوه التشبيه الأربعة:
فالأول: هو إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة.
والثاني: إخراج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به العادة.
والثالث: إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة.
والرابع: إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة في الصفة «١٧».
ويمكن حصر هذه الوجوه الأربعة للتشبيه في وجهين اثنين هما: تجسيد المعنوي في صورة حسية، والانتقال من صورة حسية إلى صورة حسية أكثر وضوحا.
ويبدو أن الرماني قد توصّل في دراسته للإعجاز في القرآن إلى تميّز التشبيه والاستعارة
_________
(١٢) تاريخ النقد الأدبي عند العرب: ص ١٨٩ وما بعدها.
(١٣) الصورة بين القدماء والمعاصرين: الدكتور محمد إبراهيم عبد العزيز شادي. ص ١٨.
(١٤) النكت في إعجاز القرآن: للرماني ص ٨٠، ٨٤، ٨٥ (ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن).
(١٧) المصدر السابق: ص ٧٤ - ٧٨.
1 / 22
فيه بهذه الوجوه التي ذكرها، بحيث يمكن اعتبارها مجتمعة سمات «الصورة القرآنية» «١٨».
ولكن على الرغم من هذه الآراء القيمة، حول الصورة القرآنية، فإنها تظل تدور في إطارها الحسي والجزئي، لا تتعدى الآية القرآنية الواحدة المتضمنة للصورة، مكتفيا الرماني بالإشارة إلى جمال الاستعارة أو التشبيه دون أن يربط الصورة بالسياق الواردة فيه، أو يتجاوز الصورة البلاغية في الجملة إلى الصورة في السياق. كما أنه ظلّ يركّز على «الشكل» من خلال إلحاحه على «الصورة البصرية» في نماذجه التي وقف عندها. ويحيل كلّ أنواع الصور القرآنية إليها، علما بأن الصورة في القرآن أعمّ من ذلك وأشمل، فهي تربط بين المحسوس وغير المحسوس أو بين الصورة الحسية والمعنوية، فلا يمكن الفصل في الصورة القرآنية بين الحسي والمعنوي أو بين الصورة المفردة والسياق، أو بين الصورة والمعنى الديني.
والإعجاز القرآني لا يرجع إلى هذه الصورة البلاغية الجزئية مفصولة عن سياقها فقط، وإنما يكمن الإعجاز التصويري في تشابك العلاقات بين الصورة الجزئية والكلية، ضمن بناء الصورة العام، كما سأوضح ذلك في الفصول القادمة، إن شاء الله.
وقد أثّر الرماني في أبي هلال العسكري (ت ٣٩٥ هـ) تأثيرا كبيرا، فنرى العسكري يأخذ فكرة الرماني أخذا حرفيا، ويتوقف عند الشواهد القرآنية نفسها تقريبا «١٩»، ولكنه يلحّ على «الصورة البصرية» أكثر من الرماني، ويرجع جمال الاستعارات في القرآن إلى إخراجها «ما لا يرى إلى ما يرى» «٢٠».
ففي قوله تعالى: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ آل عمران: ١٨٧، يقول: «حقيقته غفلوا عنه والاستعارة أبلغ لأن فيه إخراج ما لا يرى إلى ما يرى» «٢١»، وقوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ الإسراء: ٢٩، يقول: «حقيقته لا تكونن ممسكا، والاستعارة أبلغ، لأن الغلّ مشاهد، والإمساك غير مشاهد، فصوّر له قبح صورة المغلول ليستدل به على قبح الإمساك» «٢٢»،
_________
(١٨) الصورة بين القدماء والمعاصرين: ص ٢٠.
(١٩) كتاب الصناعتين: لأبي هلال العسكري. ص ٢٦٢ - ٢٦٤.
(٢٠) المصدر السابق: ص ٢٩٩.
(٢١) المصدر السابق: ص ٣٠٢.
(٢٢) المصدر السابق: ص ٣٠٣.
1 / 23
وقوله تعالى: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ هود: ٨٠ يقول: «أي إلى معين، والاستعارة أبلغ، لأن الركن مشاهد، والمعين لا يشاهد» «٢٣»، وقوله تعالى: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ الأعراف: ٢٢ يقول:
«أخرج ما لا يرى من تنقصهم بآيات القرآن إلى الخوض الذي يرى، وعبر عن فعل إبليس الذي لا يشاهد بالتدلّي من العلوي إلى سفل وهو مشاهد» «٢٤».
ويلاحظ في تحليل العسكري لآيات القرآن المذكورة إلحاحه على أفعال الرؤية والمشاهدة، لأنه يركّز على الصورة «البصرية» أكثر من الرماني، ولكن أبا هلال العسكري حاول الاجتهاد في فكرة «التصوير» الجاحظية مستخدما كلمة «الصورة مع فعلها» حين قال: «فصوّر له قبح صورة المغلول ...» ولا شكّ في أنه قد تأثّر بفكرة الجاحظ. كما استفاد من تحليل الرماني لآيات القرآن على ضوء فكرة التصوير، فألحّ على الجانب الحسي البصري في الاستعارة، ولكنه لم يستطع أن يخرج عن شواهد الرماني وأفكاره وأسلوبه في تحليل الآيات القرآنية، فظلّ يتعامل مع مفهوم الصورة بإطارها الشكلي والجزئي، فقصرها على الاستعارة والتشبيه فقط كالرماني، ولم يربطها
بالمعنى والسياق، مع أن فكرة التصوير أعم وأشمل من التشبيه والاستعارة، إذا نظرنا إلى الأسلوب القرآني الذي يتخذ الصورة وسيلة للتعبير عن أعراضه الدينية بحيث يمكن أن يعدّ أسلوبه كله أسلوبا تصويريا ما عدا الآيات المتعلقة بالتشريع طبعا، هذه النظرة الشمولية للأسلوب القرآني التصويري، تثري مفهوم «الصورة الفنية» وتنقلها من إطارها الجزئي إلى مفهوم كلي شامل مرتبط بالسياق كله الذي يقوم على نظام العلاقات بين الصورة البلاغية المفردة، والصورة السياقية، وهذا ما حاول أن يقوم به الناقد الذوّاقة عبد القاهر الجرجاني.
فقد حاول الجرجاني (ت ٤٧١ هـ) بعبقريته الفذّة، أن يصحّح المفاهيم النقدية الخاطئة من قبله، والتي قامت على الفصل بين اللفظ والمعنى. فنظرت على ضوء هذه الثنائية بين اللفظ والمعنى، إلى حصر الصورة في الشكل دون المضمون. فقام الجرجاني بربط الصورة بالصياغة أو النظم، والصياغة عنده متحدة بالمعنى ولا تنفصل عنه، فأي تغيير في الصياغة يتبعه تغيير في الصورة، لأن الصورة تفهم من خلال «النظم» يقول الجرجاني: «ومعلوم أن
_________
(٢٣) كتاب الصناعتين: ص ٣٠٣.
(٢٤) المصدر السابق: نفس الصفحة.
1 / 24
سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير، والصوغ فيه، كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار.
فكما أن محالا إذا أردت النظر في صوغ الخاتم، وفي جودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل وتلك الصنعة، كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه» «٢٥».
ويتضح من عبارته هذه أن الصياغة- عنده- تعني الصورة، والصورة تعني الصياغة أو النظم، ومعيار الجودة ليس في المادة المكونة للصورة، وإنما في التشكيل الفني للصورة، لأن الصورة هي التي تجعل الفضة خاتما أو سوارا «٢٦».
ويلاحظ أن الجرجاني ما زال يقيس الصورة في الكلام على الصورة في المواد المحسوسة، ولكنه يزيل اللبس الذي لحق بأقوال سابقيه حول الفصل بين اللفظ والمعنى، أو المادة والصورة، ويرى أن العلاقة بين الصورة ومادتها علاقة تفاعل وانصهار لتوليد المعنى المراد، فليس هناك ثنائية منفصلة بين اللفظ والمعنى وإنما هناك التفاعل لتوليد عنصر جديد ثالث هو «الصورة».
فنحن- كما يرى الجرجاني- لا ننظر في صوغ الخاتم إلى مادته الذهبية أو الفضية المصنوع منها، وإنما ننظر إلى جودة صياغته. وقياسا على ذلك فإن جودة الكلام لا ترجع إلى معناه، بل ترجع إلى بلاغة نظمه، وجودة صياغته.
ويوضّح الجرجاني طبيعة الصورة فهي «تمثيل وقياس» وهي أيضا إبراز للمعنويات في صور المرئيات يقول: «واعلم أن قولنا صورة إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا» «٢٧».
ويشعر الجرجاني بالخطوة الجديدة التي يضيفها إلى مفهوم الصورة ودور العقل في تشكيلها، فيلفت الانتباه إلى أن مصطلح الصورة قديم، أشار إليه الجاحظ من قبل. يقول الجرجاني: «وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه فينكره منكر بل هو مستعمل
_________
(٢٥) دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني. ص ٢٥٤ - ٢٥٥.
(٢٦) الصورة البلاغية عند عبد القاهر الجرجاني: الدكتور أحمد علي دهمان ج ١ ص ٣٨٩ - ٣٩٠.
(٢٧) دلائل الإعجاز: ص ٥٠٨.
1 / 25
مشهور في كلام العلماء ويكفيك قول الجاحظ: إنما الشعر صياغة وضرب من التصوير» «٢٨».
والفرق واضح بين الجاحظ والجرجاني في مفهوم الصورة، فالجاحظ يعتبر الشعر ضربا من التصوير، بينما الجرجاني يعتبر الشعر تصويرا كله، لأن التصوير عند الجرجاني هو الهيئة التي تتشكل فيها المعاني حقيقية أو مجازية.
وتصوير المعاني يعني نظمها على هيئة مخصوصة. ويهدف الجرجاني من ربطه الصورة بالسياق اللغوي أن يقضي على الثنائية بين اللفظ والمعنى، وما أثير من جدل نقدي حول تفضيل أحدهما على الأخر. فاختار الجرجاني اسما بديلا لهما هو «صور المعاني» ويعني بها الصورة التي تتشكل فيها المعاني. ويعرض الجرجاني للأنواع البيانية كالتشبيه والاستعارة والكناية، في كتابه «دلائل الإعجاز» ليثبت أن جمال هذه الأنواع لا يرجع إلى حسن ألفاظها وإنما يرجع إلى أنها «صور للمعاني» «٢٩».
ويتوسّع الجرجاني في مفهوم الصورة، فيرى أنها متعددة العناصر، فقد تعتمد على الأنواع البيانية المعروفة، وقد تعتمد على أشكال أخرى، كالتقديم والتأخير أو القصر أو الخبر أو الإنشاء ونحو ذلك «٣٠»، ولكن الجرجاني يعتبر الأنواع البيانية كالتشبيه والتمثيل والاستعارة. أهم عناصر الصورة المكوّنة لها، فهي الأصول التي تدور المعاني حولها، وإليها يرجع محاسن الكلام غالبا يقول: «فإنّ هذه أصول كبيرة كان جلّ محاسن الكلام- وإن لم نقل كلها- متفرعة عنها وراجعة إليها، وكأنها أقطاب تدور عليها المعاني في متصرفاتها وأقطار تحيط بها من جهاتها» «٣١»، فالجرجاني لا يحصر الصورة في الأنواع البيانية المعروفة، وإنما يتوسّع في مدلولها، ويجعلها إطارا عاما تتشكّل فيه المعاني، وتظهر فيه كل الأساليب الفنية بيانية وغير بيانية «٣٢».
ويخصّص الجرجاني كتابه «أسرار البلاغة» للحديث عن عناصر تشكيل الصورة مثل التشبيه والاستعارة والتمثيل كما خصّص «دلائل الإعجاز» لربط الصورة بالصياغة أو النظم
_________
(٢٨) دلائل الإعجاز: ص ٥٠٨.
(٢٩) المصدر السابق: ص ٢٦٤ - ٢٦٥.
(٣٠) الصورة بين القدماء والمعاصرين: ص ٢٦.
(٣١) أسرار البلاغة: عبد القاهر الجرجاني. ص ٢٠.
(٣٢) الصورة بين القدماء والمعاصرين: ص ٣٢.
1 / 26
كما بيّنا آنفا. فهو في «أسرار البلاغة» يتحدث عن «بناء الصورة» ودور العقل في تشكيلها أحيانا.
فالاستعارة أنواع، منها ما يكون الشبه مأخوذا من الصور العقلية كاستعارة النور للبيان والحجة، والصراط للدين، وهذا اللون هو من صميم الاستعارة «٣٣».
كما يتحدث عن الصور الحسية في أثناء حديثه عن التشبيه والتمثيل والفروق بينهما، ويقف عند تفصيلات الصورة الحسية بأنواعها مثل اللون والهيئة والحركة، والصوت، والذوق، واللمس ... إلخ «٣٤».
ونحن نجد النقد الحديث يعنى بدراسة الصورة الحسية ودلالتها على اتجاه الشاعر أو الأدب، فهناك الشعراء يكثرون من الصور البصرية، وآخرون يميلون إلى الصور السمعية وهكذا.
والجرجاني في حديثه عن الصور العقلية، والصور الحسية، كان قصده أن يبيّن عناصر تشكيل الصورة، وطريقة بنائها، فمرّة تعتمد الصورة على العقل في تشكيلها، وأخرى على الحواس المعروفة، ولم يكن الجرجاني يهدف إلى تقديم مفاهيم جديدة للصورة كما ذهب إلى ذلك الدكتور محمد إبراهيم شادي «٣٥».
ويرى الدكتور أحمد دهمان أن الجرجاني «لم يستخدم مصطلح الصورة استخداما واحدا في كتابيه، فأحيانا يشير به إلى التقديم الحسي للمعنى ممثلا بالاستعارة والكناية والتمثيل، وأحيانا يشير إلى الشكل العام للكلام وطريقة الصياغة» «٣٦».
وهذا الرأي الذي توصّل إليه الدكتور دهمان غير دقيق، لأن مفهوم الصورة عند الجرجاني واحد، وليس متعددا كما أشار الدكتور محمد شادي من قبل أو يدور حول مدلولين أو مصطلحين كما فهم الدكتور دهمان فنحن حين نقرأ تحليل الجرجاني لبعض آيات القرآن أو بعض الأشعار، لا نحس بهذه الازدواجية في مفهوم الصورة بل نحس بالمفهوم الواضح المميّز للصورة. ففي قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا مريم: ٤ نجد الجرجاني
_________
(٣٣) أسرار البلاغة: ص ٤٩.
(٣٤) المصدر نفسه: ص ٧١ - ٧٢.
(٣٥) الصورة بين القدماء والمعاصرين: ص ٣٠.
(٣٦) الصورة البلاغية عند عبد القادر الجرجاني: ج ٢ ص ٦٢٦.
1 / 27
يحلّل الصورة وفق مفهومه لها في ربطها بالصياغة الفنية، ولا ينظر إليها من خلال ألفاظها المفردة، ويرى أن الناس يرجعون جمال هذه الصورة إلى الاستعارة دون سواها، ولم ينظروا إلى الصورة من خلال جمال النظم. فالإسناد الوارد في الصورة هو مصدر جمالها وحسنها، فلو قيل «واشتعل شيب الرأس» ما بقي للصورة هذا الحسن والجمال، ويعلّل الجرجاني سرّ الجمال في إسناد الاشتعال للرأس بأنه «يفيد مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصل المعنى الشمول، وأنه قد شاع فيه وأخذه من نواحيه ...» «٣٧».
فالجرجاني يركّز على أن الصورة هي في النظم أو الصياغة، ليثبت أنّ الإعجاز في القرآن يرجع إلى نظمه وصياغته، وأنّ الاستعارة الواردة في الآية هي من عناصر تشكيل الصورة. فليس هناك مصطلحان للصورة عند الجرجاني في كتابيه، وإنما هو مصطلح واحد، وضّحه في كتابه الدلائل ثم خصّص كتابه الأسرار لتوضيح عناصر التصوير وأدواته.
ولولا سيطرة قضية الألفاظ والمعاني عليه لتوصّل إلى قضايا نقدية أخرى متعلقة بالصورة، ولكنّ هذه القضية صرفته عن كثير مما كان وشيكا أن يصل إليه كما يقول سيد قطب عنه «٣٨».
وقد حاول الزمخشري (ت ٥٣٨ هـ) أن يسير على طريقة الجرجاني في التصوير، فاستخدم مصطلحات عدّة: مثل التصوير والتمثيل والتخييل، وكلّها عنده تبرز المعاني المعقولة في صور حسية.
وقد فسّر المعاني القرآنية والحقائق الدينية، على ضوء التصوير، فوضّح أن التشبيهات «إنما هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأشياء، حتى تبرزها، وتكشف عنها،
وتصورها للأفهام» «٣٩».
فدور التمثيل هو الكشف عن المعاني الغامضة، والتصوير بمنزلة التشكيل لها يقول:
«لأن التمثيل مما يكشف المعاني، ويوضّحها، لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها» «٤٠».
وهذه العبارة توهم أن التمثيل غير التصوير عنده، بينما هما مصطلحان لمعنى واحد،
_________
(٣٧) دلائل الإعجاز: ص ١٠١.
(٣٨) التصوير الفني في القرآن: سيد قطب ص ٣١.
(٣٩) البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري: الدكتور محمد محمد أبو موسى. ص ٤٠٣.
(٤٠) المصدر السابق: ص ٤٠٤.
1 / 28