ولا موجب - فيما نرى - لتفصيل الكلام على آداب الحضارات قبل ظهور العبريين، وقبل شيوع تلك الحضارات بين الشعوب والأقوام الذين تقدموا وراء آداب العصبية المحدودة أشواطا لا يتسع لها هذا المجال؛ فربما كان استقصاء المدى المعروف الذي بلغته الدعوة العبرية من أيام الخليل إلى أيام السيد المسيح تصحيحا كافيا لتلك الدعوى التي يدعيها المبشرون بما يسمونه «الرسالة العالمية» من قبل العبريين.
إن طاعة الإله في عرف العبريين ليست مسألة فضيلة وأخلاق تحمد من كل إنسان فاضل وكل آدمي ذي خلق كريم، بل هي مسألة علاقة بين رب «عبري» يختص نفسه بشعب يختاره ويغار عليه، وبين شعب يدين لذلك الإله بين آلهة الأمم لأنه يخافه ويشعر بقوته وانتقامه ، ويرى أنه أقدر على الانتقام من جميع الأرباب.
ويقول هذا الإله كما جاء في سفر التثنية: «أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة.»
ويقول كما جاء في سفر الخروج: «رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة.»
ويقول أنبياؤهم تارة: إنه شعب ثقيل الإثم، وتارة: إنه شعب لا يفهم. ويعيد كل نبي ما سبقه إليه الأنبياء من وصفه بالضلالة والنفاق والقسوة وقلة الوفاء ... ولكن هذا الشعب يعلم - مع كل ذلك - أن الله يختاره لأنه شعبه وعصبته ... وأنه كما جاء في سفر التثنية: «ليس لأجل بركة يعطيك الرب إلهك هذه الأرض الجيدة لتمتلكها لأنك شعب صلب الرقبة.»
أما هذا الشعب فإنه يدين لهذا الإله ويختاره من بين الأرباب لأنه: «إلهكم وهو إله الآلهة ورب الأرباب، الإله العظيم الجبار المهيب.»
ويناديه الإله فيقول له كما جاء في سفر الخروج: «لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء، في الجيل الثالث والرابع من مبغضي ...»
نعم، كما تسري شريعة الثأر في الجاهلية من الآباء إلى الأبناء، ومن الإخوة إلى الإخوة، ومن الجار إلى الجار.
ويتكرر النذير من الإله الغضوب غير مرة: «لأن الرب إلهك هو نار آكلة، إله غيور»، «فلا تسيروا وراء آلهة أخرى من آلهة الأمم التي حولكم؛ لأن الرب إلهكم إله غيور». ويجري هذا النذير من الأسفار المنسوبة إلى موسى - عليه السلام - إلى الأسفار التي كتبها آخر الأنبياء من بني إسرائيل.
ولم تنفرج حلقات هذه العصبية بعد توالي الضربات على القوم من جراء تعنتهم بالأثرة وإنكار الحقوق الإنسانية على الأمم، أو على «الجوييم» كما يسمونها بمعنى الغرباء أو الدخلاء، بل كانت هذه العصبية تنحصر من دائرة إلى دائرة أضيق منها وأشد في التمييز والاستئثار من سوابقها؛ فكانت صفوتهم المختارة أبناء إبراهيم إلى أبناء أبنائه وحفدته، فإذا هي تنحصر بعد ذلك في أبناء إسحق بني إسرائيل، ويدعو القوم أنفسهم من أجل ذلك بأبناء إسرائيل، ثم انحصرت صفوتهم المختارة في بني هرون آل موسى الأقربين - عليه السلام - ثم انحصرت في أبناء داود - عليه السلام - بعد قيام المملكة، وقيل من أجل ذلك: إن المسيح المنتظر لا يكون من غير ذريته وورثة عرشه، وكانت الوعود السماوية المزعومة تنتقل على هذا المثال جيلا بعد جيل تبعا للتنقل في مراكز الرئاسة والقدرة على مرضاة كهان الهيكل ودعاة النبوة.
Halaman tidak diketahui