"ادع بها". فاعتقلها النبي-ﷺ ومسح ضرعها، ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب (١) وسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال الراعي: بالله من أنت فوالله ما رأيت مثلك قط؟
قال ﷺ: "أو تراك تكتم علي حتى أخبرك؟ " قال: نعم. قال- ﷺ: "فإني محمد رسول الله"، فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ. قال-ﷺ: "إنهم ليقولون ذلك". قال: فأشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وإنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي، وأنا متبعك، قال ﷺ:"إنك لن تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا") (٢).
هذا الراعي المسكين نشأ في الصحراء حتى صار قطعة منها تهتز ربيعًا وجمالًا عندما يغشاها المطر .. ولقد اهتز إيمانًا عندما رأى المعجزات وحسن الأخلاق تهز عقله ليفيق من سبات الافتراءات التي أوصلتها إلى مسامعه قريش .. هذه الماعز التي لم يكن في ضرعها سوى الجفاف .. درت حليبًا وأنزلت .. أما هذا الرجل المطارد المتهم الذي حلبها فلم يشرب رغم عطشه .. لقد أسرت هذا الراعي أخلاق لم يعهدها .. يحلب وهو نبي الله ويسقي منهم دونه ثم يشرب آخرهم وهو الذي لو أراد لأدار الله له هذه الأرض ينتقي منها ما يشاء .. فأسلم الراعي وآمن وقرر ترك الصحراء والغنم ما دام بصحبة نبي.
لكن خلق النبي ﷺ الكريم وخوفه على أتباعه من الاضطهاد جعله يريثه إلى أجل لا يعلمه إلا الله. وامتثل هذا الراعي وصبر رغم شوقه ولهفه. هذا الراعي أظنه.
(١) الذي حلب هو رسول ﷺ، ثم سقى الجميع ثم شرب آخرهم.
(٢) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه البيهقي وأبو يعلى، وانظر تخريج الذي بعده فهو هو.