كان يقف وراء البارافان الحاجب للباب الخارجي مطلا عليه من عل كأنه شجرة سرو سارحة في السحاب، وابتسم كأنما لم يأخذ السؤال مأخذ الجد: عمري!
فأكد سؤاله بهزة من رأسه وهو يتمطق، فعاد العجوز يقول: من أدراني؟
لست خبيرا في تقدير الأعمار، ولكن الراجح أنه كان يسعى فوق الأرض قبل أن تغرس أول شجرة في شارع النيل. ولم يزل قويا بالقياس إلى سنه لدرجة تفوق الخيال.
يتفقد الفناطيس، ويجذب العوامة بحبالها تبعا للأحوال فتطيعه، ويسقي الزرع، ويؤم المصلين، ويحسن طهي الطعام. - هل تعيش وحدك دائما في الكوخ؟ - إنه بالكاد يسعني وحدي. - من أي بلد جئت يا عم عبده؟ - أووه! - أليس لك من أقارب في القاهرة؟ - لا أحد. - نحن شبيهان في ذلك على الأقل، أما طعامك فلذيذ. - تشكر! - إنك تأكل أكثر مما يجوز لشخص في سنك. - آكل ما أستطيع أن أهضمه.
ونظر إلى العظام المتخلفة من الكوستليتة وقال إن المدير العام لن يبقى منه ذات يوم إلا عظام كهذه العظام، وكم يود أن يشهد محاسبته يوم الحساب! وراح يقشر موزة مواصلا تحقيقه: متى خدمت في العوامة؟ - مذ جيء بها إلى مرساها. - متى كان ذلك؟ - أووه! - وصاحبها الأول أهو صاحبها اليوم؟ - تتابع عليها كثيرون. - وعملك هل يعجبك؟
أجاب بزهو: أنا العوامة؛ لأني أنا الحبال والفناطيس، وإذا سهوت عما يجب لحظة غرقت وجرفها التيار.
فضحك لاعتزازه الساذج الجذاب بنفسه، ورنا إليه مليا، ثم سأل: ما أهم شيء في الدنيا؟ - الصحة والعافية.
شيء غامض ساحر في الإجابة أضحكه طويلا، وعاد يسأل: متى عشقت امرأة آخر مرة؟ - أووه! - وبعد العشق ألم تجد شيئا يسرك؟ - قرة عيني في الصلاة. - جميل صوتك وأنت تؤذن.
ثم بنبرة مرحة: ولست دون ذلك جمالا حين تذهب لتجيء بالكيف، أو تغيب لتعود بفتاة من فتيات الليل.
فقهقه مائلا برأسه المغطى بطاقية بيضاء إلى الوراء ولكنه لم يجب. - أليس كذلك؟
Halaman tidak diketahui