تيسير البيان لأحكام القرآن
تأليف
الإمام الفقيه الموزعي محمد بن علي بن عبد الله بن إبراهيم بن الخطيب اليمني الشافعي
المشهور بـ «ابن نور الدين» (المتوفى سنة ٨٢٥ هـ) - رحمه الله تعالى -
بعناية
عبد المعين الحرش
دار النوادر
Halaman tidak diketahui
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة / 2
تَيْسِيْرُ البَيَانِ لِأَحْكَامِ القُرْآنِ
[١]
مقدمة / 3
جَمِيعُ الحقُوُقِ مَحْفُوظَة
الطَّبْعَةُ الأُولَى
١٤٣٣ هـ - ٢٠١٢ م
ردمك: ٣ - ٤١ - ٤٥٩ - ٩٩٣٣ - ٩٧٨: ISBN
دَارُ النَّوادِرِ
سورية - لبنان - الكويت
مُؤسَّسة دَار النَّوادِرِ م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوادِر الكُوَيْتِيَة ذ. م. م - الكُوَيْت
سورية - دمشق - ص. ب: ٣٤٣٠٦ - هَاتِف: ٢٢٢٧٠٠١ - فاكس: ٢٢٢٧٠١١ (٠٠٩٦٣١١)
لبنان - بيروت - ص. ب: ١٤/ ٥١٨٠ - هَاتِف: ٦٥٢٥٢٨ - فاكس: ٦٥٢٥٢٩ (٠٠٩٦١١)
الكويت - الصالحية - برج السَّحَاب - ص. ب: ٤٣١٦ حَولي - الرَّمْز البريدي: ٣٢٠٤٦
هَاتِف: ٢٢٢٧٣٧٢٥ - فاكس: ٢٢٢٧٣٧٢٦ (٠٠٩٦٥)
www.daralnawader.com
[email protected]
أسَّسَهَا سَنَة: ١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٦ م نُورُ الدِّيْن طَالِب المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنفِيْذِي
مقدمة / 4
تَقْدِيم
بِقَلَمِ فَضِيلَةِ الدّكتور مُصْطَفَي سَعِيد الخَن رَحِمَهُ الله تَعَالى
بِسْمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيمِ
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب الذي نوَّر به القلوب، وأحكمه بأوجز لفظ وأعجز أسلوب ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ [الزمر: ٢٨].
والصلاة والسلام على محمد عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله جلَّ ذكره قد أودع في القرآن الكريم علمَ كلِّ شيء ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨]، وجعله العصمة من الزلل، والمخرج من الفتن والمحن، لا يضل من اهتدى بهديه، ورشف من مَعينه، ويكفي في وصفه قول الرسول ﷺ: "فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَق على كثرة الرد ... " (١).
_________
(١) أخرجه الترمذي: في فضائل القرآن، باب: ما جاء في فضل القرآن: (٢٩٠٦) عن علي ﵁، وقال: غريب.
مقدمة / 5
فلا عجب بعد ذلك أن نرى المسلمين -بل وغيرهم- على تعدد طبقاتهم، وتنوع ثقافاتهم يهتمون بهذا الكتاب المبين، حفظًا وتدريسًا، وقراءةً وتجويدًا، وكتابة وإتقانًا، وتعلمًا وتعليمًا، منهم من يهتم بلغته وبيان وجوه إعجازه، ومنهم من يقف على أخباره وقصصه، ومنهم من يَلِجُ إلى فهم أسراره واستنباط أحكامه وتفسيره.
وقد ظهر في حياة المسلمين منذ فجر الإسلام إلى يوم الناس هذا الكثير الكثير من التفاسير، تعددت أساليبها وكيفياتها، وبذل فيها أصحابها جهدَهم في الوصول إلى مراد الله تعالى من آياته ليحولوها إلى واقع حياتهم عملًا، فيتأدبوا بآداب القرآن، ويتخلقوا بأخلاقه أسوةً بالنبي المصطفى ﷺ.
وقد أشار الإمام الزمخشري -صاحب تفسير "الكشاف"- إلى كثرة التفاسير بقوله:
إنَّ التَّفَاسيْرَ في الدُّنْيَا بلا عَدَدٍ ... وَلَيْسَ فيْهَا لَعَمْريْ مثْلَ كَشَّافِيْ
إنْ كُنْتَ تَبْغِي الهُدَى فَالْزَمْ قِرَاءَتَهُ ... الجَهْلُ كَالْدَّاءِ وَالكَشَّافُ كَالشَّافِى
ولعمري إن هذا الكلام ليصدق أيضًا على هذا الكتاب الذي بين أيدينا (تيسير البيان لأحكام القرآن) للعلامة الموزَعي اليمني، وذلك لِمَا امتاز به هذا الكتاب من مزايا تجعله مقدَّمًا على كتب تفسير آيات الأحكام.
ولعل أهم مزايا الكتاب تلك المقدمة الرائعة التي استهلَّ فيها الموزَعي كتابه؛ حيث ذكر فيها القواعد والمسائل الأصولية واللغوية التي يرتكز عليها عملُ المفسِّر لكتاب الله تعالى، وخصوصًا آيات الأحكام الفقهية والفروع العملية.
والكتاب اسم على مسمَّى فهو مُيَسَّر بيِّن، وذلك لسلاسة أسلوبه،
مقدمة / 6
وروعة منهجه، ودقة بيانه، حيث نجده يلج مع القارئ مباشرة إلى مضمون الآية، وبيان ما يستنبط منها من أحكام، عارضًا لوجوه الاستنباط، موضحًا لمذاهب الفقهاء في كل مسألة من المسائل وفق ترتيب منطقي، وبعبارة ناصعة مشرقة، تدل على وضوح المعنى، وجلاء الفكرة.
ثم لا يقف المؤلف عند عرض الأقوال والآراء، وذِكْر المذاهب والاختلاف، بل نجد عنده وقفات موفَّقة عند الكثير من ذلك مناقشًا ومستدلًا، مصوِّبًا ومصححًا ومختارًا، مما يثري مادة الكتاب العلمية، ويساعد القارئ على تلمُّس وجه الحق في حال الخلاف.
هذا، ولقد وفَّق الله ﷿ الأخ الكريم الفاضل عبد المعين الحرش (أبا بكر) للقيام بعبء إخراج هذا الكتاب المانع بهذه الحلة القشيبة، التي تليق بالكتاب ومؤلفه، بعد أن بقي حبيسَ الخزائن والمكتبات دهرًا من الزمن، فجزاه الله عن العلم وطلابه، والتفسيرِ وأهله خيرَ الجزاء، ولقد قام بالتحقيق وفق القواعد الموضوعية، فجاء تحقيقه وتعليقه حسب المطلوب، فجزاه الله خير الجزاء.
والله الموفق
مصطفي سعيد الخن
دمشق
١٤/ ٧/ ٢٠٠٤ م
٢٧/ ٥/ ١٤٢٥ هـ
مقدمة / 7
تَقْدِيم
بِقَلَمِ الأسْتَاذِ الدّكتور وَهْبَة مُصْطَفَي الزُّحَيلِيِّ
بِسْمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيمِ
الحمد لله الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، أنزل القرآن والمجيد فهو أعظم النعم على الناس قاطبة، والصلاة والسلام على رسولنا النبي الخاتم ومنقذ الأمم، وعلى آله وصحبه ذوي الأقدار العالية والهمم، وبعد:
فإن حقل تفسير القرآن الكريم خصب واسع وشامل كل ما تضمنه من عقيدة وإيمان، وشرائع وأحكام، وآداب وقيم تبني كيان الإنسان، وتنهض بالجماعات والإنسانية، ولغة عربية في أعلى درجات الفصاحة وبلاغة اللسان، وإيراد قصص الأنبياء الكرام الذين كانت حياتهم المثل الأعلى للتضحية والوفاء، وبذل الجهود الكبرى من أجل ترسيخ معالم الهدي الإلهي، ليكون ذخيرة وافية بكل متطلبات الحياة، وبناء المجتمعات، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وتُوِّجت رسالات الرسل الكرام بالرسالة الخاتمة وبالقرآن الخالد الذي لم يبق ولن يدوم في الوجود سواه صوت الحق الإلهي، ومَعْلم الوحي الرباني الثابت القطعي، فتعددت آفاق دراسته واستكناه مضامينه، في كل جانب من جوانب المعرفة والثقافة، وأصول الشريعة، ومنها التعرف على أحكام القرآن التي ينبغي عرضها بحيدة وموضوعية، وموازنة، ودقة،
مقدمة / 8
وتبيان لكل ما يؤصل مباني كل موضوع على حدة، وليكتمل نسيج المعرفة، وتتحدد معالم الأحكام بمبانيها وضوابطها ومقاصدها، من أجل سلامة الفهم والتطبيق والالتزام.
ومن أفضل وأمتع ما خلَّفه علماؤنا الأماثل: دراسة أحكام القرآن لحنفي، ومالكييَّن، وشافعييَّن، وهي ما يأتي:
١ - "أحكام القرآن" للجصاص الرازي الحنفي (٣٧٠ هـ) المتميز ببيانه المشرق وطول النَّفَس، في تقرير الحكم الشرعي المقارن بين المذاهب الفقهية الأربعة.
٢ - "أحكام القرآن" لعلي بن محمد بن علي المعروف بـ "إِلكيا الهراسي" (٥٠٤ هـ) لإلقاء الضوء على مشتملات المذهب الشافعي وأصول استنباطها.
٣ - "أحكام القرآن" لابن العربي المالكي (٥٤٣ هـ) الذي فاق غيره ببيان مختلف متعلقات الأحكام الشرعية ودقائق المسائل العلمية.
٤ - "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي المالكي (٦٧١ هـ) الذي هو موسوعة كبيرة في التفسير مع العناية بالمسائل الفقهية العديدة.
٥ - "تيسير البيان لأحكام القرآن" لجمال الدين محمد بن علي المَوْزعي (٨٢٥ هـ) وهو من بدائع الكتب المقارنة في الفقه المقارن واللغة، والأصول والتفسير والحديث النبوي، وهذا ما يميزه عن الكتب المشابهة، ويجعله في قمة العلم والاعتدال والإنصاف بل والاجتهاد، كما يبدو في ترجيحاته ومناقشاته وميله لرأي قد يخالف مذهب الإمام الشافعي ﵀، وذلك بسبب تمكنه الفقهي وإحاطته بدقائق العلم واللغة والبيان.
وقد قيض الله تعالى لهذا الكتاب الأخ الفاضل السيد عبد المعين الحرش من متخرجي كلية الشريعة بجامعة دمشق، فخدم الكتاب خدمة
مقدمة / 9
متميزة من تحقيق علمي، وضبط للكلمات، وبيان لمعاني المفردات اللغوية، وترجمة الأعلام، والتعقيب والتعليق على مختلف المسائل الفقهية التي تحتاج لإلقاء الضوء عليها، بعد إيراد المؤلف العلامة الموزعي لها بنحو موجز، ثم توثيق المعلومات بالمصادر المعتبرة، وتخريج الآيات والأحاديث، حتى صار هذا الإنجاز العلمي متفوقًا إذا قورن بأمثاله من الدراسات العلمية في كتاب الموزعي نفسه، فوفقه الله لكلِّ خير، ومتَّعه بنور العقل والبصيرة، وجزاه الله تعالى عن العلم والعلماء خير الجزاء.
أ. د. وهبَة مصطفي الزَّحيلي
عميد ورئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق سابقًا
مقدمة / 10
بِسْمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيمِ
مُقَدِمَة التَّحقِيْق
إنَّ الحمد لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعد:
فإنَّ علم التفسير من أجلِّ علوم الشريعة، وأرفعِها قدرًا، وهو من أشرف العلوم غرضًا، وحاجة إليه؛ لأن موضوعه كلام الله تعالى، الذي هو ينبوع كلِّ حكمة، ومعدِن كلِّ فضيلة.
وفي ذلك يقول الإمام البيضاوي في "تفسيره": إن أعظم العلوم مقدارًا، وأرفعها شرفًا ومنارًا: علم التفسير، الذي هو رئيس العلوم الدينية ورأسها، ومبنى قواعد الشرع وأساسها (١).
ويقول إمام المفسرين الطبري في "تفسيره": اعلموا عباد الله -رحمكم الله- أنَّ أحقَّ ما صُرفت إلى علمه العناية، وبلغت في معرفته الغاية، ما كان لله في العلم به رضَى، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدىً، وأنَّ أجمعَ ذلك لباغيه، كتاب الله الذي لا ريب فيه، وتنزيله الذي لا مِرْية
_________
(١) انظر: "تفسير البيضاوي" (١/ ٩).
مقدمة / 11
فيه، الفائز بجزيل الذخر وسنيِّ الأجر تاليه، الذي لا يأتيه الباطِلُ من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ (١).
ولقد كان الصحابةُ في عهد رسول الله ﷺ يفهمون القرآن بسليقتهم العربية، وإن التبسَ عليهم فهمُ آيةٍ رجعوا إلى رسول الله ﷺ فبينها لهم، ثم جعل إلى العلماء بعد رسول الله ﷺ استنباطَه، ما نبّه إلى معانيه، وأشار إلى أصوله ليتوصلوا بالاجتهاد فيه إلى علم المراد، فيمتازوا بذلك عن غيرهم، ويختصوا بثواب اجتهادهم، قال الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: ١١]، فصارَ الكتاب أصلًا، والسنُّةُ له بيانًا، واستنباطُ العلماء له إيضاحًا وتبيانًا (٢).
وكان من البدهي أن تَجِدَّ قضايا لم يسبق لها مثيلٌ في عهد النبي ﷺ، فكان القرآن للصحابة ملاذًا لهم لاستنباط الأحكام الشرعية للقضايا الجديدة، فيُجمعون على رأي فيها، وقلما يختلفون عند التعارض، كاختلافهم في عدة الحامل المتوفى عنها زوجُها، أهي وضع الحَمْل، أم مُضِيُّ أربعة أشهر وعشر، أم أبعدُ الأجلين منهما؟ حيث قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤]، وقال تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤]، فكانت هذه الأحوال على قِلَّتها بدايةَ الخلاف الفقهي في فهم آيات الأحكام.
فلما كان عهد الأئمة الأربعة، واتَّخذ كل إمام أصولًا لاستنباط الأحكام في مذهبه، وكثرت الأحداث، وتشعبت المسائل، ازدادت وجوه الاختلاف في فهم بعض الآيات لتفاوت وجوه الدلالة فيها، دون تعصب لمذهب، بل
_________
(١) انظر: "تفسير الطبري" (١/ ٢٦).
(٢) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (١/ ٢).
مقدمة / 12
استمساكًا بما يرى الفقيه أنه الحقُّ، ولا يجد غَضَاضةً إذا عرفَ الحقَّ لدى غيره أن يرجع إليه.
وبقي الأمر هكذا حتى جاء عصرُ التقليد المذهبي، فقَصَر أتباع الأئمة جهودهم على توضيح مذهبهم والانتصار له، وأحيانًا حتى لو كان ذلك بحمل الآيات القرآنية على المعاني المرجوحة البعيدة، ونشأ من هذا تفسير فقهيٌّ خاصٌّ لآيات الأحكام في القرآن، يشتد التعصب فيه أحيانًا، ويَخِفُّ أخرى (١).
وهذا المنهج هو ما يسمى بـ "التفسير الفقهي"، وقد برزت فيه كتب كان لها الأثرُ البارزُ في إثراء مكتبة الفقه الإسلامي، فمن هذه الكتب:
١ - "أحكام القرآن" للجصاص، وهو من المراجع المهمة في آيات الأحكام والمسائل الخلافية، لكنه مليء بميله المُفْرِطِ إلى مذهبه الحنفي، وذلك في الانتصار له، ومحاولته إبطالَ أدلة المخالفين.
٢ - "أحكام القرآن" لإلكيا الهَرَّاسِي الشافعي، وهو مرجع هام ومفيد في آيات الأحكام، لكنه اقتصر فيه على إيراد مذهب الشافعي ﵀ دون التعرض لمذاهبِ غيره من الأئمة.
٣ - "أحكام القرآن" لابن العربي المالكي: وهو من أحسن الكتب المؤلفة في آيات الأحكام، وعليه اعتمد مَنْ جاء بعده كالقرطبي، لكنه يهجم على المخالف بشدة، ويتحامل على بعض الأئمة المخالفين لمذهبه.
٤ - "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي، وهو من أفضل الكتب في التفسير وأكثرها جمعًا لآيات الأحكام، ومسائل الخلاف، دون التعصب والتحيز
_________
(١) انظر: "مباحث في علوم القرآن"، لمنّاع القطّان، (ص: ٣٧٦ - ٣٧٧).
مقدمة / 13
لمذهب من المذاهب الفقهية، فجاء الكتاب فريدًا في بابه، عظيمًا في نفعه وفائدته.
وقد جاء بعد هؤلاءِ الإمامُ العلامةُ الفقيه المفسر اللغوي محمد بن علي المَوْزعيُّ الشافعيُّ، فألف كتابه "تيسير البيان لأحكام القرآن" مقتفيًا أثرهم في مناقشته للآراء الفقهية، مع الرد على المخالف، وذكر أوجه الاستدلال، والمسائل الفرعية.
وقد اكتسب هذا الكتاب أهمية على غيره من كتب أحكام القرآن لأسبابٍ، منها:
١ - أن مؤلفه شافعيَّ المذهب، حيث إن الكتب المشتهرة قبله إما أن تكون لمؤلف حنفي؛ كالإمام الجصاص، أو لمؤلفٍ مالكي؛ كالإمامين ابن العربي والقرطبي.
٢ - مناقشات المؤلف وردوده في مسائل كثيرة من كتابه هذا، وعدم جموده على التقليد المحض، وذلك بالنظر في أدلة المذاهب الأخرى، وترجيحه في مواطن كثيرة غير مذهب إمامه الشافعي، مما يجعل لكتابه هذا قبولًا لدى أتباع المذاهب الأخرى.
٣ - طريقة عَرْضه للأحكام الفقهية، وحُسْن جمعه واختصاره لكلام الأئمة.
لهذه الأسباب -وغيرها مما سيأتي- اتجهت الرغبة لخدمة هذا الكتاب، وتحقيقه، وطبعه لنشره بين الناس؛ علماءَ وطلبةَ علمٍ.
وقد تم التقديم بين يدي الكتاب بفصلين -كمدخلٍ له- هما:
الفصل الأول: في ترجمة المؤلف.
الفصل الثاني: في دراسة الكتاب.
مقدمة / 14
هذا، وأسأل الله تعالى أن يتقبل منا صالح القول والعمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين
عبد المعين الحرش
مقدمة / 15
الفَصْلُ الأَوَّلُ ترجمة المؤلف الإمام الموزعي
* اسمه ونسبه:
هو محمدُ بنُ عليِّ بنِ عبد الله بن إبراهيمَ بن أحمدَ بن أبي بكر بن الخطيب، جمال الدين، الشعبيُّ، النَّمريُّ، المَوزَعِيُّ.
* لقبه وكنيته:
يعرف بابن نور الدين، ويعرف أيضًا بابن الخطيب، نسبةً إلى أحد أجداده عبد الله بن أبي بكر الذي عُرِف بابن الخطيب، وإليه ينسب بنو الخطيب الذين بموزع وغيرهم، ويكنَّى بأبي عبد الله.
* ولادته:
ولد المؤلف في بلدة موزَع -بفتح الزاي- التابعة لمدينة تعزّ في اليمن، وتقع غربها، وتبعد عنها مسافة (٩٠ كم) كم تقريبًا، ولم تذكر سنة ولادة المؤلف في المصادر التي ترجمت له، والله أعلم.
* أسرته:
عرف آل الخطيب بالعلم والتقوى والفضل، فلا يكاد يخلو فردٌ من هذه الأسرة إلا وهو على جانب كبير من العلم والورع والصلاح، والمستعرض لتاريخ علماء اليمن يجد الكثير من آل الخطيب قد حازوا قَصَبَ السَّبقْ في العلم والزهد والورع.
مقدمة / 16
فالجد عبد الله الذي ينسبون إليه كان خطيبًا في (أبين) وكان ذا زهد وعبادة.
ومن ذريته: الفقيه رضي الدين أبو بكر بن أحمد الذي أجمع أهل بلاده على صلاحه.
وله أولاد منهم: محمد بن أبي بكر الذي كان فقيهًا مقربًا من العلماء، ومدرِّسا ومفتيًا.
وإسماعيل، وقد اشتهر بالعبادة، وغيرهم.
فالمؤلف إذًا من أسرة عريقة، ضاربةٍ جذورها، راسخةٍ معالمُها بشرف العلم والدين، فكان لذلك أثرٌ في طلب المؤلف للعلم منذ نعومة أظفاره، ومساعدٌ له في تكوينه العلمي، حتى أصبح عالمًا بارعًا، بزَّ الأقران، وفاق الكثيرَ من الأعيان.
* أخلاقه وصفاته:
كان الإمام الموزعي عالمًا زاهدًا، وتقيًا ورعًا، مقبلًا على العلم والتحصيل، فلم يشغل نفسه بشيء من مشاغل الدنيا، وكان محبًا للخير، كريمًا، ينفق كلَّ ما عنده، ولم يدخر شيئًا، ولذا مات فقيرًا مَدِينًا، فقام ابنه من بعده بسداد دينه، وكان من ورعه تورعُه عن أموال الناس، وعن قبض شيء من الوقف المعدِّ لأهل الأسباب، وغير ذلك، وكان مدة قراءته بمدينة زَبيد تصله نفقةٌ من بلده من شيء يعتقد حلَّه، فانقطعت عليه نفقته أيامًا، فأمر الإمام جمال الدين الريمي (١) نائبَه أن يصرف له من الطعام في كل يوم شيئًا معينًا، فأعطاه ذلك في ثلاثة أيام، فلما كان في اليوم الرابع جاء إليه النائب بنفقته، فامتنع من قبضها، فلما علم الإمام الريمي بذلك، وسأله عن
_________
(١) ستأتي ترجمته قريبًا.
مقدمة / 17
السبب لامتناعه عن قبض النفقة، فاعتذر إليه، فلم يقبل عذره، وألحَّ عليه في تبين سبب الامتناع، فقال الإمام نور الدين: إنه أظلمَ قلبي من يوم قبضت النفقة من نائبك، فلا حاجة لي بها.
وكان ﵀ ذا صدقةٍ وأفعالٍ للخير، يبدأ بأقاربه وجيرانه، ثم يعمم كلَّ محتاج عَلِمَ به أو وصل إليه، ولا يدخر في بيته إلا ما يَسُدُّ به خلته في وقتهم، وهو الذي ابتدأ بعمارة جامع موزَع، وظهرت له كراماتٌ في حياته وبعد موته، وكان مجابَ الدَّعوةِ.
* مشايخه:
١ - جمال الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله بن أبي بكر الحثيثي الصردفي الريمي -نسبة إلى ريمة ناحية باليمن- الإمام العلامة، وأحد كبار الشافعية، اشتغل بالعلم وتقدم في الفقه، فكانت إليه الرحلة في زمانه، وصنف التصانيف النافعة، منها: "شرح التنبيه"، توفي سنة (٧٩٢ هـ)، وقد قرأ عليه المؤلف الفقهَ والأصول كاللمع للشيرازي، وغيرَ ذلك من العلوم.
٢ - تاج الدين الهندي، الدَّلَّي، الشيخ الفقيه، قرأ عليه المؤلف: "منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل" لابن الحاجب.
٣ - غياث الدين محمد بن جعفر الهندي الدَّلي، الشيخ العلامة الفقيه.
٤ - علي بن قمر، الشيخ الفقيه المذكور في أهل زبيد.
٥ - أبو عبد الله موسى الذوالي، شيخ القاضي الريمي، الإمام الفقيه الحافظ، قرأ عليه: "منهاج البيضاوي".
٦ - ومن شيوخه عدد من "آل الناشري"، لم تذكر أسماؤهم كما ذكر البُريهي.
مقدمة / 18
* تلامذته:
١ - الحسين بنُ عبدِ الرحمن بن محمد بن علي الحسينيُّ العلويُّ الشافعيُّ المعروف بالأهدل، صاحب "تحفة الزمن"، مفتي الديار اليمنية، وأحد علمائها المتفننين، وهو أشهر تلامذة الموزعي، توفي سنة (٨٥٥ هـ).
٢ - أبو بكر محمد بن رضي الدين أبو بكر بن أحمد الخطيب، وكان عالما زاهدًا مُجْمَعًا على جلالته، درس وأفتى، وقرأ عليه وعلى غيره الفقه والنحو الحديث واللغة والتفسير، وقد تقلد الرئاسة بعد وفاة شيخه جمالِ الدين محمدِ بن علي بن نور الدين الموزعيِّ، وتوفي في المئة التاسعة.
٣ - رضي الدين أبو بكر أحمد بن دعسين القرشي -نسبة إلى القرشية قبيلة في اليمن-، كان إمامًا عالمًا، أفتى ودرس، وتولى القضاء بموزع، ثم عزل نفسه، واجتهد في العبادة ونشرِ العلم، توفي (٨٤٢ هـ).
٤ - جمال الدين محمد بنُ عمرَ الحجاري، الفقيه القاضي، كان عالمًا ورعًا، ذا فضل عظيم وعبادة وزَهادة، مما يعجز عنه الكثير، تولى القضاء بموزع، فكان يصدع بالحق ولا يخافُ في الله لومة لائم، وقد قرأ عليه العلوم الشرعية والعربية، وتزوج بابنة الإمام الموزعي خديجة، توفي قريبًا من سنة (٨٢٠ هـ).
٥ - سعيد بن سحر، الفقيه، صاحب الفازة، تزوج بنت الإمام الموزعي، وتفقه عليه.
٦ - ولده الطيبُ ابن الإمامِ محمدِ بن علي الموزَعي، قرأ على والده كثيرًا من العلوم وتفقه عليه، كما قرأ على غيره من علماء عصره، ودرَّس وأفتى في عهد والده، واشتُهر بعد وفاته.
مقدمة / 19
٧ - ولده شمس الدين علي، قرأ على والده شيئًا من العلوم، وتفقه عليه، وخلف والده في الإحسان إلى من قصده، وكان ذا مال جزيل، قضى منه دين والده.
٨ - ولده إبراهيم، وقد قرأ على أبيه القرآن، ولم يتفقه.
* مكانته وثناء العلماء عليه:
١ - قال البريهي في "تاريخه": "الإمام العلامة الصالح الزاهد العابد، كان إمامًا عالمًا، علمه كالعارض الهاطل، المتحلي بتصانيفه، جِيْدُ الزمان العاطل، مُسْتَقَرُّ المحاسن والبيان، ومستودع البيان والإحسان، فخر اليمن، وبهجة الزمن، الصبور، الواصل للرحم، الخَشُوع، له الباع الطويل في لحم الفقه والأصول والنحو والمعاني والبيان واللغة، درَّس وأفتى، واشتهر، ورُزق القبول عند الخاصة والعامة".
٢ - وقال السخاوي في "الضوء اللامع": "الإمام الأصولي، جرت له أمور بان فيها فضلُه".
٣ - وقال الزركلي في "الأعلام": "مفسر عالم بالأصول".
* مؤلفاته:
صَنَّفَ الإمام الموزعي مؤلفات عدة في فنون مختلفة، مما يدل على تمكنه في هذه العلوم التي ألف فيها، ومنها:
١ - "تيسير البيان لأحكام القرآن"، وهو كتابنا هذا.
٢ - "الاستعداد لرتبة الاجتهاد"، وهو كتاب عظيم النفع في علم أصول الفقه، وقد سبق لي العناية به.
مقدمة / 20