The Essay and Its Development in Contemporary Literature
المقال وتطوره في الأدب المعاصر
Penerbit
دار المعارف
Nombor Edisi
١٩٨١
Tahun Penerbitan
١٩٨٢
Genre-genre
مقدمات
مقدمة
...
مقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن والاه.
وبعد:
هذه دراسة تتناول "المقال وتطوره" توخيت فيها الدقة والوضوح، حتى تحقق الأمل الذي أرجوه، والغاية التي أنشدها في رسم صورة أمينة توضح خصائصه وتبين سماته وتبرز قسماته في أدبنا المعاصر، بعد أن غدا فنًّا ينافس الفنون الأخرى في التصوير والتعبير.
واقتضت طبيعة الدراسة أن أكشف عن ملامح المقال في الأدب العربي القديم وأطواره في الأدب الحديث، وتنوع ألوانه وأثره في إنعاش الفكر؛ لما نشر من أفكار، وقدم من خواطر، كانت حصيلتها كتبا وأشعارا لا تزال -حتى اليوم- روافد فياضة يستفاد منها في البحث والدرس والثقافة.
وفرضت الدراسة أن أفصل القول في تنوع الأساليب لدى كتاب المقال مما نجم عنها المقال اللغوي والاصطلاحي والعلمي والفني والسياسي والفلسفي والديني والفكاهي وغيرها. وبسطت الجهود التي بذلها أعلام كل لون، مع إبراز سمات كل منهم وخصائصه الفارقة التي تميزه عن غيره.
وختمت الدراسة بدور المقال في معالجة القضايا الفكرية التي شغلت الرأي العربي -وبخاصة المصري- قبل وبعد ثورة ١٩١٩، مع بيان الألوان التي نشأت في ظله، ونمت في كنفه، وتألقت بجواره كالخاطرة
1 / 7
والفكرة والكاريكاتير، وتطالعنا صحف اليوم بها تحت عناوين ثابتة لكتاب عديدين.
والله أسأل أن ينفع بها، ويحقق الأمل منها، ويثيب عليها بقدر الجهد الذي بذل فيها، إنه سميع قريب مجيب الدعوات.
دكتور
السيد مرسي أبو ذكري
1 / 8
مفهوم المقال:
المقال -مصدر قال يقول قولا وقيلا ومقالة ومقالا- ورد ذكره في الآثار الأدبية التي خلفها أسلافنا على امتداد العصور، وحفظها التاريخ. قال النابغة الذبياني:
وأخبرت خير الناس أنك لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامع
مقالة أن قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع١
وقال كعب بن زهير:
مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل
ومن دعا الناس إلى ذمه ... ذموه بالحق وبالباطل٢
وقال حسان بن ثابت:
ما أن مدحت محمدا بمقالتي ... لكن مدحت مقالتي بمحمد
وجاء في خطبة الوداع: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل إلى من هو أفقه منه".
وقال محمد بن حازم الباهلي أحد شعراء بني العباس:
لحا الله قوما ... أعجبتهم مدائحي
فقالوا مقالا في ... ملام وفي عتب٣
وقال منذر بن سعيد قاضي الجماعة بقرطبة:
مقالة كحد السيف وسط المحافل ... فرقت ما بين حق وباطل
_________
١ راجع: ديوانه ص٤٧، ٤٨، تحقيق: شكري فاضل، طبعة بيروت ١٩٦٨.
٢ راجع: الطبع والصنعة ص١٥٠ محمد الهيهياوي.
٣ راجع: كتاب الهلال ص٤١، العدد ٢٩٨ في أكتوبر ١٩٧٥.
1 / 11
ونصح عبد الله فكره أمينا -وهو صغير- فقال له:
وعود مقال الصدق نفسك وارضه ... تصدق ولا تركن إلى قول مفتري١
وقال محمود سامي البارودي مفتخرا:
أنا في الشعر عريق ... لم أرثه عن كلاله
كان إبراهيم خالي ... فيه مشهور المقاله٢
وقرظ طه حسين مقالا للطفي السيد فقال:
بمثل مقال الأمس يعجب كاتب ... أديب ويرضى عاقل وحكيم
حقائق غر يصرع الشك نورها ... كما يصرع الليل البهيم نجوم٣
وكان أحمد زكي يردد دائما بيته:
ولي كل يوم موقف ومقالة ... أنادي ليوث العرب ويحكمو هبوا٤
فقدت وردت كلمة "المقال" في آثار أسلافنا منذ الجاهلية حتى العصر الحاضر، ودارت على ألسنتهم، وترددت في أحاديثهم ومحاوراتهم، وشاعت في مجتمعاتهم العامة والخاصة على السواء. ونعني -كما نرى- الحديث المباشر الذي يناجي القلب، ويخاطب الوجدان؛ رغبة في توضيح موقف أو نهي عما لا يستحسن، وتنبيها على فضل سابق، وأملا في إرشاد ونصح، أو فخر بالآباء والأجداد، أو الإعجاب بموقف مشهود ومقام معلوم.
_________
١ راجع: في الأدب الحديث جـ١ ص١٤٣ عمر الدسوقي.
٢ راجع: شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص١٢٨، عباس محمود العقاد، طبعة ١٩٦٥.
٣ راجع: مجلة الهلال ص٨١، عدد فبراير ١٩٦٦ الخاصة بطه حسين.
٤ راجع: العدد ٢٩ ص٢٣٩ من سلسلة أعلام العرب الخاص بأحمد زكي، بقلم أنور الجندي.
1 / 12
والمقال -اليوم- يتناول موضوعات مختلفة، ومشاكل عديدة، ويعالج مفاسد اجتماعية وأمراضًا خلقية، ويحارب سياسة جائرة، وحاكما ظالما، ويؤيد زعيما صالحا ونظاما عادلا، ويكشف عن جوانب الجمال، ومواطن الحسن في كتاب من الكتب، أو أسلوب من الأساليب، ويدعو إلى الأخذ بأسباب التقدم، ونبذ التواكل والتهاون والتخلف، كل ذلك بأسلوب رائق، وفكر واضح، ومعانٍ وافية.
وليس للمقال مجال محدد، وإنما يتسع موضوعه لكل ما في الوجود من حقائق وأفكار وآراء، وآمال وآلام، وخير وشر، وحلو ومر، ومعروف ومنكر. ومن ثم تنوع المقال إلى: أدبي وعلمي وسياسي واجتماعي ونقدي، وغير ذلك من الأنواع التي سنقف عليها بعد.
ولقد اعتمدت الصحافة -منذ الأربعينات- في تحريرها على المقالات المختلفة، ثم تحولت إلى صحافة خبر، وأصبح دور المقال ثانويا. وفي الوقت الحاضر احتل المقال مكانته في الصحف والمجلات، واهتمت مجلاتنا الأدبية به اهتماما خاصا.
ويهدف المقال أول ما يهدف إلى معالجة المشاكل ووضع الحلول لها حتى يرتقي المجتمع دون انحراف أو التواء، ويحرص كاتبه على بث الفضائل، والتنفير من الرذائل، ونشر المثل العليا التي هي: الخير والحق والجمال.
وسوف نتعرف في الفصول القادمة على ملامح المقال في النثر العربي منذ القرن الثاني الهجري، ونتتبع مولده ونشأته، ومراحل نموه في ظل الصحافة، ونقف على شتى أنواعه، ودوره في معالجة قضايا المجتمع، ونتعرف على أشهر رجاله الذين أثروا الفكر، بما قدموا من خواطر، وسجلوا من أفكار، ودبجوا من مقالات، فأنعشوا الأدب، حتى أصبح المقال -على أيديهم- فنا أدبيا له قواعده الثابتة، وقسماته الفارقة، وسماته الواضحة، وألوانه المختلفة، وأساليبه المتباينة، فإلى صفحات تلك الفصول.
1 / 13
الباب الأول: المقال وتطوره
الفصل الأول: ملامح المقال في الأدب العربي القديم
مدخل
...
الفصل الأول: ملامح المقال في الأدب العربي القديم
بدت ملامح المقال في الأدب العربي منذ القرن الثاني الهجري في رسائل الأدباء وفصول البلغاء التي تناولت أشياء من الفكر والاجتماع والأدب والنقد، وعبرت عن ذاتهم وأفكارهم الشخصية والموضوعية في موضوعات محددة، وصور مركزة.
ولو تناول نقاد العرب الرسائل والفصول -التي خلفها أسلافنا- بالدراسة والنقد، لا مدونا بثروة لا تنفذ، ومعين لا ينضب من الأبحاث الخلقية والاجتماعية؛ لأنها مقالات تناولت الناس -إذ ذاك- مكتوبة في كراسات كما نتناول المقالات اليوم في الصحف والمجلات.
ولقد حفلت الرسائل الإخواتية بموضوعات انفرد الشعر بها -كالغزل والمديح والوصف والفخر والهجاء- تحمل سمات المقال، وتبدو فيها خصائصه، يجد القارئ فيها متنفسا عن عواطفه الشخصية، وتعبيرا حرا عما يدور بخلده، لا يقيده وزن ولا تحده قافية.
ومن هنا كانت أقرب فنون النثر إلى الشعر، ولولا تكلف الأدباء منذ القرن السادس الهجري للمحسنات اللفظية، والصور البديعية، لتطورت الرسالة، وكانت المثل المبكر لفن المقال، كما عرفته الآداب الأوربية الحديثة، وقديما قال مفكرو العرب الأول: "لكل مقام مقال".
وإذا تصفحنا كتب الأدب وتعرفنا على آثار أعلامه، لوقفنا على أمثلة شتى في النواحي الأدبية والفكاهية والسياسية والاجتماعية تؤيد رأيي، وتدعم ما أذهب إليه، فإلى بعض الأعلام وآثارهم:
1 / 17
أولا: الحسن البصري ٢١-١١٠هـ
أكبر وعاظ عصره، عرف بالزهد والورع والتقوى والفصاحة والحكمة، ومن عباد الله الصالحين الذين تفقهوا في الدين، حتى قال الإمام الغزالي عنه: "كان الحسن البصري أشبه الناس كلاما بكلام الأنبياء، وأقربهم هديا من الصحابة"، وقال ثابت بن قرة: "ما أحسد هذه الأمة العربية إلا على ثلاثة أنفس: عمر بن الخطاب في سياسته وعدله، والجاحظ في فصاحته وبيانه، والحسن البصري في عدله وورعه".
عاصر الحسن البصري صراع الأمة عقب مقتل عثمان بن عفان، وتأثر بالأحداث التي ألمت بالمجتمع الإسلامي، وجابه القضايا الفكرية التي أثارها علماء الكلام إذ ذاك، وكان لأقواله وحِكَمِه ومواعظه أثر بالغ في ظهور الحركة الصوفية في الإسلام.
كان الحسن جريئا لا يخشى لومة لائم، ينقد خلفاء وعمال بني أمية، ويصفهم بالظلم والبغي سوى عمر بن عبد العزيز الذي أتاح الحرية والأمن والأمان للناس خلال حكمه القصير ٩٩-١٠١هـ، فهيأ للحسن وأمثاله جوا صالحا لنشر آرائهم في السياسة والحكم، وهي آراء مستمدة من روح الدين الحنيف الذي يعتمد على الشورى والعدالة، وترددت أصداء هذه الحرية فيما كتب الحسن البصري وبعث به إلى عمر بن عبد العزيز.
دينياته:
للحسن البصري رسائل وعظية جليلة، مبثوثة في كتب الأدب؛ كالبيان والتبيين للجاحظ، وعيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وهي رسائل تذكر بالبعث، وتخوف من الحساب، وتحض على التقوى، وتدعو لصالح الأعمال، وتنفر من الدنيا، وترغب في الآخرة.
لعبت رسائل الحسن الوعظية دورا هاما في حياة الناس الاجتماعية والسياسية، اعتمد فيها على الترغيب والترهيب حينا، والوعد الوعيد حينا آخر، وآثر خلالها الأسلوب الذي يخاطب الوجدان، ويناجي القلب،
1 / 18
ويغوص إلى أعماق النفس فيهزها بما يسرد من أمثلة، ويقدم من صور، ويعتمد على السجع، ويؤثر من ترادف، ويحرص عليه من اقتباس.
يعرض الحسن ما يعرض في صورة من الخوف الشديد من الجحيم، حتى كان القارئ يرى النار بعينيه، والناس واقفون على شفيرها، ثم يدعو للابتعاد عنها مخالفة أن يهووا فيها دون أن يشعروا، وأثناء ذلك يحثهم على التحلي بالفضائل، فاتحا باب الرجاء، بل أبواب المحبة الإلهية، وخير مقال على هذا اللون الوعظي رسالته التي كتبها إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز في صفة الإمام العادل، ومما جاء فيها:
"اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويزودها عن مراتع المهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحر والقر.. والإمام يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده.. فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال، وشرد العيال، فأفقر أهله، وفرق ماله.. واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها الخبائث والفواحش، فكيف إذا آتاها من يليها؟! وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلتم من يقتص لهم؟!
واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده، وقلة أشياعك عنده، وأنصارك عليه، فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر، واعلم أن لك منزلا غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، يسلمونك في قصره فريدا وحيدا، فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه.
والآن يا أمير المؤمنين وأنت في مهل قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل، لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهليين، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك".
والرسالة طويلة، تتميز بالأسلوب الوعظي الذي يقوم على تبصير الناس بأحوال دينهم وآخرتهم، وتنصح الحكام في رسم مبادئ الحكم كما ينبغي أن تكون. ولقد صرح معظم المؤرخين أن الرسالة وجدت مكانا رحبا لدى عمر بن عبد العزيز، فلم يستعمل سوى الثقة من العمال، واستن سننا جديدة في خلافته، ووضع مبادئ سياسية تقوم على مبدأ جوهري عام: "خطأ الوالي في العفو خير من تعديه إلى العقوبة".
وعلى الجملة تعد الرسالة من المقالات الاجتماعية والسياسية التي تهدف إلى بث المثل الأخلاقية الجيدة، وترسم مبادئ الحكم السليمة التي يرتضيها الدين الإسلامي السمح.
1 / 19
ثانيا: عبد الحميد بن يحيى الكاتب ١٣٢هـ-٧٥٠م
شخصية رائدة في الأدب العربي على الرغم من أنه فارسي الأصل، لكنه ولد في البيئة العربي الإسلامية، وأخذ من فيض الثقافة العربية حتى علت منزلته، وعظم قدره في السياسة والكتابة؛ لذا كان أبو جعفر المنصور يقول بعد أن أصبح خليفة: "غلبنا بنو مروان بثلاثة أشياء: بالحجاج وعبد الحميد بن يحيى والمؤذن البعلبكي"١.
تربع عبد الحميد على عرش الكتابة العربية؛ لبلاغته وحلو حديثه وسلامة تعبيره وحواره الذي يجري على لسانه عفو الخاطر، ومن أبلغ ما أوثر عنه من جمل قصار، منها قوله: "العلم شجرة ثمرتها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة"، ومن ثم أطلق الثعالبي عبارته المشهورة عليه فقال: "بدئت الكتابة بعبد الحميد، وانتهت بابن العميد"٢.
رسائله:
ترك عبد الحميد رسائل في موضوعات مختلفة: سياسية وأدبية. منها رسالته التي كتبها على لسان مولاه مروان بن محمد لولي عهده ابنه
_________
١ راجع: كتاب الوزراء والكتاب ص٨١ للجهشياري، طبعة الحلبي.
٢ راجع: يتيمة الدهر جـ٣ ص١٣٧.
1 / 20
عبد الله، حين أرسله لمحاربة الضحاك بن قيس الشيباني رأس الخوارج بالجزيرة ١٢٧هـ-٧٤٥م، وهي تدور حول ما يجب أن تكون عليه أخلاقه في سيرته الخاصة، وعلاقاته مع أفراد حاشيته من القواد والموظفين، وتنظيم الجيوش من الناحيتين: المادية والحربية، وبهذا تعتبر مقالة في السياسة وتدبير الحاشية.
وله رسالة في الشطرنج، وأخرى في الصيد، دعا فيهما إلى الاقتصاد من ممارستهما والابتعاد عنهما، بعد أن شغلا الناس في بعض الأمصار، فانصرفوا عن القيام بأمور معاشهم، والرسالتان تقتربان من المقال الحديث من حيث: عرض الموضوع، وسهولة الأسلوب، والتنبيه على أمر يشغل الناس عن الكسب والعمل.
وله رسالة إلى الكتاب تضمنت مجموعة نظم وقواعد لآداب الكتابة، وتوجيهات تتعلق بأخلاقهم وشرف مهنتهم، وتحقيق رسالتهم النبيلة، وهي تشبه المقال النقدي الحديث لموضعها الحي، وأسلوبها السهل، وخصائصها الفنية، مما يجعلها أقرب إلى المقال منها إلى الرسالة، ومما جاء فيها:
"أما بعد، حفظكم الله يأهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفقكم وأرشدكم، فإن الله ﷿ جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومن بعد الملوك المكرمين -أصنافا، وإن كانوا في الخِلْقة سواء، وصرفهم١ في صنوف الصناعات، وضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم، وأبواب رزقهم، فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات، والعلم والموازنة، بكم تنتظم للخلافة محاسنها، وتستقيم أمورها، وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم، وتعمر بلدانهم، لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كاف٢ إلا منكم.
_________
١ صرفهم: وجههم.
٢ كاف: قادر على الأمر.
1 / 21
فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصاركم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون، فأمتعكم بما خصكم من فضل صناعتكم، ولا نزع ما أضفاه١ من الثقة عليكم ...
فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله ﷿ والفرائض، ثم العربية فإنها ثقاف٢ ألسنتكم، ثمهم أجيدوا الخط فإنه حلية كتابتكم، وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها، فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم، ولا تضيعوا النظر في الحساب، فإنه قوام كتاب الخراج، وارغبوا في أنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها، وسفاسف الأمور ومحاقرها، فإنها مزلة للرقاب، مفسدة للكتاب، ونزهوا صناعتكم عن الدنايا، واربئوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات".
فقد وضح عبد الحميد في رسالته ما ينبغي أن يتحلى الكاتب به من صفات شاملة، وحين نمضي في قراءة الرسالة حتى نهايتها نشعر أنها مقال يتناول فكرة واحدة معينة، يرتكز الكاتب عليها، ويمارسها من جوانب عدة، وهذا ما يتطلبه المقال الحديث.
_________
١ أضفاه: أسبغه.
٢ الثقاف: ما يقوم به اللسان.
1 / 22
ثالثا: عبد الله بن المقفع ١:
كاتب عربي -فارسي الأصل- يعد ثمرة من ثمرات الثقافة الإسلامية، ونتاج الحضارة العربية، ويعتبر من خيرة الكتاب الذين عرفوا بعمق الفكرة ورشاقة الأسلوب، ورقة العبارة، عاش في الدولتين: الأموية والعباسية، وترجم مجموعة من الآثار الأدبية من اللغة الفارسية لغة أهله إلى اللغة العربية لغة وطنه، وفي مقدمتها كليلة ودمنة. اهتم في كتاباته بالنقد السياسي، والإصلاح الاجتماعي، وترك آثارا خالدة من الأدب الرفيع، ممثلة في رسائله العديدة، وكتبه الشهيرة مثل: الأدب الصغير، والأدب الكبير، وكليلة ودمنة، وغيرها.
كتاباته:
لابن المقفع رسائل عديدة طويلة وقصيرة، تحمل الحكمة والبلاغة في كل كلمة من كلماتها، وتبلغ القمة من الجمال والإمتاع، منها الرسالة اليتيمة لما ضمت من أحكام سياسية جريئة على الحاكم والرعية، وبها يعتبر قمة من قمم الفكر الإسلامي الذي يضع المقاييس للناس والحكام، ومدى ارتباط كل منهما بالآخر.
ومن أشهر رسائله ما عرف باسم "رسالة الصحابة" التي كتبها للخليفة أبي جعفر المنصور في أصول الحكم، وأسباب بقائه وعلات ميله وانحرافه.
ومن الطريف أن ابن المقفع يضفي على أهل العراق الصفات الطيبة، بعد أن وصفهم الحجاج -والي بني أمية- بأقذع النعوت، يقول:
"إن في أهل العراق يا أمير المؤمنين من الفقه والعفاف والألباب والألسنة شيئا لا يكاد يشك أنه ليس في جميع من سواهم من أهل القبلة مثله ولا مثل نصفه، فلو أراد أمير المؤمنين أن يكتفي بهم في جميع ما يلتمس له أهل هذه الطبقة من الناس، رجونا أن يكون ذلك فيهم موجودا، وقد أزرى بأهل العراق تلك الطبقة أن ولاة العراق فيما مضى كانوا أشرار الولاة، وأن أعوانهم من أهل أمصارهم كذلك، فحمل جميع أهل العراق على ما ظهر من أولئك الفسول٢، وتعلق بذلك أعداؤهم من أهل الشام فنعوه عليهم٣، ثم كانت هذه الدولة، فلم يتعلق من دونكم من الوزراء
_________
١ ولد ابن المقفع حوالي ١٠٦ أو ١٠٧هـ بقرية "جور" المعروفة الآن "بفيروزآباد"، وكان اسمه "روية بن دانويه" ومعناه: المبارك، فلما أسلم تسمى بعبد الله، وتكنى بأبي محمد. وقتل بين عامي ١٤٢، ١٤٥هـ.
٢ الفسول: جمع فسل بالفتح الذي لا مروءة له.
٣ نعوه عليهم: شهروا بهم.
1 / 23
والعمال إلا بالأقرب فالأقرب، مما دنا منهم أو وجوده بسبيل شيء من الأمر فوقع رجال مواقع شائنة لجميع أهل الفريق حينما وقعوا من حماية خليفة أو ولاية عمل، أو موضع أمانة أو موطن جهاد، وكان من أهل الفضل أن يقصدوا حيث يلتمسون، فأبطأ ذلك بهم أن يعرفوا، وينتفع بهم، وإن كان صاحب السلطان ممن لا يعرف الناس قبل أن يليهم، ثم لم يزل يسأل عنهم من يعرفهم، ولم يستثبت في استقصائهم، زالت تلك الأمور عن مراكزها، ونزلت الرجال عن منازلها؛ لأن الناس لا يلقونه إلا منصفين بأحسن ما يقدرون عليه من الصمت والكلام، غير أن أهل النقص هم أشد تصنعا، وأحلى ألسنة، وأرفق تلطفا للوزراء، وتمحلا لأن يثنى عليهم من وراء وراء، فإذا أثر الوالي أن يستخلص رجلا واحدا ممن ليس ذلك أهلا، دعا نفسه جميع ذلك الشرج١، وطمعوا فيه واجترءوا عليه، وتواردوه وترحموا على ما عنده، وإذا رأى ذلك أهل الفضل كفوا عنه، وباعدوا منه، وكرهوا أن يروا في غير موضعهم أو يزاحموا غير نظرائهم ... ".
ويعرض بأهل الشام فيقول: "ومما يذكر به أمير المؤمنين أهل الشام، فإنهم أشد الناس مؤنة، وأخوفهم عداوة وبائقة، وليس يؤاخذهم أمير المؤمنين بالعداوة، ولا يطمع منهم في الاستجماع على المودة، فمن الرأي في أمرهم أن يختص أمير المؤمنين منهم خاصة، ممن يرجون عنده صلاحا، أو يعرف منه نصيحة أو وفاء، فإن أولئك لا يلبثون أن يتفضلوا على أصحابهم في الرأي والهدى، ويدخلوا فيما جمل عليه من أمورهم، فقد رأينا أشباه أولئك من أهل العراق والذين استدخلهم أهل الشام، ولكن أخذ في أمر أهل الشام على القصاص: حرموا كما كانوا يحرمون الناس، وجعل فيئهم في غيرهم إليهم كما كان فيء غيرهم إليهم، ونحوا عن المنابر والمجالس والأعمال كما كانوا ينحون عن ذلك من لا يجهلون فضله في السابقة والموضع، ومنعت منهم المرافق، كما كانوا يمنعون الناس أن ينالوا معهم أكلة من الطعام الذي يصنعه أمراؤهم للعامة ... ".
ويتحدث عن أصحاب الخليفة، وكيف يختارون مما يدل على إلمام ابن
_________
١ الشرح: النوع والمثل.
1 / 24
المقفع بشئون الدولة، مبهما السياسة، فيقول: "ولصاحبة أمير المؤمنين -أكرمه الله- مزية وفضل، وهي مكرمة سنية حرية أن تكون شرفا لأهلها، وحسيا لأعقابهم حقيقة أن تصان وتحظر، ولا يكون فيها إلا رجل برر بخصلة من الخصال، أو رجل له عند أمير المؤمنين خاصة بقرابة أو بلاد، أو رجل يكون شرفه ورأيه وعمله أهلا لمجلس أمير المؤمنين، وحديثه ومشورته، أو صاحب نجدة يعرف بها، ويستعد لها، جمع مع نجدته حسبا وعفافا، فيرفع من الجند إلى الصحابة، أو رجل فقيه مصلح يوضع بين أظهر الناس لينتفعوا بصلاحه وفقهه أو رجل شريف لا يفسد نفسه أو غيرها. فأما من يتوسل بالشفاعات فإنه يكتفي أو يكتفى له بالمعروف، والبر فيما لا يهجن رأيا، ولا يزيل أمرا عن مرتبته، ثم تكون الصحابة المخلصة على منازلها ومداخلها، لا يكون للكاتب فيها أمرا في رفع رزق ولا وضعه، ولا للحاجب في تقديم أذن أو تأخيره. ومما يذكر به أمير المؤمنين أمر تفيان أهل بيته وبني أبيه وبني علي وبني العباس، فإن فيهم رجالا لو متعوا بجسام الأمور والأعمال سدوا وجوها، وكانوا عدة لأخرى"١.
الرسالة طويلة -كما ترى- تتضمن فكرا سياسيا شديد الخطر في النقد والتوجيه لسكان الأمصار الإسلامية، واختيار الحكام الذين يركن الخليفة إليهم؛ ولذا لا نبالغ إذا قلنا: إن الرسالة مقال يرسم سياسة الدولة، ويدير شئون الرعية، وينقد نظام الحكم، ويبين وجوه الإصلاح، ثم هي تتميز بأسلوب ممتع يخضع للمعنى العميق والهدف الواضح، وهذا ما يجب توفره في المقال الاجتماعي والسياسي اليوم.
_________
١ راجع: جمهرة رسائل العرب جـ٣ ص٣٥-٤٣ طبعة الحلبي.
1 / 25
رابعًا: الجاحظ: ١٥٠-٢٥٥هـ
هو أبو عثمان عمرو بن محبوب، لا يدانيه كاتب في سعة ثقافية ورشاقة أسلوبه وخفة روحه، وسلاسة بيانه، وتنوع معرفته، فقد أحسن فهم كل موضوع في عصره من سياسة واجتماع واقتصاد وحيوان ونبات وشعوب، وغير ذلك من الكتب التي تفوق الحصر كثرة وتنوعا، فخلف للعربية تراثا ضخما على مدى عمره الطويل. قال عنه أحد معاصريه من العلماء: "لم أرَ قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان".
رسائله وفصوله:
في آثار الجاحظ رسائل وفصول تعد نماذج عليا للمقال في الأدب العربي القديم، وتشبه المقالات في عصرنا الحديث؛ لأنها تتناول موضوعات فردية واجتماعية تناولا أدبيا. يعتمد الجاحظ فيها على إثارة العواطف، وتأجج المشاعر، وتتسم بتدفق الأفكار، وتلوين الصور، وتنويع موسيقى العبارات، مع الانطلاق في التعبير، والتحرر من القيود. تبدأ -غالبا- بتوجيه الحديث للمخاطب والدعاء له، ثم تدخل مباشرة في الموضوع الذي أنشئت له، بحيث لو حذف البدء منها بدت الرسالة مقالا سويا.
وصف المسعودي آثار الجاحظ الخالدة فقال: "كتب الجاحظ -مع انحرافه المشهور- تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان؛ لأنه نظمها أحسن نظم، ووصفها أحسن وصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ، وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع، خرج من الجد إلى الهزل، ومن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة"١.
وتعتبر فصول كتابه "البخلاء" مقالات تصويرية رائعة، تصور الحياة في البصرة وبغداد -خلال عصر الجاحظ- أحسن تصوير وأدقه، وتعرض نماذج بارعة من البخل لأشخاص عاصروه، أبدعتهم مخيلته على غير نسق موجود، وبأسلوب تفرد به، وأصبح علما عليه.
ومن أبرز الرسائل ذات الصلة بما نسميه المقال اليوم رسالة: "الحاسد والمحسود" التي بدأها الجاحظ بقوله: "وهب الله لك السلامة، وأدام
_________
١ راجع: مروج الذهب جـ٢ ص٤٧١. طبعة كتاب التحرير ١٩٦٧.
1 / 26
لك الكرامة، ورزقك الاستقامة، ودفع عنك الندامة، كتبت إليَّ -أكرمك الله- تسألني عن الحسد ماهو؟ وأين هو؟ وما دلائله وأفعاله؟ وكيف تفرقت أموره وأحواله؟ وبِمَ يعرف ظاهره ومكنونه؟ ولِمَ صار في العلماء أكثر منه في الجهلاء؟ ولِمَ كثر في الأقرباء وقل منه في البعداء؟ وكيف دب في الصالحين أكثر منه في الفاسقين؟ وكيف خص به الجيران من جميع الأوطان"١.
افتتح الجاحظ رسالته بعناصر عدة، ناقشها عنصرا تلو عنصر، وعالج خلالها ظاهرة الحسد معالجة أدبية تنفر منه، وتقلل من قيمة الحاسدين، وما يترتب عليه من أضرار تقع بالحاسد والمجتمع. استمع إليه إذ يقول: "الحسد -أبقاك الله- داء ينهك الجسد، ويفسد الود، علاجه عسر، وصاحبه ضجر، وهو باب غامض، وأمر متعذر، فما ظهر منه فلا يُدارى، وما بطن منه فمداويه في عناء"٢.
ثم يقول: "وما أتى المحسود من حاسد إلا من قبل فضل الله تعالى إليه، ونعمته عليه، والحسد عقيد٣ الكفر، وحليف الباطل، وضد الحق، وحرب البيان ... فمنه تتولد العداوة، وهو سبب كل قطيعة، ومنهج كل وحشة، ومفرق كل جماعة، وقاطع كل رحم من الأقرباء، ومحدث التفرق بين القرناء، وملقح الشر بين الخلطاء، يكمن في الصدر كمون النار في الحجر. ولو لم يدخل -رحمك الله- على الحاسد، بعد تراكم الهموم على قلبه، واستكان للحزن في جوفه، وكثرة مضضه، ووسواس ضميره، وتنقيص عمره، وكدر نفسه، ونكد لذاذة معاشه إلا استغفاره لنعمة الله تعالى عنده، وسخطه على سيده بما أفاده الله عبده، وتمنيه عليه أن يرجع في هبته إياه، وألا يرزق أحدا سواه لكان عند ذوي العقول مرحوما، وكان عندهم في القياس مظلوما"٤.
_________
١ راجع: مجموعة رسائل الجاحظ ج٢.
٢ راجع: المصدر السابق.
٣ العقيد: المعاهد.
٤ راجع: رسائل الأدباء جـ٢.
1 / 27
"وقد قال بعض الأعراب: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد: نفس دائم، وقلب هائم، وحزن لازم"١، ثم يقول: "فإذا أحسست -رحمك الله- من صديق بالحسد، فأقلل ما استطعت من مخالطته، فإنه أعون الأشياء لك على مسالمته، وحصن سرك منه تسلم من شذى٢ شره، وعوائق ضره، وإياك والرغبة في مشاورته، فتمكن نفسك من سهام مشاورته، ولا يغرنك خدع ملقه، وبيان ذلقه٣، فإن ذلك من حبائل ثقفه"٤.
وعلى الرغم مما وقع الجاحظ فيه من هتات مثل: تكرار بعض العناصر وحاجة بعضها الآخر إلى تهذيب، وحسن ترتيب، وجمال تنسيق، فإن للرسالة قيمة كبرى؛ إذ هي من الأدب الهادف الذي يرمي إلى تحقيق غاية خلقية، وندف اجتماعي، وإصلاح ديني. وبهذا أشبهت المقالات التي تتناول الشئون المختلفة للفرد والمجتمع.
وللجاحظ فكاهة عذبة وافية، تستقبلها النفس بالارتياح، ويتقبلها الخاطر بالبهجة والانشراح، تتمثل في رسالته "التربيع والتدوير" وهي رسالة طويلة تجمع بين محاسن التفكير الدقيق، والتعبير الأنيق، سخر فيها من معاصره "أحمد بن عبد الوهاب" قصير القامة ويزعم أنه طويلها، قصير الأصابع ويدعي أنه رشيقها، يظهر الكبر على وجهه ويزعم أنه في سن الشباب، جهول ويزعم أنه عالم، وغير ذلك من الصور الطريقة التي تدعو إلى السخرية والضحك، ولنترك الجاحظ يتحدث بنفسه يقول: "كان أحمد بن عبد الوهاب مفرط القصر، ويدعي أنه مفرط الطول. كان مربعا وتحسبه لسعة جفرنه٥ واستفاضة خاصرته مدورا، وكان
_________
١ راجع: رسائل الأدباء جـ٣.
٢ الشذى: الأذى.
٣ ذلق اللسان: حدثه.
٤ المثقف بحركات: الحذق والفطامة.
٥ الجفرة: جوف الصدر.
1 / 28
جعد١ الأطراف، قصير الأصابع وهو في ذلك يدعي البساطة والرشاقة، وأنه عتيق٢ الوجه أخمص٣ البطن، معتدل القامة، تام العظم، وكان طويل الظهر، قصير عظم الفخذ، وهو مع قصر عظم ساقه يدعي أنه طويل الباد٤، رفيع العماد، عادي القامة، عظيم الهامة، قد أعطي البسطة في الجسم والسعة في العلم، وكان كبير السن متقادم البلاد، وهو يدعي أنه معتدل الشباب، حديث الميلاد، وكان ادعاؤه لأصناف العلم على قدر جهله بها.
وتكلفه للإبانة عنها على قدر رغبته فيها. وكان كثير الاعتراض، لهجا٥ بالمراء، شديد الخلاف، كلفا بالمجاذبته متتابعا في العنود، مؤثر للمقالبة، مع إظلال الحجة، والجهل بموضع الشبهة. والخطرفة عند قصر الزاد، أو العجز عند التوقف، والمحاكمة مع الجهل بثمرة المراء، ومغية فساد القلوب ونكد الخلاف، وما في الخوض من اللغو الداعي إلى السهود، وما في المعاندة من الإثم الداعي إلى النار، وما في المجاذبة من النكد، وما في الغلية من فقدان الصواب.
وكان قليل السماع غمرا٦ وصحفيا غفلا٧، لا ينطق عن فكر وثيق بأول خاطر، ولا يفصل بين اعتزام الغمر واستبصار المحق، يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلق منهم بسبب، وليس في يده من جميل الآداب إلا الانتحال لاسم الأدب، أطال الله بقاءك وأتم نعمته عليك وكرامته لك، قد علمت حفظك الله أنك لا تحسد على شيء حسدك على حسن القامة، وضخم الهامة، وعلى حور العين،
_________
١ جعد: ملتو.
٢ عتيق: جميل.
٣ أخمص: ضامر فارغ.
٤ الباد: باطن الفخذ.
٥ لهجا بالمراء: ملازما له.
٦ غمرا: عديم التجارب.
٧ غفلا: مجردا من المزايا، والصحفي: من أخذ علمه من الصحف ولم يلقَ العلماء.
1 / 29
وجودة القد، وعلى طيب الأحدوثة، والصنعة المشهورة، وأن هذه الأمور هي من خصائصك التي بها تكلف، ومعانيك التي بها تلهج. وإنما يحسد -أبقاك الله- المرء شقيقه في النسب، وشقيقه في الصناعة، ونظيره في الجوار على طارف١ قدره أو تالد حظه، أو على كرم في أصل تركيبه، ومجاري أعراقه، وأنت تزعم أن هذه المعاني خالصة لك، مقصورة عليك، وأنها لا تليق إلا بك، ولا تحسن إلا فيك، وإن لك الكل، وللناس البعض، وأن لك الصافي، ولهم المشوب، هذا سوى القريب الذي لا تعرفه، والبديع الذي لا نبلغه، فما هذا الغيظ الذي أنضجك؟! وما هذا الحسد الذي أكمدك؟! وما هذا الإطراق الذي اعتراك؟! وما هذا الهم الذي قد أضناك؟! "٢.
يحس القارئ أنه أمام فن جديد في الهجاء، وطراز فريد لأدب الفكاهة والتهكم والسخرية؛ لأن رسالة "التربيع والتدوير" ترسم صورة ضاحكة تفوق أصحاب التصوير الكاريكاتوري في العصر الحديث، وبذلك أمكن للجاحظ أن يشوه خصمه من واقع ضروب المفارقات والمناقضات المختلفة في تكوينه الجسمي الذي يجمع بين القصر والسمنة والتكريش، في الوقت الذي يدعي فيه الرشاقة والجمال والعلم والشباب.
عالج الجاحظ ذلك كله في رسالته بأسلوب سهل، وقدرة فائقة في التعبير، وتلوين في الصور مع فيض من المعاني، واختيار للألفاظ، هذا ما ينبغي توافره في المقال الأدبي اليوم.
1 / 30
خامسا: ابن قتيبة ٢١٣-٢٧٦هـ
هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة. يمثل ثقافة عصره خير تمثيل، فقد ألم بالثقافة العربية، ووقف على بعض الثقافات الأجنبية التي ظهرت في محيط الفكر حينئذ. ترك مؤلفات عديدة في شتى ألوان المعرفة من آداب ونقدولغة ونحو تاريخ وفلك وقراءات وحديث وفقه. وهي مؤلفات تكشف عن عقلية واعية منظمة مصقولة، خطت بالفكر المنسق خطوات واسعات نحو الكمال. والرواة يشيرون إلى ذلك فيقولون عنه أنه: "أحسن العلماء ترصيفا، وأجودهم تصنيفا"١. ولقد وصف بالفضل وغزارة المادة، فقال الأنباري: "كان ابن قتيبة فاضلا في اللغة والنحو والشعر، متفننا في العلوم، وله المصنفات المذكورة، والمؤلفات المشهورة"٢. وقال السيوطي: "كان رأسا في العربية واللغة والأخبار وأيام الناس، ثقة دينا فاضلا"٣، وقال القفطي عنه: "هو صاحب التصانيف الحسان في فنون العلم"٤، ثم قال بعد ذلك بقليل: "وكان ثقة دينا فاضلا صادقا فيما يرويه، كثير التصانيف والتآليف".
آراؤه النقدية:
لابن قتيبة كتاب "الشعر والشعراء" وهو من أقوم الكتب وأجداها، ففيه نقد وأدب وتاريخ، وسجل قيم لعدد ضخم من الشعراء وأخبارهم، وشيء من أشعارهم منذ الجاهلية حتى منتصف القرن الثالث الهجري. ويعتبر من أعظم المصادر الأدبية لتراجم الشعراء، ومعرفة ملابسات بعض أشعارهم التي لا يستطيع باحث أن يغفلها. بدأه بمقدمة تضمنت مذهبا جديدا في تقويم الشعر والشعراء دون نظر إلى القائل، فخطا بالنقد خطوات واسعة نحو التحرر من التقاليد النقدية العتيقة، والانطلاق إلى ما له أثر فعال في النقد الأدبي.
وتعتبر مقدمة الكتاب -لما حوت من أمثلة حية- لبنة طيبة، وخطوة جريئة في أساس النقد الأدبي، نقلته من حال إلى حال.
_________
١ راجع: مجلة المنار المجلد التاسع ص٥٤٨ عن كتاب "التحديث بمناقب الحديث".
٢ راجع: نزهة الألباب ص٢٧٢.
٣ راجع: بغية الوعاة ص٢٩١.
٤ راجع: إنباه الرواة جـ٢ ص١٤٣.
1 / 31