ذكر التوابين من الملائكة ﵈
١ -[قصة هاروت وماروت]
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ النَّقُّورِ ﵀ أَنْبَأَ الأَمِينُ أَبُو طَالِبٍ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْيُوسُفِيُّ أَنْبَأَ ابْنُ الْمُذْهِبِ أَنْبَأَ أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ ثَنَا أَبِي ﵀ ثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ ثنا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "إِنَّ آدَمَ ﵇ لَمَّا أَهْبَطَهُ اللَّهُ إِلَى الأَرْضِ قَالَتِ: الْمَلائِكَةُ: أَيْ رَبَّنَا. ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ . [البقرة: ٣٠] .
قَالُوا: رَبَّنَا! نَحْنُ أَطْوَعُ لَكَ مِنْ بَنِي آدَمَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلائِكَةِ:
هَلُمُّوا مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلائِكَةِ حَتَّى نُهْبِطَهُمَا إِلَى الأَرْضِ فَتَنْظُرُوا كَيْفَ يَعْمَلانِ.
قَالُوا: رَبَّنَا! هَارُوتَ وَمَارُوتَ.
فَأُهْبِطَا إِلَى الأَرْضِ وَمَثُلَتْ لَهُمَا الزَّهْرَةُ امْرَأَةً مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ فَجَاءَتْهُمَا فَسَأَلاهَا نَفْسَهَا قَالَتْ: لا وَاللَّهِ! حَتَّى تَتَكَلَّمَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الإِشْرَاكِ.
فَقَالا: لا وَاللَّهِ! لا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا.
فَذَهَبَتْ عَنْهُمَا ثُمَّ رَجَعَتْ بِصَبِيٍّ تَحْمِلُهُ فَسَأَلاهَا نَفْسَهَا. فَقَالَتْ: لا وَاللَّهِ! حَتَّى تَقْتُلا هَذَا الصَّبِيَّ فَقَالا: لا وَاللَّهِ! لا نَقْتُلُهُ أَبَدًا.
1 / 9
فَذَهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ بِقَدَحِ خَمْرٍ تَحْمِلُهُ فَسَأَلاهَا نَفْسَهَا فَقَالَتْ: لا وَاللَّهِ! حَتَّى تَشْرَبَا هَذَا الْخَمْرَ فَشَرِبَا حَتَّى سَكِرَا فَوَقَعَا عَلَيْهَا وَقَتَلا الصَّبِيَّ فَلَمَّا أَفَاقَا قَالَتِ: الْمَرْأَةُ: وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُمَا شَيْئًا مِمَّا أَبَيْتُمَاهُ إِلا فَعَلْتُمَاهُ حِينَ سَكِرْتُمَا فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا والآخرة فاختارا - عذاب الدنيا" [أحمد ٢/١٣٤] .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُبَارَكِ بْنِ سَعْدٍ أنا جَدِّي لأُمِّي أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ دُومَا أنا أَبُو عَلِيٍّ الْبَاقَرْحِيُّ أنا الْحَسَنُ بْنُ عَلُّوَيْهِ أنا إِسْمَاعِيلُ أنا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ:
لَمَّا أَنْ أَفَاقَا جَاءَهُمَا جِبْرِيلُ ﵇ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﷿ وَهُمَا يَبْكِيَانِ فَبَكَى مَعَهُمَا وَقَالَ: لَهُمَا: مَا هَذِهِ الْبَلِيَّةُ الَّتِي أَجْحَفَ بِكُمَا بَلاؤُهَا وَشَقَاؤُهَا؟.
فبكيا إليه فقال له: ما: إِنَّ رَبَّكُمَا يُخَيِّرُكُمَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَأَنْ تَكُونَا عِنْدَهُ فِي الآخِرَةِ فِي مَشِيئَتِهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَكُمَا وَإِنْ شَاءَ رَحِمَكُمَا.
وَإِنْ شِئْتُمَا عَذَابَ الآخِرَةِ.
فَعَلِمَا أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَأَنَّ الآخِرَةَ دَائِمَةٌ وأن الله بعباده رؤوف رَحِيمٌ. فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا وَأَنْ يَكُونَا فِي الْمَشِيئَةِ عِنْدَ اللَّهِ.
قَالَ: فَهُمَا بِبَابِلِ فَارِسَ مُعَلَّقَيْنِ بَيْنَ جَبَلَيْنِ فِي غَارٍ تَحْتَ الأَرْضِ يُعَذَّبَانِ كُلَّ يَوْمٍ طَرَفَيِ النَّهَارِ إِلَى الصَّيْحَةِ وَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ الْمَلائِكَةُ خَفَقَتْ بِأَجْنِحَتِهَا فِي الْبَيْتِ ثُمَّ قَالُوا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَلَدِ آدَمَ عَجَبًا كَيْفَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيُطِيعُونَهُ عَلَى مَا لَهُمْ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ!.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فَاسْتَغْفَرَتِ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ لِوَلَدِ آدَمَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ الشورى: ٥] .
روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ لِلْمَلائِكَةِ: انْتَخِبُوا ثَلاثَةً مِنْ أَفَاضِلِكُمْ فَانْتَخَبُوا عزرا وعزرايل وعزويا. فَكَانُوا إِذَا هَبَطُوا إِلَى الأَرْضِ كَانُوا فِي حَدِّ بَنِي آدَمَ وَطَبَائِعِهِمْ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عزرا وَعَرَفَ الْفِتْنَةَ عَلِمَ أَنْ لا طَاقَةَ لَهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ﷿ وَاسْتَقَالَهُ فَأَقَالَهُ.
فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ بَعْدُ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
قال الربيع بن أنس: لما ذهب عن هاروت وماروت السكر عرفا ما وقعا فيه
1 / 10
من الخطيئة وندما وأرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا ولم يؤذن لهما فبكيا بكاء طويلا وضاقا ذرعا بأمرهما.
ثم أتيا إدريس ﵇ وقالا له: ادع لنا ربك فإنا سمعنا بك تذكر بخير في السماء فدعا لهما فاستجيب له وخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة.
وروي أن الملائكة لما قالوا لله ﵎: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] طافوا حول العرش أربعة آلاف عام يعتذرون إلى الله ﷿ من اعتراضهم.
1 / 11
ذكر التوابين من الأنبياء ﵈
٢ – [توبة آدم ﵇]
أخبرنا أبو الفضل مسعود بن عبيد الله بن النادر قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين أنا أبو بكر محمد بن علي الخياط أنا أبو عبد الله بن دوست ثنا الحسين بن صفوان ثنا ابن أبي الدنيا ثنا يعقوب بن إسحاق بن دينار ثنا محمد بن معاذ العنبري عن ابن السماك قال: حدثني عمر بن ذر عن مجاهد:
أن آدم ﵇ لما أكل من الشجرة تساقط عنه جميع زينة الجنة ولم يبق عليه من زينتها إلا التاج والإكليل. وجعل لا يستتر بشيء من ورق الجنة إلا سقط عنه فالتفت إلى حواء باكيا وقال: استعدي للخروج من جوار الله هذا أول شؤم المعصية قالت: يا آدم! ما ظننت أن أحدا يحلف بالله كاذبا - وذلك أن إبليس قاسمهما على الشجرة - وآدم في الجنة هاربا استحياء من رب العالمين فتعلقت به شجرة ببعض أغصانها فظن آدم أنه قد عوجل بالعقوبة فنكس رأسه يقول: العفو! العفو. فقال الله ﷿: يا آدم أفرارا مني؟ قال: بل حياء منك سيدي.
فأوحى الله إلى الملكين: أن أخرجا آدم وحواء من جواري فإنهما قد عصياني.
فنزع جبريل ﵇ التاج عن رأسه وحل ميكائيل ﵇ الإكليل عن جبينه.
1 / 12
فلما هبط من ملكوت القدس إلى دار الجوع والمسغبة بكى على خطيئته مائة سنة قد رمى برأسه على ركبتيه حتى نبتت الأرض عشبا وأشجارا من دموعه حتى نقع الدمع في نقر الجلاميد وأقعيتها.
أخبرنا أبو الفتح محمد بن عبد الباقي أنا أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون أنا أبو علي بن شاذان أنا أبو علي عيسى بن محمد الطوماري أنبأ محمد بن أحمد بن البراء أنبأ عبد المنعم بن إدريس أنبأ أبي عن وهب بن منبه:
أن آدم ﵇ لبث في السخطة سبعة أيام: ثم إن الله تعالى أطلعه في اليوم السابع وهو منكس محزون كظيم فأوحى الله إليه: يا آدم! ما هذا الجهد الذي أراك فيه اليوم! وما هذه البلية التي قد أجحف بك بلاؤها وشقاؤها!.
قال آدم: عظمت مصيبتي يا إلهي وأحاطت بي خطيئتي وخرجت من ملكوت ربي فأصبحت في دار الهوان بعد الكرامة وفي دار الشقاوة بعد السعادة وفي دار العناء والنصب بعد الخفض والدعة وفي دار البلاء بعد العافية وفي دار الظعن والزوال بعد القرار والطمأنينة وفي دار الفناء بعد الخلد والبقاء وفي دار الغرور بعد الأمن إلهي! فكيف لا أبكي على خطيئتي؟ أم كيف لا تحزنني نفسي أم كيف لي أن أجتبر هذه البلية والمصيبة يا إلهي؟.
قال الله تعالى له: ألم أصطفك لنفسي وأحللتك داري واصطفيتك على خلقي وخصصتك بكرامتي وألقيت عليك محبتي وحذرتك سخطي؟ ألم أباشرك بيدي وأنفخ فيك من روحي وأسجد لك ملائكتي؟ ألم تك جاري في بحبوحة جنتي تتبوأ حيث تشاء من كرامتي فعصيت أمري ونسيت عهدي وضيعت وصيتي؟ فكيف تستنكر نقمتي فوعزتي وجلالي لو ملأت الأرض رجالا كلهم مثلك ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٠] ثم عصوني لأنزلتهم منازل العاصين وإني قد رحمت ضعفك وأقلتك عثرتك وقبلت توبتك وسمعت تضرعك وغفرت ذنبك فقل: لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك ظلمت نفسي وعملت السوء فتب علي إنك أنت التواب الرحيم. فقالها آدم.
ثم قال له ربه: قل: لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك ظلمت نفسي وعملت السوء فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم. فقالها آدم.
1 / 13
ثم قال له ربه قل: لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك ظلمت نفسي وعملت السوء فارحمني إنك أرحم الراحمين.
قال: وكان آدم قد اشتد بكاؤه وحزنه لما كان من عظم المصيبة حتى إن كانت الملائكة لتحزن لحزنه وتبكي لبكائه فبكى على الجنة مائتي سنة فبعث الله إليه بخيمة من خيام الجنة فوضعها له في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة.
٣ – [توبة نوح ﵇] أخبرنا أبو الحسن علي بن عساكر أنا عبد القادر بن محمد أخبرنا الحسن بن علي أنا أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ ثَنَا عَبْدُ الله حدثني أبي ثنا عبد الرزاق ثنا وهيب بن الورد قال: لما عاتب الله تعالى نوحا في ابنه فأنزل عليه ﴿إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ هود: ٤٦]، قال: فبكى ثلاثمائة عام حتى صار تحت عينيه مثل الجداول من البكاء.
٤ – [توبة موسى ﵇] أخبرنا أحمد بن المبارك أنا جدي ثابت أنا أبو علي بن دوما أنا مخلد بن جعفر أنا الْحَسَنُ بْنُ عَلُّوَيْهِ أنا إسماعيل بن عيسى أنا إسحاق بن بشر أنا أبو إلياس عن وهب بن منبه قال: لما سمع موسى ﵇ كلام ربه ﷿ طمع في رؤيته. فقال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ [الأعراف: ١٤٣] . قال محمد بن إسحاق: حدثني بعض من لا أتهم قال: قال الله تعالى: يا ابن عمران! إنه لا يراني أحد فيحيا قال موسى: رب لا شريك لك إني أن أراك وأموت أحب إلي من أن لا أراك وأحيا رب أتمم علي نعماك وفضلك وإحسانك بهذا الذي أسألك وأموت على أثر ذلك.
٣ – [توبة نوح ﵇] أخبرنا أبو الحسن علي بن عساكر أنا عبد القادر بن محمد أخبرنا الحسن بن علي أنا أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ ثَنَا عَبْدُ الله حدثني أبي ثنا عبد الرزاق ثنا وهيب بن الورد قال: لما عاتب الله تعالى نوحا في ابنه فأنزل عليه ﴿إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ هود: ٤٦]، قال: فبكى ثلاثمائة عام حتى صار تحت عينيه مثل الجداول من البكاء.
٤ – [توبة موسى ﵇] أخبرنا أحمد بن المبارك أنا جدي ثابت أنا أبو علي بن دوما أنا مخلد بن جعفر أنا الْحَسَنُ بْنُ عَلُّوَيْهِ أنا إسماعيل بن عيسى أنا إسحاق بن بشر أنا أبو إلياس عن وهب بن منبه قال: لما سمع موسى ﵇ كلام ربه ﷿ طمع في رؤيته. فقال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ [الأعراف: ١٤٣] . قال محمد بن إسحاق: حدثني بعض من لا أتهم قال: قال الله تعالى: يا ابن عمران! إنه لا يراني أحد فيحيا قال موسى: رب لا شريك لك إني أن أراك وأموت أحب إلي من أن لا أراك وأحيا رب أتمم علي نعماك وفضلك وإحسانك بهذا الذي أسألك وأموت على أثر ذلك.
1 / 14
قال: وأخبرنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما رأى الله الرحيم بخلقه من حرص موسى على أن يعطيه سؤله قال: انطلق فانظر الحجر الذي في رأس الجبل فاجلس عليه فإني مهبط عليك جندي ففعل موسى.
فلما استوى عليه عرض الله تعالى عليه جنود سبع سماوات فأمر ملائكة سماء الدنيا أن يعرضوا عليه فمروا بموسى ﵇ ولهم أصوات مرتفعة بالتسبيح والتهليل كصوت الرعد الشديد ثم أمر ملائكة السماء الثانية أن يعرضوا عليه ففعلوا فمروا به على ألوان شتى ذوو وجوه وأجنحة منهم ألوان الأسد رافعي أصواتهم بالتسبيح ففزع موسى منهم وقال: أي رب! إني ندمت على مسألتي رب! هل أنت منجي من مكاني الذي أنا فيه؟
قال له رأس الملائكة: يا موسى! اصبر على ما سألت فقليل من كثير ما رأيت.
ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى فأقبل ما لا يحصى عددهم على ألوان شتى ألوانهم كلهب النار لهم بالتسبيح والتهليل زجل فاشتد فزع موسى ﵇ وساء ظنه ويئس من الحياة.
فقال له رأس الملائكة: يا ابن عمران اصبر حتى ترى ما لا تصبر عليه.
ثم أوحى الله تعالى إلى ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا إلى موسى بالتسبيح فهبطوا ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج لهم أصوات عالية بالتسبيح والتقديس لا تشبه أصوات الذين مروا به.
فقال له رأس الملائكة: يا موسى اصبر على ما سألت.
فكذلك أهل كل سماء إلى السماء السابعة ينزلون إليه بألوان مختلفة وأبدان مختلفة وأقبلت ملائكة يخطف نورهم الأبصار ومعهم حراب الحربة كالنخلة الطويلة العظيمة كأنها نار أشد ضوءا من الشمس وموسى ﵇ يبكي رافعا صوته يقول: يا رب اذكرني ولا تنسني أنا عبدك ما أظن أن أنجو مما أنا فيه إن خرجت احترقت وإن مكثت مت.
قال له رأس الملائكة: قد أوشكت أن تمتلئ خوفا وينخلع قلبك هذا الذي جلست لتنظر إليه.
قال: ونزل جبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في سبع سماوات وحملة العرش والكرسي وأقبلوا عليه يقولون: يا خاطئ ابن الخاطئ ما الذي رقاك
1 / 15
إلى هاهنا وكيف اجترأت أن تسأل ربك أن تنظر إليه؟ وموسى ﵇ يبكي وقد اصطكت ركبتاه وتخلعت مفاصله.
فلما رأى الله ﷿ ذلك من عبده أراه قائمة عرشه فتعلق بها فاطمأن قلبه فقال له إسرافيل: يا موسى! والله - إنا لنحن رؤساء الملائكة - لم نرفع أبصارنا نحو العرش منذ خلقنا خوفا وفرقا فما حملك أيها العبد الضعيف على هذا؟
فقال موسى: يا إسرافيل - وقد اطمأن - أحببت أن اعرف من عظمة ربي ما عرفت.
ثم أوحى الله ﷿ للسماوات: إني متجل للجبل فارتعدت السماوات والأرض والجبال والشمس والقمر والنجوم والسحاب والجنة والنار والملائكة والبحار وخروا كلهم سجدا وموسى ينظر إلى الجبل ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف: ١٤٣] ميتا من نور رب العزة جل وعلا فوقع عن الحجر وانقلب عليه فصار عليه مثل القبة لئلا يحترق.
قال الحسن: فبعث الله تعالى جبريل ﵇ فقلب الحجر عن موسى وأقامه فقام موسى ﵇ فقال: ﴿سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٤٣] مما سألت ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الأعراف: ١٤٣] أي أنا أول من آمن أنه لا ينظر إليك أحد إلا مات وقيل: أنا أول من آمن أنه لا يراك أحد في الدنيا.
٥ – [توبة داود ﵇] أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: أَنْبَأَ ثَابِتٌ أنا أَبُو عَلِيٍّ أنا مَخْلَدٌ أنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أنا إِسْمَاعِيلُ أنا إِسْحَاقُ قَالَ: وَأَنْبَأَ الأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "كَانَ دَاوُدُ ﵇ قَدْ قَسَّمَ الدَّهْرَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ فَيَوْمٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ يُدَارِسُهُمُ الْعِلْمَ وَيُدَارِسُونَهُ وَيَوْمٌ لِلْمِحْرَابِ وَيَوْمٌ لِلْقَضَاءِ وَيَوْمٌ لِلنِّسَاءِ فَبَيْنَا هُوَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُدَارِسُهُمْ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يَأْتِي عَلَى ابْنِ آدَمَ يَوْمٌ إِلا يُصِيبُ فِيهِ ذَنْبًا
٥ – [توبة داود ﵇] أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: أَنْبَأَ ثَابِتٌ أنا أَبُو عَلِيٍّ أنا مَخْلَدٌ أنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أنا إِسْمَاعِيلُ أنا إِسْحَاقُ قَالَ: وَأَنْبَأَ الأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "كَانَ دَاوُدُ ﵇ قَدْ قَسَّمَ الدَّهْرَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ فَيَوْمٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ يُدَارِسُهُمُ الْعِلْمَ وَيُدَارِسُونَهُ وَيَوْمٌ لِلْمِحْرَابِ وَيَوْمٌ لِلْقَضَاءِ وَيَوْمٌ لِلنِّسَاءِ فَبَيْنَا هُوَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُدَارِسُهُمْ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يَأْتِي عَلَى ابْنِ آدَمَ يَوْمٌ إِلا يُصِيبُ فِيهِ ذَنْبًا
1 / 16
فَقَالَ دَاوُدُ فِي نَفْسِهِ: الْيَوْمُ الَّذِي أَخْلُو فِيهِ لِلْمِحْرَابِ تَتَنَحَّى عَنِّي الْخَطِيئَةُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا دَاوُدُ! خُذْ حِذْرَكَ حَتَّى تَرَى بَلاءَكَ".
قال إسحاق: وأخبرنا ابن بشر عن قتادة عن الحسن قال: فبينا هو في محرابه منكب على الزبور يقرؤها إذ دخل عليه طائر من الكوة فوقع بين يديه جسده من ذهب وجناحاه من ديباج مكلل بالدر ومنقاره زبرجد وقوائمه فيروزج.
فوقع بين يديه فنظر إليه فحسب أنه من طير الجنة فجعل يتعجب من حسنه - وكان له ابن صغير - فقال: لو أخذت هذا فنظر إليه ابني فأهوى إليه فتباعد منه ويطمعه أحيانا من نفسه حتى تكاد تقع يده عليه فتباعد منه أيضا. فما زال كذلك يدنو ويتباعد حتى قام من مجلسه وأطبق الزبور.
فطلبه فوقع في الكوة فطلبه في الكوة فرمى بنفسه في بستان فاطلع داود فإذا بامرأة تغتسل.
قال قتادة عن بلال بن حسان: فأخرج رأسه من الكوة فإذا هو بامرأة تغتسل فنظر إلى أحسن خلق الله. ونظرت المرأة وإذا وجه رجل فنشرت شعرها فغطت جسدها.
رجع إلى حديث الحسن قال: فزاده ذلك بها إعجابًا. فرجع إلى مكانه وفي نفسه منها ما في نفسه.
فبعث لينظر من هي؟ فرجع إليه الرسول فقال: هي تشايع ابنة حنانا وزوجها أوريا ابن صورا - وهو في البلقاء مع ابن أخت داود محاصرين قلعة -.
فكتب داود إلى ابن أخته كتابا إذا جاءك كتابي هذا فمر أوريا بن صورا فليحمل التابوت وليتقدم أمام الجيش - وكان الذي يتقدم لا يرجع حتى يقتل أو يفتح الله عليه -.
فدعا صاحب الجيش أوريا فقرأ عليه الكتاب فقال: سمعا وطاعة فحمل التابوت وسار أمام أصحابه فقتل. وكتب ابن أخت داود بذلك إلى داود.
فلما انقضت عدة المرأة أرسل إليها داود فخطبها فتزوجها.
قال: وأخبرنا سعيد عن قتادة عن الحسن قال: إن داود لما تزوج تشايع بنت حنانا وكان يخلو للعبادة في المحراب فبينا هو في المحراب إذ
1 / 17
سمع صوتا عاليا ثم تسور عليه رجلان حتى اقتحما عليه فلما رآهما فزع منها قالا: ﴿لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾ - يعني اعتدي بعضنا على بعض فظلمه ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ﴾ - يعني لا تجر ﴿وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ﴾ [ص: ٢٢]- يعني إلى قصد السبيل.
فقال داود: قصا علي قصتكما قال: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقال أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ - يعني قهرني وظلمني - وأخذ نعجتي فضمها إلى نعاجه ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ [ص: ٢٢] يعني إذا تكلم كان أبلغ في المخاطبة مني وإذا دعا كان أسرع إجابة مني وإذا خرج كان - يعني - أكثر تبعا مني -.
فقال داود: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ [ص: ٢٤]
قال: فضحك المدعى عليه فقال داود: تظلم وتضحك؟ ما أحوجك إلى قدوم يرض منك هذه وهذه - يعني جبهته وفاه.
قال الملك: بل أنت أحوج إلى ذلك منه وارتفعا.
وفي رواية قال: فتحولا في صورتهما وعرجا وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه.
وعلم داود أنه إنما عني به هو فخر ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها ثم يعود فيسجد لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه ﷿ ويسأله التوبة.
وكان يقول في سجوده: سبحان خالق النور الحائل بين القلوب! سبحان خالق النور! إلهي خليت بيني وبين عدوي إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي سبحان خالق النور! إلهي لم أفارق الزبور ولم أتعظ بما وعظت به غيري إلهي! أمرتني أن أكون لليتيم كالأب الرحيم وللأرملة كالزوج الرحيم فنسيت عهدك! سبحان خالق النور! إلهي بأي عين أنظر إليك يوم القيامة وإنما الظالمون من طرف خفي سبحان خالق النور! إلهي! الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصاب! سبحان خالق النور! إلهي! الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء فيقال: هذا داود الخاطىء! سبحان خالق النور! إلهي! أنت المغيث وأنا المستغيث فمن يدعو المستغيث إلا المغيث؟ سبحان خالق النور إلهي إليك
1 / 18
فررت بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين ولا تخزني يوم الدين - في مناجاة كثيرة.
قال: فأتاه نداء: أجائع أنت فتطعم؟ أظمآن أنت فتسقى؟ أمظلوم أنت فتنصر؟ ولم يجبه في ذكر خطيئته. قال: فصاح صيحة هاج ما حوله ثم نادى: يا رب! الذنب الذي أصبت؟
فنودي: يا داود! ارفع رأسك فقد غفرت لك.
قال: وأخبرنا أبو إلياس عن وهب بن منبه أن داود أتى قبر أوريا فقام عنده وجعل التراب على رأسه ثم نادى فقال: الويل لداود ثم الويل الطويل لداود! سبحان خالق النور! الويل لداود ثم الويل لداود إذا نصبت الموازين! سبحان خالق النور! الويل لداود ثم الويل الطويل لداود يوم يقتص للمظلوم من الظالم! سبحان خالق النور! الويل لداود ثم الويل الطويل لداود يوم يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار! سبحان خالق النور! الويل لداود ثم الويل الطويل لداود!
قال: فأتاه نداء من السماء: يا داود! قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك وأقلت عثرتك
قال: يا رب! كيف تعفو عني وصاحبي لم يعف عني؟
قال: يا داود أعطيه يوم القيامة من الثواب ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه فأقول: رضي عبدي؟ فيقول: يا رب! من أين لي هذا ولم يبلغه عملي؟ فأقول له هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي.
قال: يا رب! الآن عرفت أنك قد غفرت لي.
1 / 19
ذَلِكَ فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَأْمُرَ بَعْضَ الشَّيَاطِينِ فَيُصَوِّرُونَ لِي صُورَةَ أَبِي فِي دَارِي فَأَرَاهُ بُكْرَةً وَعَشِيًّا رَجَوْتُ أَنْ يَذْهَبَ عَنِّي حُزْنِي وَيُسَلَّى عَنِّي بَعْضُ مَا أَجِدُ فِي نَفْسِي.
فَأَمَرَ سُلَيْمَانُ صَخْرًا الْمَارِدَ فَمَثَّلَ لَهَا أَبَاهَا فِي هَيْئَتِهِ فِي نَاحِيَةِ دَارِهَا لا تُنْكِرُ مِنْهُ شَيْئًا إِلا أَنَّهُ لا رُوحَ فِيهِ. فَعَمَدَتْ إِلَيْهِ فَزَيَّنَتْهُ وَأَلْبَسَتْهُ حَتَّى تَرَكَتْهُ فِي هَيْئَةِ أَبِيهَا وَلِبَاسِهِ فَإِذَا خَرَجَ سُلَيْمَانُ ﵇ مِنْ دَارِهَا تَغْدُو عَلَيْهِ كُلَّ غُدْوَةٍ مَعَ جَوَارِيهَا فَتُطَيِّبُهُ وَتَسْجُدُ لَهُ وَتَسْجُدُ جَوَارِيهَا وَتَرُوحُ بِمِثْلِهِ - وَسُلَيْمَانُ لا عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ -.
حَتَّى أَتَى لِذَلِكَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَبَلَغَ النَّاسَ وَبَلَغَ آصِفَ بْنَ بَرْخِيَا - وَكَانَ صَدِيقًا لَهُ - فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَقُومَ مَقَامًا أَذْكُرُ فِيهِ مَنْ مَضَى مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأُثْنِي عَلَيْهِمْ بِعِلْمِي فِيهِمْ.
قَالَ: فَجَمَعَ سُلَيْمَانُ النَّاسَ فَقَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ مَنْ مَضَى مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَثْنَى عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ بِمَا فِيهِ وَذَكَرَ مَا فَضَّلَهُمُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سُلَيْمَانَ فَذَكَرَ فَضْلَهُ وَمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ فِي حَدَاثَةِ سِنِّهِ وَصِغَرِهِ ثُمَّ سَكَتَ. فَامْتَلأَ سُلَيْمَانُ غَيْظًا. فَلَمَّا دَخَلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأَتَاهُ. فَقَالَ: يَا آصَفُ! ذَكَرْتَ مَنْ مَضَى مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ فَأَثْنَيْتَ عَلَيْهِمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زَمَانِهِمْ كُلِّهِ فَلَمَّا ذَكَرْتَنِي جَعَلْتَ تُثْنِي عَلَيَّ بِخَيْرٍ فِي صِغَرِي وَسَكَتَّ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِي فِي كِبَرِي فَمَا الَّذِي أَحْدَثْتُ فِي كِبَرِي؟.
قَالَ: أَحْدَثْتَ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ يُعْبَدُ فِي دَارِكَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي هَوَى امْرَأَةٍ.
قَالَ: فِي دَارِي؟ قَالَ: فِي دَارِكَ.
قَالَ: إِنَّا للَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ عَرَفْتُ مَا قُلْتَ هَذَا إِلا عَنْ شَيْءٍ بَلَغَكَ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى دَارِهِ وَكَسَرَ ذَلِكَ الصَّنَمَ وَعَاقَبَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ وَوَلائِدَهَا ثُمَّ دَعَا بِثِيَابِ الطُّهْرِ فَلَبِسَهَا. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى فَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ فَفُرِشَ لَهُ الرَّمَادُ ثُمَّ أَقْبَلَ تَائِبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَجَلَسَ عَلَى ذَلِكَ الرَّمَادِ يَتَمَعَّكُ فِيهِ مُتَذَلِّلا مُتَضَرِّعًا يَبْكِي وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَقُولُ: يَا رَبِّ! مَا هَذَا بَلاؤُكَ عِنْدَ آلِ دَاوُدَ أَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَكَ وَأَنْ يُقِرُّوا فِي دَارِهِمْ وَأَهْلِهِمْ عِبَادَةَ غَيْرِكَ؟!. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى أَمْسَى. ثُمَّ رَجَعَ وَكَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ سَمَّاهَا الأَمِينَةَ. وَكَانَ إِذَا أَتَى الْخَلاءَ أَوْ أَرَادَ إِتْيَانَ امْرَأَةٍ وَضَعَ خَاتَمَهُ عِنْدَهَا وَكَانَ لا يَمَسُّهُ إِلا وَهُوَ طَاهِرٌ وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مُلْكَهُ فِي خَاتَمِهِ.
1 / 20
قال وهب: فجاء يوما يريد الوضوء فدفع الخاتم إليها. وجاء صخر المارد فسبق سليمان فدخل المتوضأ فدخل سليمان لحاجته وخرج الشيطان على صورة سليمان ينفض لحيته من الوضوء لا تنكر من سليمان شيئا فقال: خاتمي يا أمينة! فناولته إياه لا تحسب إلا أنه سليمان فجعله في يده. ثم جاء حتى جلس على سرير سليمان وعكف عليه الطير والجن والإنس.
وخرج سليمان فقال للأمينة: خاتمي قالت: ومن أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود - وقد تغير عن حاله وذهب عنه بهاؤه - قالت: كذبت إن سليمان قد أخذ خاتمه وهو جالس على سريره في ملكه.
فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته.
قال الحسن: فخرج سليمان هاربا مخافة على نفسه. فمضى على وجهه بغير حذاء ولا قلنسوة في قميص وإزار.
فمر بباب شارع على الطريق - وقد جهده الجوع والعطش والحر - فأتى الباب فقرعه فخرجت امرأة فقالت: ما حاجتك؟ فقال: ضيافة ساعة فقد ترين ما أصابني من الحر والرمضاء قد احترقت رجلاي وبلغ مجهودي من الجوع والعطش.
قالت المرأة: زوجي غائب وليس يسعني أن أدخل رجلا غريبا علي فادخل البستان فإن فيه ماء وثمارا فأصب من ثماره وتبرد فيه فإذا جاء زوجي استأذنته في ضيافتك فإن أذن لي فذاك وإن أبى أصبت ما رزق الله ومضيت.
فدخل البستان فاغتسل ووضع رأسه فنام - فآذاه الذباب - فجاءت حية سوداء فأخذت ريحانة من البستان بفيها وجاءت سليمان فجعلت تذب عنه الذباب حتى جاء زوج المرأة فقصت عليه القصة فدخل إلى سليمان فلما رأى الحية وصنيعها دعا امرأته فقال لها: تعالي فانظري إلى العجب! فنظرت ثم مشيا إليه فأيقظاه ثم قالا له: يا فتى! هذا منزلنا لا يسعنا شيء يعجزك وهذه ابنتي قد زوجتكها - وكانت من أجمل نساء زمانها - فتزوجها وأقام عندهم ثلاثا ثم قال: لا يسعني إلا طلب المعيشة لي ولأهلي.
فانطلق إلى الصيادين فقال لهم: هل لكم في رجل يكون معكم يعينكم وترضخون له من صيدكم وكل يأتيه الله برزقه؟.
فقالوا: قد انقطع عنا الصيد وليس عندنا فضل نعطيكه.
1 / 21
فمضى إلى غيرهم فقال لهم مثل هذه المقالة. فقالوا: له: نعم وكرامة نواسيك بما عندنا.
فأقام عندهم يختلف كل ليلة إلى أهله بما أصاب من الصيد حتى أنكر الناس قضاء سليمان وفعاله. فلما رأى الخبيث أن الناس قد فطنوا له انطلق بالخاتم فألقاه في البحر.
قال الحسن: أمسك الخاتم أربعين يوما. وروي أنه قعد على كرسي سليمان فاجتمع له الجن والإنس والشياطين. وملك كل شيء كان يملكه سليمان ﵇ إلا أنه لم يسلط على نسائه.
وخرج سليمان يسأل الناس ويتضيفهم ويقوم على باب الرجل والمرأة ويقول: أطعموني فإني سليمان بن داود. فيطردونه ويقولون له: ما يكفيك ما أنت فيه حتى تكذب على سليمان وهذا سليمان على ملكه حتى أصابه الجهد واشتد عليه البلاء.
فلما تم عليه أربعون يوما قال: آصف: يا معشر بني إسرائيل! هل رأيتم من خلاف حكم ابن داود ما رأيت؟ قالوا: نعم فعمد عند ذلك الخبيث فألقى الخاتم في البحر.
فاستقبله جري فابتلع الخاتم فصار في جوفه مثل الحريق من نور الخاتم. فاستقبل جرية الماء فوقع في شباك الصيادين الذين كان سليمان معهم فلما أمسوا قسموا السمك فأسقطوا الجري فجعلوه لسليمان فذهب به إلى أهله فأمرهم أن يصنعوه فلما شقوا بطنه أضاء البيت نورا من خاتمه فدعت المرأة سليمان فأرته الخاتم فتختم به وخر لله ساجدا وقال: إلهي! لك الحمد على قديم بلائك وحسن صنيعك إلى آل داود. إلهي! أنت ابتدأتهم بالنعم وأورثتهم الكتاب والحكم والنبوة فلك الحمد إلهي! تجود بالكبير وتلطف بالصغير فلك الحمد نعماؤك ظهرت فلا تخفى وبطنت فلا تحصى فلك الحمد. إلهي! لم تسلمني بذنوبي فلك الحمد تغفر الذنوب وتستجيب الدعاء فلك الحمد إلهي! لم تسلمني بجريرتي فلك الحمد ولم تخذلني بخطيئتي فلك الحمد إلهي فأتم نعمتك علي واغفر لي ما سلف وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص: ٣٤] .
1 / 22
وروي عن عكرمة أن سليمان لما أصاب الملك أمر بحمل أهل ذلك البيت فوضعهم في وسط المملكة ولم يكن سليمان ﵇ نال تلك المرأة حتى رد الله عليه ملكه.
1 / 23
٦ – [توبة سليمان ﵇]
قَالَ إِسْحَاقُ: وَأَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ ﵇ رَجُلا غَزَّاءً يَغْزُو فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَسَمِعَ بِمَلِكٍ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ فَرَكِبَ سُلَيْمَانُ الرِّيحَ وَجُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ حَتَّى نَزَلَ تِلْكَ الْجَزِيرَةَ فَقَتَلَ مَلِكَهَا وَسَبَى مَنْ فِيهَا وَأَصَابَ جَارِيَةً لَمْ يَرَ مِثْلَهَا حُسْنًا وَجَمَالا وَكَانَتِ ابْنَةَ ذَلِكَ الْمَلِكِ فَاصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ. فَكَانَ يَجِدُ بِهَا مَا لا يَجِدُ بِأَحَدٍ وَكَانَ يُؤْثِرُهَا عَلَى جَمِيعِ نِسَائِهِ.
فَدَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَقَالَتْ: إِنِّي أَذْكُرُ أَبِي وَمُلْكَهُ وما أصابه فيحزنني
1 / 19
٧ – [توبة يونس ﵇]
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: وَأَخْبَرَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ يُونُسَ ﵇ كَانَ مَعَ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ ابْعَثْ يُونُسَ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى يُحَذِّرُهُمْ عُقُوبَتِي.
قَالَ: فَمَضَى يُونُسُ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ وَكَانَ رَجُلا حَدِيدًا شَدِيدَ الْغَضَبِ.
قَالَ: فَأَتَاهُمْ فَحَذَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ فَكَذَّبُوهُ وَرَدُّوا عَلَيْهِ نَصِيحَتَهُ وَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ وَأَخْرَجُوهُ فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ. فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ: ارْجَعْ إِلَى قَوْمِكَ. فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ وَأَخْرَجُوهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: ارْجَعْ إِلَى قَوْمِكَ فَرَجَعَ فَكَذَّبُوهُ وَأَوْعَدَهُمُ الْعَذَابَ فَقَالُوا: كَذَبْتَ فَلَمَّا كَذَّبُوهُ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ وَجَحَدُوا كِتَابَهُ دَعَا عِنْدَ ذَلِكَ رَبَّهُ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا رَبِّ! إِنَّ قَوْمِي أَبَوْا إِلا الْكُفْرَ فَأَنْزِلْ عَلَيْهِمْ نِقْمَتَكَ.
فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: إِنِّي أُنْزِلُ بِقَوْمِكَ الْعَذَابَ.
قَالَ: فَخَرَجَ عَنْهُمْ يُونُسُ وَأَوْعَدَهُمُ الْعَذَابَ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ. وَأَخْرَجَ أَهْلَهُ وَانْطَلَقَ فَصَعِدَ جَبَلا يَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى وَيَتَرَقَّبُ الْعَذَابَ.
فَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَعَايَنُوهُ فَتَابُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
فَكَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ جَاءَهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ يَا يُونُسُ! إِنَّكَ إِنْ رَجَعْتَ إِلَى قَوْمِكَ اتَّهَمُوكَ وَكَذَّبُوكَ فَذَهَبَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ.
فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى شَاطِئَ دِجْلَةَ فَرَكِبَ سَفِينَةً فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ بِهِ الْمَاءَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا أَنِ ارْكُدِي فَرَكَدَتِ السَّفِينَةُ وَالسُّفُنُ تَمُرُّ يَمِينًا وَشِمَالا فَقَالُوا: مَا بَالُ سَفِينَتِكُمْ؟ فَقَالُوا: لا نَدْرِي قَالَ يُونُسُ: أَنَا أَدْرِي قَالُوا: فَمَا حَالُهَا؟ قَالَ: فِيهَا عَبْدٌ آبِقٌ مِنْ رَبِّهِ فَلا تَسِيرُ حَتَّى تُلْقُوهُ فِي الْمَاءِ قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا وَعَرَفُوهُ قَالُوا: أَمَّا أَنْتَ فَلَيْسَ نُلْقِيكَ وَاللَّهِ مَا نَرْجُو النَّجَاةَ مِنْهَا إِلا
1 / 23
بِكَ قَالَ: فَاقْتَرِعُوا فَمَنْ قُرِعَ فَأَلْقُوهُ فِي الْمَاءِ قَالَ: فَاقْتَرَعُوا فَقَرَعَهُمْ يُونُسُ فَأَبَوْا أَنْ يُلْقُوهُ قَالَ: فَاقْتَرِعُوا الثَّانِيَةَ فَقَرَعَهُمْ قَالَ: فَاقْتَرِعُوا الثَّالِثَةَ فَقَرَعَهُمْ قَالَ: أَلْقُونِي فِي الْمَاءِ.
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: يَا قَوْمِ! اطْرَحُونِي فِي الْمَاءِ وَانْجُوا فَقَامَ الْقَوْمُ فَاحْتَمَلُوهُ شِبْهَ الْمُشْفِقِينَ عَلَيْهِ فَقَالَ: ائْتُوا بِي صَدْرَ السَّفِينَةِ فَفَعَلُوا فَلَمَّا أَشْرَفُوا لِيُلْقُوهُ فَإِذَا الْحُوتُ فَاتِحٌ فَاهُ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: يَا قَوْمٍ! رُدُّونِي إِلَى مُؤَخَّرِ السَّفِينَةِ فَفَعَلُوا فَلَمَّا أَشْرَفُوا ذَهَبُوا يَطْرَحُونَهُ فَاسْتَقْبَلَهُ الْحُوتُ فَاتِحًا فَاهُ فَلَمَّا رأى جوفه وهو له قَالَ: يَا قَوْمٍ! رُدُّونِي إِلَى وَسَطِ السَّفِينَةِ فَفَعَلُوا فَاسْتَقْبَلَهُ فَقَالَ: ردوني إلى الجانب الآخر فاستقبه فَاتِحًا فَاهُ لِيَأْخُذَهُ فَقَالَ: اطْرَحُونِي وَانْجُوا فَلا مَنْجَا مِنَ اللَّهِ فَطَرَحُوهُ وَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْمَاءَ وَتَصَوَّبَ بِهِ.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى الْحَسَنِ قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِ الْحُوتُ إِلَى مَسْكَنِهِ مِنَ الْبَحْرِ ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ إِلَى قَرَارِ الأَرْضِ فَطَافَ بِهِ الْبِحَارَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَسَمِعَ يُونُسُ تَسْبِيحَ الْحَصَى وَتَسْبِيحَ الْحِيتَانِ.
قَالَ: فَجَعَلَ يُسَبِّحُ وَيُهَلِّلُ وَيُقَدِّسُ وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: سَيِّدِي! فِي السَّمَاءِ مَسْكَنُكَ وَفِي الأَرْضِ قُدْرَتُكَ وَعَجَائِبُكَ سَيِّدِي! مِنَ الْجِبَالِ أَهْبَطْتَنِي وَفِي الْبِلادِ سَيَّرْتَنِي وَفِي الظُّلُمَاتِ الثَّلاثِ حَبَسْتَنِي إِلَهِي سَجَنْتَنِي بِسِجْنٍ لَمْ تَسْجِنْ بِهِ أَحَدًا قَبْلِي إِلَهِي! عَاقَبْتَنِي بِعُقُوبَةٍ لَمْ تُعَاقِبْ بِهَا أَحَدًا قَبْلِي فَلَمَّا كَانَ تَمَامُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَصَابَهُ الْغَمُّ ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧] . قَالَ: فَسَمِعَتِ الْمَلائِكَةُ بُكَاءَهُ وَعَرَفُوا صَوْتَهُ وَبَكَتِ الْمَلائِكَةُ.لِبُكَاءِ يُونُسَ وَبَكَتِ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَالْحِيتَانُ.
فَقَالَ الْجَبَّارُ: يَا ملائكتي! مالي أَرَاكُمْ تَبْكُونَ؟ قَالُوا: رَبَّنَا! صَوْتٌ ضَعِيفٌ حَزِينٌ نَعْرِفُهُ فِي مَكَانٍ غَرِيبٍ. قَالَ: ذَلِكَ عَبْدِي يُونُسُ عَصَانِي فَحَبَسْتُهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ فَقَالُوا: يَا رَبِّ! الْعَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ لَهُ فِي كِلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الْكَثِيرُ؟.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: نَعَمْ قال: فشفعت له الملائكة والسماوات وَالأَرْضُ فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ ﵇ فَقَالَ: انْطَلِقْ إِلَى
1 / 24
الْحُوتِ الَّذِي حَبَسْتُ يُونُسَ فِي بَطْنِهِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّ لِي فِي عَبْدِي حَاجَةً فَانْطَلِقْ بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي ابْتَلَعْتَهُ فِيهِ فَاقْذِفْهُ بِهِ.
فَانْطَلَقَ جِبْرِيلُ إِلَى الْحُوتِ فَأَخْبَرَهُ فَانْطَلَقَ الْحُوتُ بِيُونُسَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَبِّ! اسْتَأْنَسْتُ فِي الْبَحْرِ بِتَسْبِيحِ عَبْدِكَ وَاسْتَأْنَسَتْ بِهِ دَوَابُّ الْبَحْرِ وَكُنْتُ أَزْكَى شَيْءٍ بِهِ وَجَعَلْتَ بَطْنِي لَهُ مُصَلًّى يُقَدِّسُكَ فِيهِ فَقَدَّسْتُ بِهِ وَمَا حَوْلِي مِنَ الْبِحَارِ فَتُخْرِجُهُ عَنِّي بَعْدَ أُنْسٍ كَانَ بِهِ؟.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي أَقَلْتُهُ عَثْرَتَهُ وَرَحِمْتُهُ فَأَلْقِهِ.
قَالَ: فَجَاءَ بِهِ إِلَى حَيْثُ ابْتَلَعَهُ بِبَلَدٍ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ فَدَنَا جِبْرِيلُ مِنَ الْحُوتِ وَقَرَّبَ فَاهُ مِنْ فَمِ الْحُوتِ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا يُونُسُ! رَبُّ الْعِزَّةِ يُقْرِئُكَ السَّلامَ فَقَالَ يُونُسُ: مَرْحَبًا بِصَوْتٍ كُنْتُ خَشِيتُ أَنْ لا أَسْمَعَهُ أَبَدًا مَرْحَبًا بِصَوْتٍ كُنْتُ أَرْجُوهُ قَرِيبًا مِنْ سَيِّدِي.
ثُمَّ قَالَ جِبْرِيلُ لِلْحُوتِ: اقْذِفْ يُونُسَ بِإِذْنِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ! فَقَذَفَهُ مِثْلَ الْفَرْخِ الْمَمْعُوطِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ رِيشٌ فَاحْتَضَنَهُ جِبْرِيلُ ﵇.
قَالَ الْحَسَنُ: فَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَهُوَ الدُّبَّاءُ فَكَانَ لَهَا ظِلٌّ وَاسِعٌ يَسْتَظِلُّ بِهِ وَأُمِرَتْ أَنْ تُرْضِعَهُ أَغْصَانَهَا فَكَانَ يَرْضَعُ مِنْهَا كَمَا يَرْضَعُ الصَّبِيُّ.
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَى يُونُسَ وَعْلَةً مِنْ وُعُولِ الْجَبَلِ يَدِرُّ ضَرْعُهَا لَبَنًا حَتَّى جَاءَتْ إِلَى يُونُسَ وَهُوَ مِثْلُ الْفَرْخِ ثُمَّ رَبَضَتْ وَجَعَلَتْ ثَدْيَهَا فِي فِي يُونُسَ فَكَانَ يَمَصُّهُ كَمَا يَمُصُّ الصَّبِيُّ فَإِذَا شَبِعَ انْصَرَفَتْ فَكَانَتْ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ حَتَّى اشْتَدَّ وَنَبَتَ عَلَيْهِ شَعْرُهُ خَلْقًا جَدِيدًا وَرَجَعَ إِلَى حَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ.
فَمَرَّتْ بِهِ مَارَّةٌ فَكَسَوْهُ كِسَاءً فَبَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ نَائِمٌ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الشَّمْسِ أن احرقي شجرة يونس فأحرقنها فَأَصَابَتِ الشَّمْسُ جِلْدَهُ فَأَحْرَقَتْهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ! نَجَّيْتَنِي مِنَ الظُّلُمَاتِ وَرَزَقْتَنِي ظِلَّ شَجَرَةٍ كُنْتُ أَسْتَظِلُّ بِهَا فَأَحْرَقْتَهَا أَفَتَحْرِمُنِي يَا رَبِّ؟ وَبَكَى.
فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ ﵇ فَقَالَ: يَا يُونُسُ! إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَنْتَ زَرَعْتَهَا أَمْ أَنْتَ أَنْبَتَّهَا؟ قَالَ: لا قَالَ: فَبُكَاؤُكَ حِينَ تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاكَهَا فَكَيْفَ دَعَوْتَ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ وَزِيَادَةِ عِشْرِينَ أَلْفًا أَرَدْتَ أَنْ تُهْلِكَهُمْ؟.
1 / 25
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَتَبْكِي عَلَى شَجَرَةٍ أَنْبَتَهَا اللَّهُ لَكَ وَلا تَبْكِي عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ أَرَدْتَ أَنْ تُهْلِكَهُمْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ؟!
فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفَ يُونُسُ ذَنْبَهُ وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ فَغَفَرَ لَهُ.
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لَمَّا قَوِيَ يُونُسُ كَانَ يَخْرُجُ مِنَ الشَّجَرَةِ يَمِينًا وَشِمَالا فأَتَى عَلَى رَجُلٍ يَصْنَعُ الْجِرَارَ فَقَالَ يُونُسُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا عَمَلُكَ؟ قَالَ: أَصْنَعُ الْجِرَارَ وَأَبِيعُهَا وَأَطْلُبُ فِيهَا فَضْلَ اللَّهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى يُونُسَ: أَنْ قُلْ لَهُ يَكْسِرْ جِرَارَهُ فَقَالَ يُونُسُ ذَلِكَ لَهُ فَغَضِبَ الْجَرَّارُ وَقَالَ: إِنَّكَ رَجُلُ سَوْءٍ! تَأْمُرُنِي بِالْفَسَادِ وَتَأْمُرُنِي أَنْ أَكْسِرَ شَيْئًا صَنَعْتُهُ وَعَمِلْتُهُ وَرَجَوْتُ خَيْرَهُ.
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى يُونُسَ: أَلا تَرَى إِلَى هَذَا الْجَرَّارِ كَيْفَ غَضِبَ حِينَ أَمَرْتَهُ بِكَسْرِ مَا صَنَعَ؟ وَأَنْتَ تَأْمُرُنِي بِهَلاكِ قَوْمِكَ! فَمَا الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْكَ أَنْ يَصْلُحَ مِنْ قَوْمِكَ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ! قَالَ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ . يَعْنِي مِنَ الْمُصَلِّينَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْزِلَ الْبَلِيَّةُ ﴿لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: ١٤٣] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلَّهِ فِي الرَّخَاءِ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الشِّدَّةِ وَاسْتَجَابَ لَهُ وَمَنْ يَغْفَلْ عَنِ اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ وَذَكَرَهُ فِي الشِّدَّةِ لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ . فَقَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٨] يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالصَّالِحِينَ إِذَا وَقَعُوا فِي الْخَطِيئَةِ ثُمَّ تَابُوا إِلَيَّ قَبِلْتُ مِنْهُمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "دَعَا أَخِي يُونُسُ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ فِي الظُّلُمَاتِ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ فَلا يَدْعُو بِهَا مُؤْمِنٌ مَكْرُوبٌ إِلا كَشَفَ اللَّهُ ﷿ ذَلِكَ عَنْهُ إِنَّهَا عِدَةٌ مِنَ اللَّهِ لا خُلْفَ لها". [الترمذي ٢٥٠٥، أحمد ١/١٧٠] .
1 / 26