Tiga Lelaki dan Seorang Wanita
ثلاثة رجال وامرأة
Genre-genre
غير أن هذا لم يطمئنه، وكيف السبيل إلى اطمئنان من لا يدري، ومن لا يزال يقول في صفة حاله وفي تعليلها وفيما عسى أن يكون لها من آثار بالظن والتخمين؟! وقد ألح عليه خاطر أفضى به إلى ضعف محسوس؛ ذلك أنه قال لنفسه: إن تمثل عنصر الأنوثة في الرجل - ذلك الشطر المكنون أو المغلوب على أمره في اليقظة - في المنام له بشرا، ليس بالأمر المألوف أو الشائع، وإن كان العلم لا يعيا بتفسيره، والعنصران: الذكورة، والأنوثة مندمجان لا ينفصلان، وتفاعلهما على نسبتهما في كيان الرجل هو الذي يكسبه شخصيته الخاصة وما تتميز به من خصائص القوة أو الضعف أو غير ذلك، وهما كموجتين غابت إحداهما في الأخرى، فصارتا موجة واحدة وكلا لا يتجزأ، أو كمصباحين متفاوتين اجتمع ضوءهما، فالنور المنبعث منهما معا وحدة وجملة يستحيل أن تتبين معظمها من أقلها، فإذا أمكن انفصال هذين العنصرين فيما يحس الرجل - ولو في منامه - أفلا يكون هذا تصدعا في كيانه، وإن بقي ثابتا متماسكا فيما يرى ويحس في اليقظة؟! وإذا أمكن أن نتصور تيارا مغنطيسا يلم ذرات أحد العنصرين ويجمعها ويعزلها عن ذرات العنصر الثاني، أفلا يكون مؤدى هذا نقض الشخصية التي كان قد أثمرها اتحاد العنصرين واندماجهما؟ واقتنع الأستاذ حليم بهذا المنطق، وراح يقول لنفسه: إنه كان كائنا حادثا من امتزاج عنصرين وتزاوجهما، فصار ينقصه على الأقل متانة الامتزاج، فهو كالبناء المتصدع المشفي على الانهيار، ولا مفر من أن تحدث هذه الركاكة الطارئة في بناء الإنسان؛ ركاكة في قوته وفتورا في قدرته على العمل والاحتمال، ورخاوة وقلة غناء، ولم يمنعه أن يقتنع بهذا أنه في يقظته يبدو كما خلقه الله، ولا نقص أو تهافت فيه ولا تغير؛ فقد قال لنفسه - كأنما كان مغرى بإقناعها: إن كل ما بين اليقظة والنوم من الفرق أن سلطان العقل الواعي يفتر في أثناء النوم، وأن الإرادة تضعف، فيسع ما وراء الوعي أن يتبدى، والأحلام راجعة إلى هذا، فدلالتها عظيمة، ومن الضلال والحمق الاستخفاف بها أو إهمال أمرها. وهكذا ظل يلح على نفسه بهذا وما إليه حتى أيقن أن به ضعفا جنسيا لا مراء فيه ولا حيلة، ووطن نفسه على ذلك فسكنت أعصابه إلى هذا اليقين، لطول ما ألح في رياضتها عليه.
وكان في وسعه أن يريح نفسه ويستعيد الثقة بها والاطمئنان إلى سلامته وبرئه من هذا الضعف لو قصد إلى طبيب؛ فما خلق الله الأطباء عبثا، ولكن حياءه وبخله أبيا عليه إلا أن يغرياه بالتفلسف على نفسه حتى فسد الأمر.
ومن الغريب مع ذلك أن حياءه لم يمنعه أن يسر إلى صديق له أنه يجد نفسه في هذه الأيام فاترا لا نشاط له؛ فزعم له صديقه أن هذا طبيعي؛ لأنه يعيش بين الكتب لا في الدنيا، وجره معه مرة إلى مجلس لهو لا كلفة فيه عليه، فألفى نفسه أميل إلى الصغيرات منه إلى غيرهن، وآنس بهن، وأقدر معهن على إرسال نفسه على السجية، وتناسي ما يعانيه من توهم الضعف.
ولم يتجاوز الأمر حد المؤانسة والمجالسة والمفاكهة، ولكن الأستاذ حليما انصرف من هذا المجلس وهو يعتقد أن علاجه أن يلتمس مجالسة الفتيات الصغيرات في خلقهن وأسنانهن؛ فإن الدقة في خلقهن توحي إليه معني القوة، وصغر سنهن يشجعه ويرد إليه الثقة بنفسه لغرارتهن وقلة تجربتهن - على الأقل نسبيا، وسره أن فتح الله له هذا الباب وهيأ له مخرجا يعفيه من ثقل وطأة الشعور بالضعف، وما من أحد إلا وهو ينشد القوة والبأس والسطوة، أو يدعيها على صورة من الصور إذا لم تكن مما وهبه الله وآتاه، وقد كان حسب الأستاذ حليم ما آتاه الله من العقل والعلم، ولكن ذلك الضعف الحقيقي أو المتوهم كان يثقل عليه وينغص عيشه، ويأخذ على عقله كل متوجه؛ بل هو الذي كان يوحي إليه ما يصدر عنه من قول أو فعل، فهمه في حياته أن يداريه، أو يعوضه إذا أعياه أن يتغلب عليه، أو يقويه.
وقد انتهى به المطاف إلى محاسن؛ لأنه شام منها عقلا وفطنة تعرف بهما قدره، وغرارة تجعلها تتطلع إليه، وقد طمست شهرته العلمية ضعفه الخفي، وتخيل القليل منه كثيرا عظيما في نظرتها، وآنس منها ثقة به أغرتها بالبث والقول بشجوها، ومصارحته بأخفى الأسرار، وكانت تجد من بساطته وحسن فهمه وسرعة فطنته وإقباله عليها مع سنه وأدبه ما يسهل عليها ذلك، فاتخذت منه قسيسا تعترف له، واتخذ هو منها تلميذة، وارتضت هي هذا المحل، فأقبل عليها يعلمها ويعرفها بالحياة وهو جاهل بها، أو لعل الصحيح أنه كان يمتحن فيها نظرياته وآراءه، وقد يكون الأصح أن نقول: إن نوع استجابتها له كانت دروسا يتلقاها عنها ويستفيدها منها.
ولم يكن أعجب من منظر هذا الأستاذ الضاوي المعروق الذي جلله الشيب - أو كاد - وهو يتأبط ذراع الفتاة الصغيرة ويرتاد بها منازه المدينة، ولم يكن في منظرهما أو حالهما ما يدل على علاقتهما، فكان الذي يرى وقار الشيب واحتشام الرجل ويؤثر حسن الظن يحسبها بنته، والذي يرى رقته لها وتحفيه بها وضحكه إليها ولطفه في مخاطبتها يستريب وينكر، أو يتردد على الأقل بين طرفي الاعتقاد غير قادر على الترجيح أو الجزم.
وكان إذا لقي - وهي معه - بعض زملائه القدامى، لا يضطرب ولا يتكلف، بل يقول لصاحبه في بساطة: بنتنا محاسن، ويبتسم، فينصرف الرجل وأكبر ظنه أنها بنت أخ أو أخت.
على أنه كان يؤثر المكان البعيد الذي لا يطرأ فيه عليهما من يعرف ومن لا يعرف، وكان في ضاحية نائية، فيقصد إليها بها في آخر النهار ومعه زجاجة صغيرة مبططة كانت لدواء، فيها شراب، حتى إذا بلغه وجد عبد الفتاح بائع القازوزة، فألقى عصاه عنده، ويجيئهما عبد الفتاح بكرسيين، وبالثلج والماء لشرابهما، وبخبزات مستديرة يابسة مخلوطة بالسمسم، وقطع رقاق من الجبن لطعامهما، وكان هو يشرب قدحه ويستطيبه ويتمطق أيضا، أما هي فكانت تذوقه وتزوي وجهها وتقبضه، فيضحك، وكان يحرص على أن يدعها تتحدث، مكتفيا بحسن الإصغاء والابتسام المشجع، وهز الرأس من حين إلى حين علامة الموافقة أو الفهم، فتفتح له قلبها وتدلق كل ما فيه، وقلما كان يثقل عليها برأيه وكلامه، ولكنه كان لا يسعه أحيانا إلا أن ينصح لها متلطفا معها ويوجهها إلى ما هو أرشد وأحجى وأولى بأن ينيلها مبتغاها، أو راحة القلب من وجع الدماغ، ويسره منها ويغره أنها كانت تصدر عن رأيه في كل حال.
وكانت محاسن مزاحة طيبة الحديث تقبل الملاعبة ولا تضن بالقبل، ولكنها لا تطاوع على ما سوى ذلك، وكان هو قانعا بهذا القدر، لا ينشد ما جاوزه - وإن كان يشتهيه - ولا يخطر له أن يغافلها، أو يغالطها أو يستدرجها أو يشجعها على ترك التحصن؛ لأنه كان يجد الكفاية من الاستمتاع في هذا القدر من التقارب للغزل، ويرى أن إخلادها إليه بالثقة والاطمئنان قد حمله أمانة، وقد اعتاد الكبح والحرمان، فأيسر الأمرين أن يمضي على ما ألف، وأعسرهما أن يتعرج، ثم إنه كان يخشى عاقبة الطمع، ويتقي أن يهجم - لو أن في طبعه أن يهجم - فيقعد به ما يتوهم أنه صار إليه؛ فقد كانت ثقته بنفسه مضعضعة.
غير أنه كان من العسير أن يلتقيا مرة بعد مرة، وأن تكون بينهما هذه الصحبة المتينة الطويلة، وأن يكون كل منهما للآخر ناموسه وصاحب سره، لا ينشرح للكلام أو يتبسط فيه إلا معه، دون أن يقع شيء ما، وقد أعان على ذلك ويسره اطمئنان محاسن إليه وثقتها بعقله وما تتوهمه من خبرته ومعرفته، ولينها له طول تقاربهما للغزل، وغلبته هو على عقله لهفته على امتحان نفسه، وخيلت إليه اللهفة أن في وسعه أن يغالطها ويستر ضعفه بحيلة ما، إذا أخفق؛ فإنها غريرة، خليقة أن تحسب كل شيء منه هو الغاية التي ليس وراءها غاية، وشجعه اطمئنانه إلى سلامة العاقبة، وظل أياما مترددا مترجحا، ولكن ما يدفعه كان أقوى مما يصده.
Halaman tidak diketahui