The Biography of the Prophet - Ragheb Al-Sergani

Ragheb El-Sergany d. Unknown
106

The Biography of the Prophet - Ragheb Al-Sergani

السيرة النبوية - راغب السرجاني

Genre-genre

الهجرة الثانية إلى الحبشة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس التاسع من دروس السيرة النبوية. تحدثنا عن الهجرة إلى الحبشة، وكيف هاجر المسلمون، وكيف استقبلوا هناك، ولماذا اختار النبي ﷺ الحبشة دون غيرها، ثم عن عودة المسلمين إلى الحبشة عندما سمعوا بإشاعة مفادها أن مكة آمنت، ثم اكتشفوا بعد ذلك عدم دقة الخبر، فرجعوا مرة أخرى إلى الحبشة، واشتد التعذيب بأرض مكة للمؤمنين المستضعفين، فهنا أمر رسول الله ﷺ بالهجرة الثانية إلى الحبشة. وكان هذا القرار -قرار الهجرة الثانية- أصعب بكثير من القرار الأول لأمور: أولًا: أن قريشًا أخذت حذرها، وأغلقت أبواب مكة، ووضعت الحراس على كل مخارجها ومداخلها، فأصبح الخروج صعبًا. ثانيًا: أن العدد هذه المرة كبير، ففي أول مرة كانوا (١٤) رجلًا و(٣) نسوة، أما الآن فهم قرابة المائة من غير الأطفال والمتاع الذي أخذوه معهم، ولا ننسى أن مكة بلد صغير، فخروج هذا العدد منها يهزها. ثالثًا: أن فيهم أسماء لامعة في الإسلام ستخرج من داخل بيوت زعماء مكة المشركين، يظهر هذا من قراءة أسماء المهاجرين إلى الحبشة في المرة الثانية، سنجد مثلًا السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب زعيم زعماء مكة في ذلك الوقت. وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة أيضًا كان زعيمًا كبيرًا من زعماء الكفر. أما سهيل بن عمرو أحد كبار زعماء مكة، والذي كان يقوم بدور المفاوض في صلح الحديبية فقد خرج من بيته ثلاثة من أولاده: سهلة بنت سهيل بن عمرو، وأم كلثوم بنت سهيل بن عمرو، وعبد الله بن سهيل بن عمرو. وهاجرت أيضًا فاطمة بنت صفوان بن أمية وصفوان بن أمية لم يؤمن إلا بعد فتح مكة. وهاجر فراس بن النضر بن الحارث، والنضر بن الحارث هو الذي ذهب إلى فارس وعاد يحكي للناس حياة رستم وإسفنديار وحاول أن يبعد الناس عن دين الله ﷿ بكل طريقة ممكنة، ها قد خرج ابنه مهاجرًا مع المسلمين إلى الحبشة. وهاجر هشام بن العاص بن وائل، والعاص بن وائل من أكابر المشركين، ومن الذين نزل القرآن يلعنهم: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا﴾ [مريم:٧٧]، وهشام بن العاص أخو عمرو بن العاص ﵁ وأرضاه، لكن عمرو بن العاص في ذلك الوقت لم يكن قد آمن بعد. إذًا: خروج هؤلاء وأمثالهم من داخل بيوت أولئك الزعماء سيحدث زلزلة في مكة ولا شك، وسيصاب كل زعيم في كبريائه وذكائه وحكمته وتقديره للأمور والأحداث. في هذا الجو الصعب، وفي هذه الخلفية المعقدة، أصدر الرسول ﷺ القرار بالهجرة إلى الحبشة. كان أمير المهاجرين هذه المرة جعفر بن أبي طالب ﵁ وأرضاه، وبدأت عملية من أعقد عمليات المناورة بخطة محكمة؛ فقد درست المداخل والمخارج بعناية شديدة، وتعاون الجميع من الصغار والكبار والرجال والنساء لإنجاح هذه المهمة، وبفضل الله ﷾ نجحت العملية، وخرج من مكة مائة أو أكثر -على اختلاف الروايات- من الرجال والنساء والأطفال معهم المتاع والزاد، خرجوا إلى البحر الأحمر وركبوا السفن، واتجهوا إلى الحبشة، ولم ينجح الكفار في الإمساك بأي منهم! ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحج:٣٨]. تصوروا موقف الكفار في اليوم الثاني وقد وجدوا مكة المكرمة نقص منها مائة شخص، تخيلوا الفراغ الهائل الذي تركه هؤلاء الصالحون والصالحات وراءهم. كان المسلمون في غزوة بدر (٣١٣)، معنى هذا أنه لا يوجد بيت في مكة إلا وخرج منه ابن أو أخ أو أخت. بفضل الله وصل المؤمنون إلى الحبشة واستقبلهم النجاشي ﵀ خير استقبال، وكان كما قال عنه النبي ﷺ: (ملك لا يظلم عنده أحد)، كان استقباله على نفس المستوى من استقبال الوفد الأول الذي ذهب في هجرة الحبشة الأولى. لكن هل قبلت قريش بالأمر الواقع، وفكرت في إنهاء الصراع الطويل بينها وبين المؤمنين؟

9 / 2