ومن الغريب أن بعض المفكرين يتابعون العامة في الحكم على الأعمال بالدوافع التي دفعت إليها لا بنتائجها، والسبب في ذلك إما أنهم يخطئون معنى النجاح الصحيح وما يستلزمه من القوى الكثيرة، وإما أنهم يرون أن بعض العاملين ينجحون بالرغم من كونهم أهملوا بعض الفضائل المدنية. نعم إن هذه الفضائل تردع عوامل الاعتداء التي في صدر الإنسان وتعده لأن يتبع سنن الجماعات وأنظمتها، ولكن الذي نسيه هؤلاء المفكرون أن النجاح أساسه القوة، والقوة مصادرها كثيرة من فضائل شخصية أو مدنية، والنجاح يتطلب قوى وملكات وفضائل خاصة، ولا يستقيم لأحد إلا بها.
إن أفراد الأمة القوية يتعلقون بوسائل النجاح ولا يحجمون عن العمل خشية الفشل. أما أفراد الأمة الضعيفة، فإنهم يحجمون عن العمل خشية الفشل؛ لأنهم لا يتعلقون بوسائل النجاح فيكون خوفهم من الفشل داعية الفشل، ويرجع ذلك إلى إهمال وسائل النجاح، ولقد يفشل الرجل العظيم وينجح الرجل الضئيل، لكن هذا العظيم - على عظمته - نسي حقيقة كبيرة، وهي أن الإنسان لا بد أن يؤهل نفسه للنجاح في الحياة؛ كي ينتفع بمواهبه وينفع بها غيره، وقد تجني على المرء تربيته، فإنها قد تعده للفشل في الحياة، خصوصا إذا كانت في نفسه صفات من الصفات التي تجعل نجاحه مستحيلا، مثل ضعف ثقته بنفسه، وتوكله على غيره، والحياء المفرط الذي هو في الحقيقة دليل من دلائل الضعف.
وقد يتساءل العاجز عن الصفات والقوى التي يستجلب بها النجاح، هل هي أجل ما يطمح إليه الإنسان وأشرف ما تتصف به النفوس؟ أم هناك فضائل وقوى أعظم منها وأجل؟ ولو بحث هذا السائل لوجد أن الصفات والقوى والملكات التي نجلها في نفوس الناجحين ونعدها ثمينة نادرة مثل الذكاء أو قوة المنطق والتفكير أو رقة الشعور وجلال العواطف هي رخيصة جدا في نفوس العاجزين أهل الفشل، وهذا ليس بغريب، فإن المفكر الذي جرع كأس التجارب يجد أن الملكات والقوى النادرة لا قيمة لها في نفسها، بل قيمتها في استخراجها واستعمالها، وما ينشأ عنها من المؤثرات. كما أن الجواهر الكريمة أو المعادن النفيسة لا قيمة لها ما دامت في بطن الأرض، بل قيمتها إذا استخرجت وصادفت رغبة فيها. أما إذا لم يوجد من يرغب فيها لم تكن لها قيمة، فينبغي للمرء أن لا يحتقر تلك الملكات التي تقدر النجاح في الحياة، فإن ذمه إياها وهو لا يملكها يكون مثل ذمه عنقود العنب لأنه لم تصل إليه يده.
ثم إن النجاح في الحياة تختلف مظاهره، فقد يفشل المرء فيما يرضاه الناس له من الحياة وينجح فيما يرضاه لنفسه، إلا أن نجاح المرء في الحياة يقاس بمقدار قواه، سواء كانت مادية أو عقلية أو روحية.
يحسب بعض الناس أن في تقديس النجاح ظلما وقسوة وغبنا، وأنك لا تجد أحدا يقول بذلك إلا إذا خشي الفشل. أما إذا كان من الرجال الذين لا يطغيهم النجاح ولا يكرثهم الفشل، فإنه يجد من ثقته بنفسه وبعمله ما يعينه على استجلاب النجاح، وتحمل الفشل، ومن أجل ذلك تجد الأمم التي تقدس النجاح أكثر جرأة من الأمم الضعيفة التي تخشى أن تحكم على أعمالها بنتائجها لا بالدوافع التي دفعت إليها.
غير أنه قد يخشى على الأمة الضعيفة إذا جعل أفرادها يقدسون النجاح أن يتعلقوا بمظاهر النجاح دون النجاح، والتعلق بمظاهر النجاح ليس دليلا على القوة بل على الضعف.
غير أن التظاهر بالنجاح الكاذب يكون في الجماعات التي تحكم على الأفعال بالدوافع التي دفعت إليها، كما يكون في الجماعات التي تحكم على الأفعال بنتائجها، غير أن الجماعات التي تقدس النجاح يعلمها تقديس النجاح التمييز بين النجاح الصحيح الذي يتخذ له المرء عدته من القوى المختلفة، وبين النجاح الكاذب الذي ليس له نفع ولا بقاء.
إن أجل ما تمتاز به الجماعات الغربية على الجماعات الشرقية أن الأمم الغربية أكثر تقديسا للنجاح، وهذا جعلهم أكثر تعلقا بالفضائل الشخصية، مثل الاعتماد على النفس والعزيمة والصبر والشجاعة، وغيرها من الفضائل الشخصية، التي هي أهم من الفضائل المدنية، والتي هي وسائل النجاح وعدته.
خليق بنا أن نعترف بالأثر الذي للدوافع والنيات في تمييز الأعمال، ولكن ينبغي أن نذكر أن القضاء والمقادير لا يهمها الدوافع ولا تعترف بها، بل يهمها النتائج وتعترف بها، نحن نغاير المقادير ونختلف عنها في شيء، وهو أن النيات والدوافع تهمنا، فينبغي أن لا نغالط أنفسنا، ونخفي عنا قيمتها، ولكن ينبغي أيضا أن لا نغالط أنفسنا ونخفي عنها أن النتائج قيمتها هي القيمة الكبرى، وإذا كانت المقادير والوجود كله يقدس النجاح في كل مظهر من مظاهر الحياة، فلم لا نقدس النجاح في حياتنا وأعمالنا؟
الحياة واليأس
Halaman tidak diketahui