بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ونبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
الْمِيَاهُ أَقْسَامٌ
الماء اسم جنس، يقع على القليل والكثير، فحقُّه أن لا يُجمع، لكن جمعه باعتبار اختلاف أنواعه، كاللحوم. وأقسام جمع قِسْمٍ بكسر القاف، والمراد به النوع، ومرادُه بالأقسام ثلاثةٌ، كما سيأتي.
قيل: وكان ينبغي للمصنف أن يقول: الماء أقسام؛ لأن الجنس يُفرد، ولا يقال للجنس المياه؛ لأنه يلزم عليه وجود المياه في كل نوع؛ لأن النوع يستلزم الجنس وزيادة؛ ولأنه كان يسلم من الإخنبار بالأخصِّ عن الأعم؛ فإن المياهَ جَمْعُ كَثرة، والأقسامَ جمعُ قِلَّةٍ، وإنما يُخبر بالأعمِّ والمساوِي، أما أخص منه فلا.
وكون الماء جنسًا هو باصطلاح الفقهاء؛ لأن النوع عندهم جنس، وأما الجنسُ عند الأصوليين فهو ما اجتمع على كثيرين مختلفين بالحقيقة. والماءُ ليس كذلك، ولعل المصنف- ﵀ جَمَعَه ليُنبه على أن كل صنف منه ينقسم إلى الثلاثة الأقسام، وهذا لا يَدْفَعُ كونَ الإفرادِ أَوْلَى.
الْمُطْلَقُ طَهُورٌ؛ وَهُوَ الْبَاقِي عَلَى خِلْقَتِه
أي القسم الأول: (الْمُطْلَقُ) ومرادُه بالمطلق ما لم يُضَفْ إليه شيء أصلًا، ولذلك قال في الجواهر: الباقي على أوصاف خِلْقَتِه مِن غيرِ مُخالِطٍ.
وليس المطلق عند المصنف مرادفًا للطَّهور؛ لأنه جَعل ما تغيّر بما لا يَنفكُّ عنه غالبًا مُلحقًا بالمطلق، والملحقُ بالشيء خلافُه.
1 / 3
وعلى هذا فالطَّهورُ أعمُّ مِن المطلق، وتفسيرنا المطلق لا يَرِدُه اعتراضُ مَن اعتَرض بأنه يَخرج عنه ما انتقل مِن عذوبةٍ إلى ملوحةٍ، وبالعكس؛ إذ هو لم يُخالطه شيءٌ، لكن كلامَ القاضي عبد الوهاب يقتضي أن المطلقَ مرادِفٌ للطَّهورِ، فإنه قال: الماءُ ضربان: مطلقٌ ومضافٌ، والتطهيرُ بالمطلق دونَ المضافِ، والمطلقُ هو ما لم تتغير أحدُ أوصافِه بما لا ينفك عنه غالبًا مما ليس بقَرارٍ له ولا متوَلِّدٍ عنه، فيدخل في ذلك الماءُ القَرَاحُ، وما تَغيَّر بالطينِ لأنه قَرارُه، وكذلك ما يجري على الكِبْرِيتِ، وما تغيَّر بطولِ المُكْثِ؛ لأنه متولِّدٌ عنه، وما تغير بالطُّحْلُبِ؛ لأنه مِن مكثِه، وما انقلبَ مِن العذوبة إلى الملوحة؛ لأنه مِن أرضِه وطولِ إقامته، ويَدخل فيه المستعملُ على كراهة مِنَّا لَهُ، وكذلك القليلُ الذي لم تُغيره النجاسةُ. والمضافُ نقيضُ المطلقِ، وهو ما تغيرتْ أوصافُه وأحدُها مِن مخالطةِ ما يَنفك عنه غالبًا، انتهى. فأنت ترى كيف جَعل ما يُطهر به مطلقًا.
وقوله: (وَهُوَ) أي المطلقُ، وقدَّم حكمَه على تَصَوُّرِه، وإِنْ كان على خِلافِ الأَوْلَى، لأن المقصودَ بالذاتِ الحكمُ، فكان أهمَّ، وما ذكرَه ابنُ عبد السلام، بأنه قال: إنما ذَكَر ذلك لأنه أَلحق بالمطلق أنواعًا أُخَرَ، فلو ذّكر جميعَها قبلَ الخبرِ لحصَل للناظرِ تشويشٌ- ليس بظاهرٍ؛ لإمكانِ ذِكْرِها بعد الخَبَرِ.
وَيُلْحَقُ بِهِ الْمَاءُ الْمُتَغَيِّرُ بِمَا لا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا كَالتُّرَابِ وَالزِّرْنِيخِ الْجَارِي هو عَلَيْهِمَا، وَالطُّحْلُبِ وَالْمُكْثِ ...
إنما أُلحق المتغيرُ بهذه الأشياء بالمطلقِ لمشقةِ الاحترازِ مِن المُغَيِّرِ المذكورِ، وقد حكى ابنُ المنذرِ الإجماعَ على طهورية المُتَغَيِّرِ بالمُكْثِ. والطُّحْلب بضمِّ اللام وفَتْحِها، وقد حكَى ذلك الجوهريُّ وغيرُه، وهو خضرةٌ تَعْلو على الماءِ لِطُولِ المُكْثِ، والمكثُ: طُولُ الإقامةِ.
1 / 4
ونَقَلَ سندٌ عن مالك كراهةَ المتغيرِ بالطحلبِ مع وجودِ غيرِه. واحتَرَزَ بالغالب مما غَيَّرَ وليس بغالبِ، كورقِ الشجرِ، وفيه قولان: الجوازُ لشيوخِنا العراقيين، والمنعُ للإِبِّيَانِيِّ، حكاهما الباجيُّ.
وكذا المتغيرُ بأرواثِ الماشيةِ، فإن مالكًا قال مرة: لا يُعجبني، ولا أُحرِّمُه.
اللخمي: والمعروفُ من المذهب أنه غيرُ مطهِّرٍ. قال سند: ليس الأمر على ما قاله اللخميُّ، بل إنما تردّد مالك في ذلك أنه رآه غالبًا.
ويخرج بقولنا: (غَالِبًا) المتغيرُ بحبل السَّانِيَةِ، فإنه يَضُرُّ، ففي أسئلة ابن رشد في الإناء الجديد، والحبل الجديد: إذا كان التَّغَيُّرُ يسيرًا- جاز الوضوء به، وإن تغيّر تغيرًا بَيِّنًا لم يَجُزِ الوضوءُ به، نقلَه سندٌ.
وأما رائحةُ القَطِرَانِ تبقى في الوعاءِ وليس له جسمٌ يُخالطُ الماءَ- فلا بأسَ به، ولا يُستغنى عنه عند العرب وأهل البوادي، فأما إذا أُلْقِيَ في الماء، وظَهر عليه، فإِنْ راعينا مُطلقَ الاسم- قلنا بجواز الوضوءِ به، وإن راعينا مجرد التغيير- منعناه. قال: والأَوَّلُ عندي أرجحُ كما قال أصحابُ الشافعيِّ.
ابنُ راشد: ونُقل عن بعض المتأخرين الجوازُ في القِرَبِ للمسافر بها للحج للضرورة.
وأَبْرَزَ الضميرَ في قوله: (الْجَارِي هو) لكَوْنِ الصِّفَةِ إذا جَرَتْ على غيرِ مَن هي له- فمذهبُ البَصريين وجوبُ إبرازِه مطلقًا [١/ب]، وعند الكُوفيين إنما يجب عند اللَّبْسِ.
وَالْمُتَغَيِّرُ بِالْمُجَاوَرَةِ أَوْ بِالدُّهْنِ كَذَلِكَ
صورة التغير بالمجاورة أن تكون جِيفَةٌ بإزاءِ ماءٍ فتنقُلُ الريحُ رائحةَ تلك الجيفةِ إلى الماء فيتغيرُ، ولا خلافَ في هذا.
1 / 5
حكى المازَرِيُّ في المُبَخَّرِ بالمَصْطَكَى ونحوِها قولين للمتأخرينَ بنَاهما على أنه مجاورٌ فلا يَسلب الطهوريةَ، أو مُخالِطٌ فيسلب، والظاهرُ أنه مخالِطٌ، ولم يَحْكِ اللخمي غيرَه.
وأما الدُّهْنُ، فقد أُنكر ما ذَكره المصنفُ؛ لأن المعروفَ مِن المذهب أن الدهنَ يَسلب الطهوريةَ، وممن ذكر أنه يسلب الطهورية ابنُ بشير، وعلى هذا يُحمل كلامه على ما إذا كان مجاوِرًا لسطح الماء، وإليه أشار ابنُ عطاء الله.
وقال ابن راشد: ولا يُقال: يَلزم عليه التكرارُ، وكان يستغني بالمجاورة؛ لأنَّا نقول: أراد أن يُبين أن المجاور الذي لا يَضُرُّ قسمان: قسمٌ غيرُ ملاصِقٍ، وقسمٌ ملاصقٌ.
وقال بعضُهم: أراد ما يَصعد على الماءِ الراكِد بِطُولِ المكثِ مما يُشْبِهُ الدهنَ.
وقال آخرون: أراد بالدهنِ الماءَ القليل، أو المطرَ القليلَ. والدهنُ يُطلق على ذلك لغةً، ولا يَخْفَى ضعفُه.
وَمِثْلُهُ التُّرَابُ الْمَطْرُوحُ عَلَى الْمَشْهُور
الضمير في (مِثْلُهُ) عائدٌ على (ما) أي: ومثل ما لا يَنفك عن الماء غالبًا الترابُ المطروحُ على المشهور، والمرادُ بـ (الْمَطْرُوحُ) المطروحُ قصدًا، لا ما ألقته الريحُ، فإنه لا خلافَ فيه أنه لا يَضُرُّ. ووجهُ مقابلِه أن الماءً منفكٌّ عن هذا الطارئِ فيسلبه الطهورية كالمطعومات.
وليس الخلافُ خاصًّا بالتراب، بل هو جارٍ في المُغْرَةِ والكِبْرِيتِ ونحوِهما. وخصَّصَ الترابَ بالذكر- والله أعلم- تبعًا لابن شاسٍ. وقد ذَكَرَ مجهولُ الجلّابِ أن المشهورَ في الترابِ وغيرِه واحدٌ، وهو عدمُ سلبِ الطهورية. لكن قال ابن يونس: الصوابُ في المِلْحِ سلبُ الطهورية.
1 / 6
فائدة:
قاعدةُ ابنِ الحاجب وغيرِه مِن المتأخرين أَن يَستغنوا بأحد المتقابلين عن الآخَرِ، ومقابلُ المشهورِ شاذٌّ، ومقابلُ الأشهرِ مشهورٌ دونَه في الشهرةِ، وكذلك في الصحيح والأصحِّ، والظاهرِ والأظهرِ، ويُقابل المعروفَ قولٌ غيرُ معروفٍ، ولم تَطَّرِد للمصنف- ﵀ قاعدةٌ في مقابلِ المنصوصِ، فقد يكون منصوصًا، وقد يكون تخريجًا وهو الأكثرُ.
وكلما قال: (وفيها) فمرادُه المدونةُ وإِنْ لم يتقدم لها ذِكْرٌ؛ لاستحضارِها ذِهْنًا عند كلِّ مَن اشتغلَ في المذهَبِ. ولهذا قال ابنُ رُشْدٍ: نِسْبَتُها إلى كتبِ المذهَبِ كنسبةِ أمِّ القرآن إلى الصلاةِ، يُستغنى بها عن غَيْرِها، ولا يُستغنى بغيرها عنها، ولا يأتي بقولِه فيها في الغالبِ إِلّا لاستشهادٍ أو استشكالٍ.
وإذا قال: (ثالثها) فالضميرُ عائدٌ على الأقوالِ المفهومةِ مِن السياقِ.
وحيث أَطلقَ الروايةَ- فالمرادُ بها قولُ مالكٍ.
و(القولُ) يحتملُ أنْ يكونَ للإمامِ أو غيرِه.
ومِن قاعدته أيضًا أن يَجعل القولَ الثالثَ دليلًا على القولين الأوَّلَيْنِ، فيَجعل صَدْرَه دليلًا على الأول، وعَجُزَه دليلًا على الثاني، إلا في النادر، وسأنبه عليه.
ومِن قاعدتِه أنه إذا ذَكر قسمةً رباعيةً أن يبدأ بإثباتين ثم بنفيين، ثم بإثبات الأول، ونفي الثاني، ثم بعكسه.
ومِن قاعدتِه أنه إذا صَدَّرَ بقولٍ ثم عَطَفَ عليه بقيل- أَنْ يكون الأول هو المشهورُ.
ومِن قاعدتِه إذا حكَى الاتفاقَ- فمرادُه أهلُ المذهبِ، وإذا حكى الإجماعَ فمرادُه إجماعُ الأُمَّةِ.
1 / 7
ومِن قاعدتِه إذا ذَكَرَ أقوالًا وقائِلِينَ- أَنْ يَجعل الأوَّلَ مِن الأقوال للأوَّلِ مِن القائِلِين.
وسيتضحُ لك ما ذكرتُه بالنظرِ في كلامِه، إِنْ شاءَ اللهُ تعالَى.
والإشارةُ في هذا الكتاب: بالراء لابن راشدٍ، وبالعينِ لابن عبدِ السلامِ، وبالهاءِ لابن هارونَ، وإذا ظَهَرَ لي شيءٌ أشرت إليه بالخاءِ.
وَفِي الْمِلْحِ ثَالِثُهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْدِنِيِّ وَالْمَصْنُوع
أي: الملحُ المطروحُ، وأما ما كان مِن القَرَارِ- فقد تقدَّمَ أنه يُغتفرُ اتفاقًا، فَوَجْهُ القولِ بعدمِ تأثيرِه أنه مِن جِنْسِ الأرضِ، فكان كالترابِ، وهو قولُ ابنِ القَصَّارِ، وابنِ أبي زيدٍ، وابنِ راشدٍ.
ووَجْهُ القولِ بتأثيرِه أَنَّهُ يُشبِه المطعومَ، وهو قول القابِسِيِّ.
وتفرقُه الثالثِ ظاهرةٌ، وهكذا حَكَى المازريُّ الثلاثةَ، ووَجَّه الثالثَ بأنَّ المعدنيَّ حكمُه حكمُ الترابِ في جوازِ التيممِ؛ فلم يُؤَثِّرَ، ونَسَبَ سندٌ الثالثَ للباجي، وفي ذلك نظرٌ؛ لأن الباجي لمي َجزم به، وإنما ذَكَرَه على طريقِ الاحتمالِ، فقال بعد أَنْ حكَى عدمَ التأثيرِ عندَ ابنِ القصارِ: يحتملُ أن يكون ذلك في الملحِ المعدنيِّ، وأما المصنوعُ فلا. سندٌ: والأَوْلى عكسُه؛ لأن المصنوعَ أصلُه ترابٌ، بخلافِ المعدنيِّ، فإنه طعامٌ، وفيه نظر. ونقلَ ابنُ بَشِيرٍ خلافًا: هل القولُ الثالثُ تفسيرٌ أم خلافٌ؟
فرع:
حكَى ابنُ رشدٍ في طَهوريةِ ماءِ الملحِ الذائبِ في غيرِ موضعِه بعد أنْ صارَ ملحًا- ثلاثةَ أقوالٍ للمتأخرين: أحدُها: أنه على الأصلِ، لا يُؤثر فيه جمودُه. والثاني: أنَّ حُكمَه
1 / 8
حُكمُ الطعامِ فلا يُتَطَهَّرُ به، ويَنْضَافُ به ما غَيَّرَ مِنْ سائرِ المياه. والثالثُ: أن جمودَه إنْ كان بعنايةٍ وصنعةٍ- أَثَّرَ، وإِلَّا فلا.
وَالْمُسَخَّنُ بِالنَّارِ وَالْمُشَمَّسُ كَغَيْرِه
فلا كراهة فيه، وفيه تنبيهٌ على خلافِ الشافعيةِ [٢/أ]، فإِنَّهم يَكرهون المُسَخَّنَ في الشمسِ لِلطِّبِّ، واقتصرَ عياضٌ- في بعضِ كُتُبِه- وسندٌ في المشمس على الكراهةِ.
الثَّانِي: مَا خُولِطَ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ، فَالْكَثِيرُ طَهُورٌ بِاتِّفَاقٍ، وَالْقَلِيلُ بِطَاهِرٍ مِثْلُهُ. وَوَقَعَ لابْنِ الْقَابِسِيِّ: غَيْرُ طَهُورٍ ...
إن كان مرادُه بالكثيرِ ما اتفقتِ الأُمَّةُ على كثرتِه- فصحيحٌ، وإِنْ كان مرادُه ما هو كثيرٌ عندَ قومٍ دونَ قومٍ- فلا يَصِحُّ؛ لأن ابنَ رشدٍ قال في البيان في الماء إذا لم يُغَيِّرْهُ مخالِطٌ: إنه طَهورٌ، إلا على روايةِ ابنِ نافعٍ عن مالكٍ، وهي كمذهبِ أبي حَنِيفَةَ.
وأُجيبَ بأنَّ المصنفَ إِنَّما ذَكَرَ الاتفاقَ في الكثيرِ، ومالكٌ في روايةِ ابنِ نافعٍ هذه لا يَرى هذا الماء كثيرًا، وأُورِدَ على المصنِّفِ أنَّ ما خُولِطَ ولم يتغير مُطْلَقٌ، لا سيما الكثير، فلا يكون هذا القسمُ قَسيمًا للمطْلَقِ، وتفسيرُنا أوَّلًا المطلَقَ يَدْفَعُ هذا، لكن على هذا كان ينبغي أن يذكر هذا في القسم الأول، ويجعلَه مما أُلحق بالمطلقِ.
والعبارةُ التي حكاها عن القابسيّ حكاها الباجيّ وابنُ شاسٍ، وحكى ابنُ بَشيرٍ وغيرُه كراهتَه خاصَّةً، وأشار صاحبُ النُّكَتِ إلى أنه خَرَّجَه على قولِ مَن رَأَى أَنَّ الماءَ القليلَ إذا وقعتْ فيه نجاسةٌ ولم تُغَيِّرْهُ- أنه غيرُ طَهورٍ.
ابنُ عبدِ السلامِ: وإنْ كان هذا هو الصحيح فقد يُقال: لا يَلْزَمُ مِن تنجيسِ الماءِ اليسيرِ عدمُ طهوريةِ الماءِ بما أُضيف إليه؛ لأ، مُسْتَنَدَ مَن حَكَمَ بالنجاسةِ قولُه ﷺ: "إِذا بَلَغَ الماءُ قُلًّتَيْنِ لم يَحْمِلْ خَبَثًا".
1 / 9
ومفهومُه أَنَّ ما دُونَ القُلتين يَحْمِلُ الخبثَ، ولا يَلزمُ مِن تأثيرِ النَّجِسِ تأثيرُ الطاهرِ؛ لأنَّ النجسَ يَسْلُبُ وَصْفَيْ الطَّهوريةِ والطهارةِ، والطاهرُ إنما يَسلب الطهوريةَ فقط، فهو أضعفُ، ولا بُدَّ في الكلام مِنْ حَذْفٍ، أي وَقَعَ لابنِ القابسي فيه.
وَفِي تَقْدِيرِ مُوَافِقِ صِفَةِ الْمَاءِ مُخَالِفًا نَظَرٌ
يعني: إذا خالط الماءَ أجنبيٌّ يُوافقُ أوصافَه الثلاثةَ ولم يُغيره، فهل يُقَدَّرُ مخالفًا أو لا؟ وفيه نظرٌ. والنظرُ في وجودِ التغيرِ وعَدَمِه، وَجْهُ النظرِ تَعَارُضُ مُدْرَكَيْنِ قويين سيأتيان، وعلى هذا فلا نَصَّ في المسألةِ، ولذلك قال ابنُ عطاء الله: إنه لم يَقِفْ في هذه المسألةِ على شَيْءٍ. قال: والذي أَراه أَنه إِن وَجَدَ غيرَه- لم يَسْتَعْمِلْه، وإن لم يَجِدْ غيرَه- تَوَضَّأَ به وتَيَمَّمَ.
ابنُ راشد: ومِن ابنِ عطاء الله أَخَذَ المصنفُ، وعلى هذا مَشَّاهُ ابنُ هارونَ وابنُ عبد السلام.
وقد تَرَدَّدَ سندٌ فيمن وَجَدَ مِن الماءِ دونَ ما يَكفيه، وخَلَطَه بماءِ الزَّرْجُونِ أو غيرِه مما لا يُغَيِّرُهُ، هل يَتطهر به لأنه ماءٌ لم يَتغير، أو لا؟ لأنه تَطَهَّرَ بغيرِ الماءِ جَزْمًا. قال: والظاهرُ أنه لا يُتطهر به. ثم نَقَلَ عن بعضِ الشافعيةِ التفرقةَ بينَ ذلك وبينَ مَن معه مِن الماءِ ما يَكفيه، وخَلَطَ به قَدْرَه مِن المائِعِ، فقال بالإجْزَاءِ في هذه دُونَ الأُولَى، ثم إذا فُرض أنه مخالفٌ- فيُنظر في الواقعِ إما أن يكون طاهرًا أو نجسًا، وإما أن يكون الماءُ قليلًا أو كثيرًا- أَجْرِهِ على ما تقدم.
فإن قيل: لِمَ لا حَمَلْتَ كلامَه على أن النظرَ في كيفيةِ التقديرِ؟ إذ لا يُدرَى بأي نوع يُلحقه من المخالفات، أو على أن استَشكل قولَ مَن جَزَمَ بوقوعِ التقديرِ في المذهبِ؟.
فجوابُه: أنه منعني مِن الحَمْلِ عليهما كوني لم أَرَ نقلًا يُوافِقُهما، والله أعلم.
ابنُ عبد السلام: ويكون ذلك في صورتين: إحداهما: أَنْ يُخالطَه موافقٌ لصفةِ الماءِ كماءِ الريحانِ المقطوعِ الرائحةِ. والثاني: أن يكون متغيرًا بما لا يَنْفَكُّ عنه غالبًا، فيُخالِطُه مائعٌ موافقٌ لِصِفَتِه.
1 / 10
ووجهُ النظرِ هو أنْ يُقال: يَصْدُقُ عليه أنه ماءٌ باقٍ على خِلْقَتِه، وذلك يقتضي إباحةَ استعمالِه. أو يقال: لا نُسَلِّمُ أنه باقٍ على خِلْقَتِه؛ لأن اللونَ والطعمَ الموجودَين- والحالةُ هذه- إنما هما وَصْفانِ للمخالِط والماءِ، وأدنى الأمورِ الشكُّ في هذا، وذلك يقتضي تَجَنُّبَ هذا الماءِ. خليل: هذان المُدْرَكانِ اللذان قلنا: سيأتيان.
ثم قال ابنُ عبد السلام: واعلمْ أنَّ الأصلَ التمسكُ ببقاءِ أوصافِ الماءِ حتى يُتحققَ زوالُها- أو يُظنَّ- كما لو كان المخالطُ للماء هو الأكثرُ، ولا تُقدر الأوصافُ الموافقةُ مخالفةً لعدمِ الانضباط مع التقدير؛ إذْ يَلزمُ إذا وقعتْ نقطةٌ أو نقطتان مِن ماءِ الزَّهْرِ مثلًا أَلَّا تُغير، ولو كان مِن ماءِ الورْد لأَثَّرَ، وكذلك ربما غَيَّرَ مقدارٌ مِن ماءِ الوَرْدِ ما لم يُغيره مِن ماءٍ آخرَ مِن مياه الوردِ لرداءتِه، فلو رُوعي مثلُ هذا لَمَا انْضَبَطَ، والشريعةُ السمحةُ تَقتضي تَرْكَ ذلك، انتهى بالمعنى. وفيه نظرٌ؛ لأنه إذا قَدَّرْنَاه بالوَسَطِ- كما هو الأصح عند الشافعية- وجعلنا الماءَ كأنَّه غيرُ مُغَيَّرٍ في صورةِ ما إِذَا كان مُغَيّرًا بِقَرَارِه- لم يَلْزَمْ ما ذُكِرَ، والله أعلم.
فرع:
ذَكَرَ المازريُّ إذا شُكَّ في المغيّر هل أَثَّرَ أم لا، أنّه لا تأثيرَ لذلك. قال: ولا يُنْقَلَ الماءُ عن أصلِه- استصحابًا للأصلِ- حتى يَتحقَّقَ وجودُ ما مِن شأنِه أَن يُؤثر فيه.
وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي الْحَدَثِ طَهُورٌ، وَكُرِهَ لِلْخِلافِ، وَقَالَ: لا خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ فِي مِثْلِ حِيَاضِ الدَّوَابِّ: لا بَاسَ بِهِ. أَصْبَغُ: غَيْرُ طَهُورٍ. وَقِيلَ: مَشْكُوكٌ فيه فَيَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ لِصَلاةٍ وَاحِدَةٍ ....
المستعملُ في الحَدَثِ ما تَقَاطَرَ مِن الأعضاءِ، أَوْ ما اتَّصَلَ بها، والمشهورُ أنه طَهورٌ، ولكنه مكروهٌ مع وجودِ غيرِه للخلافِ. وتقييدُه بالحَدَثِ يُخرجُ المستعملَ في غيرِ حدثٍ إذا لم يرفعْ حَدَثًا، كالمستعملِ في الأَوْضِيَةِ المستحبةِ، وغسلِ الجمعةِ.
1 / 11
وظاهرُ قولِه في المدونة: لا يُتوضأ بما قد تُوُضِّئَ به مرةً. دخولُ الأوضيةِ المستحبةِ، وقد عُلِّلَتِ [٢/ب] الكراهةُ في هذه المسألةِ أو المنعُ بأوجهٍ غيرِ ما قاله المصنفُ:
الأول: أنه أُدِّيَتْ به عبادةٌ، الثاني: لكونه أزال المانعَ، الثالث: لكونه لا تُعلم سلامتُه من الأوساخِ.
قال القرافي في الذخيرة: قال بعض العلماء: وعلى الأوَّلَيْنِ تَجوز الرابعةُ بلا إشكالٍ، ويُنظر على التعليلِ الثالثِ هل كان نظيفَ البَدَنِ أم لا؟ وعلى الثاني: يَجوز المستعملُ في الأوضيةِ المستحبةِ، والعكسُ في غَسْلِ الذِّمِّيَّة، انتهى.
الرابع: أنه قد ذهبتْ قوتُه في عبادةٍ فلا تُفْعَلُ به أُخْرَى.
الخامس: لأنه ماءُ الذنوبِ.
السادس: لأنه لم يُنقل عن السلفِ جَمْعُ ما سَقَطَ مِن الأعضاء واستعمالُه مع كونهم بالحجازِ والماءُ قليلٌ.
وفي كل هذه التعاليلِ المذكورةِ إشكالٌ لا يَخفى عليك. وذَكَرَ سندٌ أنَّ مشهورَ المذهبِ كراهةُ استعمالِ ماءٍ استُعْمِلَ في الحَدَثِ فقط دونَ التجديدِ. فقد قال في المدونة في الجنبِ يغتسلُ في القَصْرِيَّةِ: لا خَيْرَ فيه. وقال في الطاهِرِ: لا بأسَ به. وهذا يُوافق كلامَ ابنِ الحاجبِ، لكن ما ذكره سندٌ إنما يأتي على أحدِ التأويلاتِ، وقد ذَكَرَ عياضٌ في هذه المسألة ثلاثةَ تأويلاتٍ:
أحدُها: أنَّ قولَه في القصرية: لا خير فيه. محمولٌ على أنه دَخَلَها قبلَ غسلِ ما به مِن الأذى، وذكره ابنُ أبي زَمَنِينَ عن بعضِ شيوخِه.
ثانيها: أن جوابَه قَبْلَ الفِعْلِ، فلذلك شَدَّدَ ابتداءً عليه لما وَرَدَ مِن النهيِ عن الاغتسالِ في الماءِ الدائمِ. ولو سُئل عَمَّن فَعَلَ ذلك لكان جوابُه فيها كجوابِه في مسألة الحوضِ، أنه إِذا غسل ما به من الأذى وإِلَّا أَفْسَدَها، ذكره عن بعضِ الشيوخِ.
1 / 12
ثالثُها: وهو الذي يَأتي عليه ما قاله سندٌ- ما قاله أبو محمد مِن أنَّ المسألةَ محمولةٌ على الإطلاقِ- وإن لم يَكُنْ في بدنِه أذىً- لقولِه: كماءٍ تُطُهِّرَ به مَرَّةً. قال القاضي: وهو أسعدُ؛ لأنه كجوابِه في الماءِ المستعملِ سواءٌ. ولتعلمْ أنّ الخلافَ الذي ذكره المصنفُ إنما هو في حقِّ مَن سَلِمَتْ أعضاؤه مِن النجاسةِ وغيرِها، وأما إِنْ كان نجسَ الأعضاءِ- فهو ماءٌ حَلَّتْه نجاسةٌ، وأما إِنْ كان وَسِخَ الأعضاءِ- غيرَ نجسِها- فهو ماءٌ حلّته أوساخٌ طاهرةٌ فَأَجْرِهِ على ما تقدم.
وعلى كلٍّ مِن التعاليلِ لا يَنبغي أنْ يُؤتى بالمستعمل في قسمِ ما خُولِطَ ولم يتغير، إلا على الثالث، فقد يُؤتي به، وقد لا يؤتي به، إذ لا تَلزَمُه المخالطةُ في حقِّ الخارجِ مِن الحمَّامِ مَثَلًا.
ونَصَّ ابنُ القاسم بعد قولِ الإمامِ مالكٍ (لا خَيْرَ فِيهِ) على أنه إذا لم يَجِدْ غيرَه- أَنَّهُ يتوضأ به. وحَمَلَ غيرُ واحدٍ مِن الشيوخِ المختَصِرِين قولَ مالكٍ (لا خَيْرَ فِيهِ) على معنى: لا خيرَ فيه مع وجودِ غيرِه، فإذا لم يُوجد غيرُه- فكما قال ابنُ القاسم؛ فهما متفقان. عياضٌ: وعلى ذلك أكثرُ المختَصِرِينَ. وقال ابنُ رشدٍ: هما مختلفان، ورَجح بأنّ ظاهرَ (لا خَيْرَ فِيهِ) التحريمُ؛ لأن المكروهَ لا يُنفى عنه الخيرُ نفيًا عامًّا، وقوله (وَقَالَ فِي مِثْلِ حِيَاضِ الدَّوَابِّ: لا بَاسَ بِهِ) أي لكثرته.
وقوله: (أَصْبَغُ: غَيْرُ طَهُورٍ) أي قال أصبغُ: هو غيرُ طهورٍ. وقال اللخميُّ وغيرُه: هو قولُ مالكٍ في مختصرِ ابن أبي زيد، ومذهبُ ابنِ القاسم في كتاب ابنِ القَصَّار؛ لأن ابن القصار حَكَى عنه أنه يتيممُ مَن لم يَجِدْ سِواه. وحكى بعضُهم عن الأَبْهَرِيِّ أنه تأوَّل ما وَقَعَ لابنِ القاسم في كتابِ ابنِ القصارِ- على أنه يَتوضأ به ويتيمم.
وقوله: (وَقِيلَ: مَشْكُوكٌ فيه) لم يُصرِّح قائلُ هذا القولِ- وهو الأبهري- فيما حكاه ابنُ القصار بأنه مشكوكٌ فيه، كما ذَكَرَ المصنفُ، وإنما قال: يتوضأ به ويتيمم. قال اللخميُّ: وأَراه في معنى المشكوكِ وفي حُكمِه. وصرّح ابنُ عطاء الله بأنه قولٌ ثالثٌ في المسألة- كما
1 / 13
ذكر المصنف- واعْتَرَضَه ابنُ راشدٍ بأن الأبهري إنما ذَكَرَه مفسِّرًا لقولِ ابن القاسم، والتفسيرُ لا يُعَدُّ خِلافًا.
فائدة:
كثيرًا ما يّذكر أهلُ المذهبِ: الحُكْمُ كذا، مراعاةً للخلافِ. ويقولون: هل يُراعَى كُلُّ خلافٍ أو المشهورُ؟ وهل المشهورُ ما قَوِيَ دليلُه، أو كَثُرَ قائلُه؟ خلافٌ. وكذلك اختُلِفَ في المشهور في مذهبِنا، والذي ذهبَ إليه المغاربةُ أنه مذهبُ المدونةِ.
ابنُ عبد السلام: والذي يَنبغي أَنْ يُعتمد أنّ الإمام- رحمه الله تعالى- إنما يُراعي ما قَوِيَ دليلُه، وإذا قَوِيَ فليس بمراعاةِ خلافٍ، وإنما هو إعطاءُ كلٍّ مِن الدليلين ما يَقتضيه مِن الحُكْمِ مع وجود المُعَارِضِ، فقد أجازَ الصلاةَ على جلودِ السباعِ، وأَكْلَ الصيدِ وإنْ كان أَكَلَ الكلبُ منه، وأباح بيعَ ما فيه حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنْ غيرِ الطعامِ قَبْلَ قَبْضِهِ مع مخالفةِ الجمهورِ فيها، فَدَلَّ على أنَّ المرَاعَى عنده إنما هو قوةُ الدليلِ.
فرع:
وأما الترابُ إذا تَيمم عليه مَرَّةً- فيَجُوزُ أنْ يَتيمم عليه مرةً أخرى، ولا يُكره ذلك. نَص عليه في العتبية، وفَرَّق بينه وبين الماءِ المستعملِ عبدُ الحقِّ وابنُ رشد بأنّ الماءَ لابُدَّ أنْ يتعلق به أوساخٌ بخلافِ الترابِ.
وَالْقَلِيلُ بِنَجَاسَةٍ: الْمَشْهُورُ: مَكْرُوهٌ. وَقِيلَ: نَجِسٌ. وَفِيهَا: فِي مِثْلِ حِيَاضِ الدَّوَابِّ أَفْسَدَهَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَتَيَمَّمُ وَيَتْرُكُهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ بِهِ وَصَلَّى- أَعَادَ فِي الْوَقْتِ، فَحُمِلَ عَلَى النَّجَاسَةِ لِلتَّيَمُّمِ، وَعَلَى الْكَرَاهَةِ لِلْوَقْتِ، وَعَلَى التَّنَاقُضِ. وَقِيلَ: مَشْكُوكٌ فِيهِ فَيَتَوَضَّأُ بِهِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِصَلاةٍ وَاحِدَةٍ، وَقِيلَ: يَتَيَمَّمُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِهِ لِصَلاتَيْنِ، فَلَوْ أَحْدَثَ بَعْدُ فَعَلَهُمَا لِصَلاةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ....
اختُلف في مقدارِ القليلِ، فوقع لمالكٍ أنه آنيةُ الوضوءِ والغسلِ. وفي كلام عبد الوهاب أنه الحُبُّ والجَرَّةُ، وقال بعضُ المتأخرِين: إنه القُلَّتَانِ، على ما جاء في الحديث. والقلتان:
1 / 14
خمسُمائة رَطْلٍ بالبَغْدادي. وقال بعضُهم: ليس له حَدٌّ بمقدارٍ، [٣/أ] بل بالعادةِ. هكذا حكى ابنُ عبد السلام هذه الأقوالَ. وقال ابنُ راشدٍ: ليس في المذهبِ في القليلِ حَدٌّ. ورأيتُ لابن رُشْدٍ أنَّ اليسيرَ قدرُ ما يَتوضأُ به ويَغتسلُ. قال: والمعلومُ مِن قولِ ابنِ القاسم وروايتِه عن مالكِ: أَنه مِثْلُ الجرةِ.
وإن لم يَفْسُدْ مِن قطرةِ البولِ فإنه يَفسد بما هو أكثرُ مِن ذلك، وإن لم يتغيرُ بخلافِ الجُبِّ والمَاجَلِ فإنه لا يَفسد بما وقع فيه إلا أَنْ يَتغير.
وحاصلُ ما ذَكَرَ المصنفُ ثلاثةُ أقوالٍ: المشهورُ أنه طَهورٌ إلا أنه يُكره استعمالُه مع وجودِ غيرِه؛ لما رواه أحمدُ وأبو داود والترمذيُّ والنسائيُّ: قيل: يا رسول الله، أنتوضأُ مِن بئرِ بُضَاعَةَ، وهي بئرٌ تُلقى فيها الجِيفَةُ والنَّتْنُ ولحومُ الكلاب؟ قال: "الماءُ طَهُورٌ لا يُنْجِسُه شيء" صحَّحه الإمامُ أحمدُ وحسَّنَه الترمذيُّ.
ولا يُعارِضُه حديثُ القُلتين، فإنه إنما يَدُلُّ بالمفهومِ، وأيضًا فإنَّ المفهومَ إنما يُعمل به إذا لم يَكُن ثَمَّ دليلٌ أرجحُ منه. وقد اختَلف الناسُ في صِحَّةِ حديثِ القُلتين، فصحَّحه الدارقطنيُّ وابنُ خُزَيْمَةَ وابنُ حِبَّانَ، وتَكلم فيه ابنُ عبد البر وغيرُه. وقيل: الصوابُ وَقْفُهُ. ومِنْ ثَمَّ وَقَعَ في المذهبِ قولٌ أَنَّهُ غَيْرُ مكروهٍ، حكاه اللخميُّ ولم يَعْزُهُ.
ثم قال: ورَوى أبو مصعبٍ عن مالكٍ أنه قال: الماءُ كلُّه طاهرٌ إلا ما تَغَيَّرَ لونُه أو طعمُه أو رِيحُهُ بنجاسةٍ حَلَّتْ فيه مَعِينًا كان أو غَيْرَ مَعِينٍ. وقال: فعلى هذا يُتوضأ به مِن غيرِ كراهةٍ. وذَكَرَ ابنُ بَشير أن اللخمي حكاه عن أبي مصعب، وليس بظاهرٍ؛ لأنه لم يُصَرِّحْ به عن أبي مصعبٍ، ثُم رَدَّه ابنُ بَشير لعدمِ وجودِه في المذهبِ، وليس رَدُّ ابنِ بشير بشيءٍ؛ لأنَّ حاصلَه شهادةٌ على نَفْيٍ.
وأَوْرَدَ ابنُ راشد سؤالًا، وهو أن المكروهَ ليس في فعلِه ثوابٌ، وقد صحَّ الوضوءُ به، والصحةُ تستلزمُ الثوابَ، فكيف يُجمع بينهما؟ انتهى.
1 / 15
القول الثاني: أنه نَجِسٌ، وهو قولُ ابنِ القاسم، واختاره صاحبُ الرسالة.
وقوله: (وَفِيهَا) أتى بما في المدونة- والله أعلمُ- للترددِ، لقوله: (أَفْسَدَهَا) هل معناه أَنْجَسَها، أو معناه يُجتنب مع وجودِ غيرِه، أو يُجمع بين الماءِ والتيمم؟ وأَتَى بقولِ ابنِ القاسم ليَذكر ما قيل فيه، وتَصورُه مِن كلامِه واضحٌ.
واعترضَه ابنُ راشد بأنَّ ابنَ القاسم لم يَقُلْ ذلك فيما تَحَقَّقَ وقوعُ النجاسةِ فيه، وإنما قاله في سُؤْرِ ما يأكلُ الجِيَفَ إذا لم تَتَحَقَّقْ بِفِيهِ نجاسةٌ، ولا يَلزمُ تساوي الغالبِ بالمحقَّقِ.
وقوله: (فَحُمِلَ عَلَى النَّجَاسَةِ لِلتَّيَمُّمِ ...) إلى آخره، أي أن الأشياخَ اختلفوا في حَمل كلامِ ابنِ القاسمِ، فحملَه عبدُ الحميد والسُّيُورِيُّ على أَنَّ الماءَ عنده نجسٌ، وجَعَلَ الإعادةَ في الوقتِ مراعاةً للخلافِ، وحَمَلَه ابنُ رشد على أنَّ الماءَ عنده نجسٌ، وجَعَلَ الإعادةَ في الوقتِ مراعاةً للخلافِ، وحَمَلَه ابنُ رشد على أنَّ الماءَ عنده مكروهٌ؛ لكونِه أَمَرَه بالإعادةِ في الوقتِ، وإلى هذين التأويلين أشارَ بقوله: (فَحُمِلَ عَلَى النَّجَاسَةِ لِلتَّيَمُّمِ، وَعَلَى الْكَرَاهَةِ لِلْوَقْتِ).
ومِن الأشياخِ مَن عَدَّه تناقُضًا، وإليه أشار بقوله: (وَعَلَى التَّنَاقُضِ) وحمله عبد الوهاب على أنه يَجمعُ بينَ الماءِ والتيممِ، وضَعَّفَه عياضٌ بِبُعْدِه عن اللفظِ. قال في المقدمات: ولم يفرّق ابنُ القاسم في الإعادةِ في الوقت بينَ أن يكون جاهلًا أو متعمدًا، أو ناسيًا. وقال ابنُ حبيب في الواضحة: إن كان عامدًا أو جاهلًا- أَعَادَ أبدًا. وقَيَّدَه أبو محمدٍ والبراذعيُّ في اختصارِهما: الإعادةُ في الوقتِ بعَدَمِ العِلْمِ. وتُعُقِّبَ ذلك عليهما لِعَدَمِ وجودِه في الأَصْلِ، وكأنهما عَوَّلا في ذلك على ما في كتابِ الصلاةِ الأوَّلِ منها، وذلك أنه قال في باب ما تُعاد الصلاةُ منه في الوقتِ: قال مالكٌ فيمَن تَوضأ بماءٍ غيرِ طاهرٍ وصَلى وهو يظن أنه طاهرٌ، ثم عَلِمَ به، قال: يُعيد ما دام في الوقتِ، فإنْ مضَى الوقتُ لم يُعِدْ، ويَغسلُ ما أصاب ذلك الماءُ مِن جسدِه ومِن ثوبِه.
1 / 16
وقوله: (وهو يظن) يَدُلُّ على أنه كان غيرَ عالِمٍ، لكنَّ أبا سعيدٍ لم ينقل هذه المسألةَ في كتابِ الصلاةِ، ولا أَتى بها على ما هي عليه في كتابِ الوضوءِ، قاله عبدُ الحق.
والقولُ الثالث- مما حكاه المصنفُ- أنه مشكوكٌ فيه، أي لا يُتَحَقَّقُ هل هو نجسٌ أو طاهرٌ؟ ثم اختُلِفَ على هذا القول على قولين.
الأول: لابن الماجِشُونِ: يتوضأ أوّلًا ثم يتيمم للصلاة الواحدة، وإلى تقديم الوضوء- قبل التيمم- أَشار بقوله: (ثُمَّ يَتَوَضَّأُ) فإِنّ ثُمَّ للترتيبِ.
والثاني: لسُحْنُونٍ: أنه يتيمم أوّلًا ثم يُصلي، ثم يتوضأ ويصلي ثانيًا؛ ليكون قد صَلَّى صلاةً مُتَيَقِّنًا فيها السلامةَ مِن النجاسةِ.
وقوله: (فَلَوْ أَحْدَثَ بَعْدُ فَعَلَهُمَا) هو فرعٌ على قولَيْ مَن قال بالشكِّ، أي إذا أَحْدَثّ بعد أن فَعَلَ بمقتضى كلٍّ مِن القولين، فإنهما يتفقان على أنه يتوضأ ثم يتيمم لصلاةٍ واحدةٍ؛ لأن ما كان يخاف منه- على القول الثاني- وهو تلطيخُ أعضائِه بالنجاسةِ قد حَصَلَ. اللخمي: وكذلك لو لم يُحدث فإنه يتيمم ويصلي. واعترض ابنُ رشد هذا القولَ، أي قولَ مِن قال: إنه مشكوك فيه. وقال: الشكُّ ليس بمذْهَبٍ، وإنما هو وَقْفُ حَيْرَةٍ، وإنما المشكوكُ فيه ما شَكَّ في تغيره بالنجاسة، أو في حلولها فيه عند مَن يَرَى مُطْلَقَ الحُلولِ مانعًا وإنْ لم يتغير، ففي هذين الوجهين يُعتبر الشكُّ.
ابن هارون: وفيه عندي نظرٌ؛ لأن الشكَّ في الحكمِ قد يَحصل بتعارضِ الأدلةِ عند المجتَهِدِ فيرَى بالاحتياطِ.
وَالْجَارِي كَالْكَثِيرِ إِذَا كَانَ الْمَجْمُوعُ كَثِيرًا، وَالْجَرْيَةُ لا انْفِكَاكَ لَهَا
أي: والماءُ الجاري إذا وقع فيه مُغَيِّرٌ نجسًا كان أو طاهرًا، يُريد: والمستعملُ تحتَ الواقعِ، وأما لو كان فوقَه لم يَضُرَّ وإن كان يسيرًا. ابن هارون: إلا أن يقرب منه جدًا. انتهى.
1 / 17
وهذه المسألةُ على وجهين: أحدُهما: أنْ يَجري الماءُ بذلك المغيِّرِ الحالٍّ- مع بقاءِ بعضِه في محلِّ الوقوعِ- إلى محل الاستعمالِ، ففي هذا الوجهِ يُنظر إلى مجموع ما بين محلِّ [٣/ب] الوقوع والاستعمالِ، فقد يكون يسيرًا، وقد يكون كثيرًا، والحالُّ أيضًا إما أن يكون نجسًا أو طاهرًا، أَجْرِهِ على ما تقدم، ولا تَعتبر هنا المجموعَ مِن محلِّ النجاسةِ إلى آخِرِ الجِزْيَةِ.
والوجه الثاني: أَنْ يَنْحَلَّ المُغَيِّرُ، وفي هذا الوجهِ يُنظر إلى مجموعِ ما بين محلِّ الوقوعِ ومحلِّ تأثيرِ ذلك التغييرِ، فلو كان مجموعُ الجريةِ كثيرًا، ومِن محل الوقوعِ إلى محل الاستعمال يسيرًا- جاز الاستعمالُ، لكونِ المغَيِّرِ قد ذَهب في جميعِ ذلك، ولا كذلكَ الوجهُ الأولُ. ابنُ هارون: واعتُرض على المصنف بأنَّ اشتراطَ عدمِ الانفكاكِ لا معنى له إذا كان المجموعُ كثيرًا؛ لأنه مع الكثرة لا يُجتنب إلى المتغيرُ دون غيرِه، انقطعتْ جِريتُه أو اتصلتْ، وأُجيب بأنه تأكيدٌ لقوله: إذا كان المجموع كثيرًا. انتهى.
وهذا ما ظَهر لي مِن البحث في كلامه، ولم أَرها منصوصةً للمتقدِّمين هكذا؛ نَعَمْ قال أبو عمر بنُ عبد البرِّ في كافِيهِ: إنّ الماءَ الجاريَ إذا وقعتْ فيه نجاسةٌ جَرَى بها فما بعدَها منه طاهرٌ. وأشار عياضٌ في الإكمالِ لَمَّا تكلم على قولِه ﵊: "لا يَبُولَنَّ أحدُكم في الماءِ الدائمِ" إلى أنَّ الجاري كالكثير، والله أعلم.
الثَّالِثُ: مَا خُولِطَ فَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ فَحُكْمُهُ كَمُغَيِّرِهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرِ ابْنُ الْمَاجِشُونِ الرِّيحَ، وَلَعَلَّهُ قَصَدَ التَّغْيِيرَ بِالْمُجَاوَرَةِ، وَفِي التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ بَعْدَ جَعْلِهِ فِي الْفَمِ قَوْلانِ ...
تصورُه ظاهرٌ، ومعنى حُكمه كمغيِّره، أي: إِن كان المغيِّر نجسًا كان الماء نجسًا، وإن كان المغيرُ طاهرًا كان الماء طاهرًا غيرَ مطهِّرٍ، وانظرْ إذا خالطَه مشكوكٌ فيه. وروى بعضُهم أنَّ سببَ الخلافِ بينَ ابنِ الماجشونِ والمذهبِ الخلافُ في زيادةِ العَدْلِ؛ لأنَّ (الرِّيحَ) لم يَقَعْ في كلِّ الطُّرُقِ.
1 / 18
واعتُرض على قولِ مَن قال: ولعلَّه قصدَ التغييرَ بالمجاورة. لأنه لا يَصِحُّ لقيامِ الدليل على امتناعِ انتقالِ الأَعْرَاضِ، فلا بُدَّ مِن انتقالِ أجزاءٍ يَقع تغيرُ الريحِ بها.
وأُجيب بأَنَّا لا نعني بتغيير المجاورَة إلا أنا لا نُشاهد الحالَّ الذي وقعَ التغييرُ بسببه.
قيل: ووقع كلامُ ابن الماجشون في مختصر الثَّمانِيَةِ صَريحًا فيه أَنه لا يَعتبر الريحَ، بما لا يَقبل هذا التأويل.
والقولان في الماءِ بعد جعلِه في الفم راجعان إلى خلافٍ في حال: هل يمكن أن ينفك عنه الماء بصفته أم لا؟ والجوازُ رواه موسى بن معاوية عن ابن القاسم، والمنعُ رواه أشهب في العتبية، واتفقا على أنه لو تَحقق التغييرُ لأَثَّرَ.
وَلَوْ زَالَ تَغَيُّرُ النَّجَاسَةِ فَقَوْلانِ بِخِلافِ الْبِئْرِ تَزُولُ بِالنَّزْحِ
يعني: أنه اختُلف إذا زال تغيرُ النجاسة بنفسِه على قولين، فمَن رأى أن الحكمَ بالنجاسة إنما هو لأجل التغيير وقد زال، والحكمُ يدور مع علته وجودًا وعدمًا- حَكَمَ بالطهوريةِ، ومَن رأى أنَّ الأصلَ أن النجاسةَ لا تزولُ إلا بالماء، وليس هو حاصلًا- حَكَم ببقاءِ النجاسةِ، وصَوَّب هذا الثاني ابنُ يونس.
ابن راشد: وسمعت بعضَ الفقهاء يقول: الخلافُ إنما هو في الماء الكثير، وأما اليسيرُ فهو باقٍ على التنجيس بلا خلافٍ. قال شيخُنا- يعني ابن دقيق العيد-: والخلافُ أيضًا في البولِ نفسِه إذا زالتْ رائحتُه. ويُؤيد ما قاله الخلافُ في بول المريض الذي لا يَستقر الماءُ في معدتِه، ويَبُوله في صِفَتِه. انتهى.
فإنْ زال تغيرُ النجاسة بكثرة المطلَقِ كان طَهورًا اتفاقًا، وإليه أشار بقوله: (بِخِلافِ الْبِئْرِ تَزُولُ بِالنَّزْحِ) أي: فلا خلافَ في طَهوريته.
1 / 19
وَأَمَّا الْمَاءُ الرَّاكِدُ كَالْبِئْرِ وَغَيْرِهِ تَمُوتُ فِيهِ دَابَّةُ بَرٍّ ذَاتُ نَفْسٍ سَائِلَةٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ فَيُسْتَحَبُّ النَّزْحُ بِقَدْرِهَا بخِلافِ مَا َلْو وَقَعَ مَيِّتًا ...
الراكد هو الواقف، وقوله: (تَمُوتُ) احترازًا مما لو وقع ميتًا، فإن حكمَه مخالفٌ.
وقوله: (دَابَّةُ بَرٍّ) احترازًا من دابة البحر، فإنها إذا لم تغير لا يُستحب النزحُ.
وقوله: (ذَاتُ نَفْسٍ سَائِلَةٍ) احترازًا مما ليس له نفسٌ سائلةٌ كالعقربِ والزنبورِ، فإنهما إذا وقعا في ماء فماتا فيه فإنه- إذا لم يَتغير- لا يُستحب النزحُ، والمرادُ بالنفسِ السائلةِ الدمُ الجاري.
وقوله: (وَلَمْ يَتَغَيَّرْ) احترازًا مما لو تغير، فإنه يجب نزحُه حتى يزول تغيرُه.
وقوله: (بِقَدْرِهَا) أي: بقدر الميتة، ويتحمل بقدر البئر. وفي بعض النسخ: بقدرهما. وهو أظهرُ. ولمراعاتهما قال ابنُ الجلاب: على قدرِ كثرةِ الماء وقلته، وصِغَرِ الدابةِ وكبرِها. وعلى هذا فالصورُ أربعٌ:
تارةً يكثُر الماءُ وتصغُر الدابةُ، فيقلَّلُ مِن النَّزْحِ، وتارًة يَقِلُّ الماءُ وتكبُر الدابةُ، فيُزادُ في النزحِ، وتارة يُتَوَسَّطُ، إما لكِبَرِ الميتةِ وكثرةِ الماء، وإما لقلةِ الماء وصِغَرِ الميتةِ.
وإنما يُستحب النزحُ لأن الله تعالى أجرَى العادةَ أن الحيوانَ عند خروجِ رُوحه تنفتح مَسَامُّه، وتَسيل رُطوباتُه، ويَفتح فاه طلبًا للنجاة فيدخل الماء ويَخرج برطوباته، وذلك مما تَعافُه النَّفْسُ، فأُمِرَ بالنزح ليزول ذلك، ولهذا قال بعضُهم: إذا نَزَحَ فيُنقص مِن الدلوِ شيئًا يسيرًا؛ لأنه إذا مُلِئَ تطفو الدُّهنيةُ فيُنزلها الماءُ فلا يَكون النزحُ مُعتبرًا.
وما ذكره المصنف مِن استحبابِ النزحِ إذا لم يتغيرْ هو ظاهرُ المذهب، وحكى الباجي قولًا عن مالك بوجوب النزحِ، وهو ظاهر المدونة في مواجِلِ بُرْقَةَ، فإنه قال: لا يُشرب منها، ولا بأس أن تُسقى منه المواشي.
1 / 20
سحنون: وينجس بولُ الماشية الشاربةِ. فلذلك حَمل أبو الحسن ما في المدونة على أن الماءَ تَغير، واستدل لذلك بكلام سحنون، وفي كلام ابن عبد السلام هنا نظرٌ.
وقوله: (الرَّاكِدُ) يشملُ كل ما له مادةٌ، وما لا مادةَ له.
وقوله: (كَالْبِئْرِ) يُخَصِّصُ ما له مادةٌ. وذكر ابنُ شاسٍ في الماء إذا تغير- ولا مادة له- وذهب التغيرُ بنزحِ [٤/أ] بعضِه: أَنَّ في طهوريةِ الباقي قولين.
وقوله: (بخِلافِ مَا َلْو وَقَعَ مَيِّتًا) أي: فإنْ تغير وَجَبَ نزحُه، وإن لم يتغير لم يجب ولم يُستحب، لِفَقْدِ العلةِ التي ذُكرت للاستحباب إذا مات في الماء، والمخالفةُ إنما هي في عدمِ التغير، وأما مع التغير فالحكمُ متساوٍ، وهو وجوبُ النزح، وفي المذهب قولٌ أنَّ ما وقع ميتًا بمنزلةِ ما مات فيه.
وَالْجَمَادَاتُ- مِمَّا لَيْسَ مِنْ حَيَوَانٍ- طَاهِرَةٌ إِلا الْمُسْكِرَ
يريد بقوله: (مِمَّا لَيْسَ مِنْ حَيَوَانٍ) ما قال ابن شاس وغيره، ويعني بالجمادات ما ليس بذي روحٍ، ولا منفصلٍ عن ذي رُوحٍ، وإنما أخرجنا المنفصلَ عن الحيوانِ لأنَّ منه ما هو نجسٌ، كما سيأتي.
وقوله: (إِلا الْمُسْكِرَ) أي: فإنه نجسٌ، وسواء كان من العِنَبِ أو من غيرِه، وهذا هو المشهورُ خلافًا لابنِ لُبابَةَ وابنِ الحَدَّادِ فإنهما قالا بطهارةِ الخَمْرِ، والأوّلُ أظهرُ، لقوله تعالى: ﴿إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان﴾ [المائدة: ٩٠]. والرجسُ النجسُ، ولأن القول بطهارتِها يَستلزم جوازَ استعمالِها. وقصدُ الشَّرْعِ الإبعادُ عنها بالكُلِّيَّةِ.
فائدة:
تنفع الفقيهَ يَعرف بها الفرق بين المسكر والمفسد والمرَقِّدِ، فالمسكرُ ما غيّب العقلَ دون الحواسِّ مع نشوة وفرح، والمفسدُ ما غيّب العقل دون الحواس لا مع نشوة وفرح كعسل البلادر، والمرقد: ما غيب العقل والحواس كالسَّيْكَرانِ.
1 / 21
وينبني على الإسكارِ ثلاثة أحكام دون الآخرين: الحدُّ والنجاسةُ، وتحريمُ القليل. فإذا تقرر ذلك فللمتأخرين في الحشيشة قولان: هل هي من المسكرات، أو من المفسدات المرقدات؟ مع اتفاقهم على المنع مِن أكلها. واختار القرافي أنها من المفسدات المرقدات، وقال: لأني لم أَرَهُم يميلون إلى القتال والنصرة، بل عليهم الذلة والمسكنة، وربما عَرَضَ لهم البكاءُ. وكان شيخنا- رحمه الله تعالى- الشهير بأبي عبد الله المَنُوفي يختار أنها من المسكرات، قال: لأنا رأينا مَن يتعاطاها يبيع أموالَه لأجلِها، فلولا أن لهم فيه طربًا ما فَعَلوه، بدليل أنا لا نجد أحدًا يبيع داره ليأكل بها سيكرانًا، وهو واضح.
وَالْحَيَوَانَاتُ طَاهِرَةٌ، وَقَالَ سَحْنُونٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: الْخِنْزِيرُ وَالْكَلْبُ نَجَسٌ. فَقِيلَ: عَيْنُهُمَا. وَقِيلَ: سُؤْرُهُمَا لاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ ...
المشهور أن جميعَ الحيوانات طاهرةٌ حتى الكلبُ والخنزيرُ خلافًا لسحنون وابن الماجشون، ثم اختُلف على قولهما هل المرادُ حقيقة الكلام؟ ويكون المراد عينُهما، أي ذاتُهما نجسةٌ كمذهب الشافعيِّ، أو مرادُهما المجازُ، وأطلق النجاسة عليهما والمراد سؤرهما، والأولُ أظهرُ؛ لأن الأصلَ في الكلام الحقيقةُ، وأيضًا فلا تجدهم يطلقون هذا اللفظِ على غيرهما مما يُشاركهما في نجاسة السؤرِ، وأطلق في الكلب ولم يقيده، وكذلك نقل في الإكمال فقال لما تكلم في الولوغ: وخالفَ الشافعيُّ في نجاسة الكلب، وحُكي هذا عن سحنون وعبد الملك. ونقل اللخمي عن سحنون التفرقةَ، وأنه قال: كلُّ كلب لم يُؤْذَنْ في اتخاذه نجسٌ، وكلُّ كلب أذن في اتخاذه فهو طاهرٌ.
وحصل في المقدمات في سؤر الكلب أربعةُ أقوال:
الأول: الطهارة، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة. والثاني: النجاسة. الثالثُ: الفرقُ بين الكلب المأذون في اتخاذه وغيرِ المأذون في اتخاذه. الرابع:
1 / 22