فيحق العجب ممن يجهل هذه الحقيقة التاريخية المسجلة بالكتابة منذ ألوف السنين، بل بالحروف التي سبقت الكتابة والكتاب.
إلا أن الإشاعة الموهومة كثيرا ما تطغى على الحقيقة المسجلة، ولا سيما الإشاعة التي تحتمي بالصولة الحاضرة وتملأ الآفاق بالشهرة المترددة. وقد أشاع الأوروبيون في عصر ثقافتهم وسلطانهم أن أسلافهم اليونان سبقوا الأمم إلى العلم والحكمة، واختلط على الأوروبيين كما اختلط على غيرهم قدم التوراة بالنسبة إلى الإنجيل والقرآن، وقدم الإسرائيليين بالنسبة إلى المسيحيين والمسلمين، فتوهموا أن العبرانيين سبقوا العرب إلى الدين والثقافة الدينية، وكتابهم نفسه صريح في حداثة إسرائيل وحداثة إبراهيم من قبله بالنسبة إلى أبناء البلاد العربية.
وليس أعجب من الجهل بالحقيقة التي تظهر هذا الظهور.
ليس أعجب من هذا الجهل إلا أن تكون الأوهام المشاعة بهذه القوة عند أقوى الأمم وعند أشهرها بالعلم والثقافة.
فلو لم يكن في هذه الصفحات التالية إلا أنها تكشف هذه الأعجوبة في ناحية من نواحيها، لكان ذلك حسبها من سبب يوجب علينا كتابة هذه الرسالة؛ فهي تفصيل لما في هذه الأسطر القليلة من إجمال، وأيسر تفصيل كاف في مجال كهذا المجال.
من هم العرب؟!
وجد العرب في ديارهم قبل أن يعرفوا باسم العرب بين جيرانهم، وكانت لهم لغة عربية يتكلمونها وتمضي على سنة التطور عصرا بعد عصر، إلى أن تبلغ الطور الذي عرفناه منذ أيام الدعوة الإسلامية.
وهذه هي القاعدة العامة في تسمية الأمم وفي تطور اللغات؛ فليس العرب بدعا فيها بين أمم المشرق والمغرب.
فالهند - مثلا - كانت عامرة بسكانها قبل أن يسمى نهرها بنهر «الهندوس»، وقبل أن يطلق اسم هذا النهر على شبه الجزيرة كلها.
والحبشة كانت عامرة بقبائلها المتعددة قبل أن يسميها العرب بهذا الاسم، ويقصدون به بلاد الأحباش أي السكان المختلطين، وقبل أن يسميها اليونان باسم «أثيوبية» أي: بلاد الوجوه المحترقة، وقبل أن يسميها العبرانيون باسم بلاد الكوشيين لأنهم ينسبون أهلها إلى كوش بن حام بن نوح.
Halaman tidak diketahui