كتاب التوهم
(توهم حال أهل النار، وتوهم حال أهل الجنة)
للحارث المحاسبي
أبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي
توفي سنة ٢٤٣ هـ
تحقيق المستعصم بالله أبي هريرة
مصطفى بن علي بن عوض جعفر
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، هازم الأحزاب وحده، ناصر دينه ولو كره الكافرون.
وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أدى أمانة ربه، وبلغ الرسالة، فجزاه الله أعظم الخير كله. ثم أما بعد.
في وقت تطغى فيه الماديات، وتزداد فيه بريق الفتن، ويعم ظهور الفساد في البرِّ والبحر حتى يكاد أن يصل إلى منتهاه، أقول في وقت مثل هذا فإنه ينبغي أن يكون لنا وقفة ووقفات للذكرى وللعودة وللإنابة، فإنه يجب على المسلم أن يتجلد ويتصبر بالله، وأن يملئ قلبه بالإيمان، وما يسبب الإيمان، وما يحفظه.
وإن من أعظم المثبتات الذكرى، فإن الإنسان مأتاه من أحد البليَّتين، النسيان أولهما، وثانيهما الفتور وعدم العزم، فقد قال ربنا، وهو أصدق القائلين ﴿ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزمًا﴾ (١) .
فإن الذي ينسى لماذا يطيع الله، أو لماذا يسير في طريق ما، فإنه يدخله السآمة والفتور عن الالتزام أو السير، فسريعًا ما يحدث له الانقلاب على عقبيه ﴿ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا﴾ (٢) .
ولأن أمر النسيان من أعظم ما يهدم المسلم، فإن أعداء الله باختلاف مللهم وألسنتهم دائمًا يحاربون الدعوة والتذكير بأمر الله تعالى.
_________
(١) طه /١١٥.
(٢) آل عمران /١٤٤.
ولما كان هذا مأربهم، كانت العودة إلى التذكر لزامًا على المسلم، بل والسعي إليها والهرولة. فإن ربنا الكريم قال ﴿وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين﴾ (١) . وإن أعظم الذكرى ما ورد عن الله تعالى في كتابه، فانظر إلى ما قال الله تعالى ﴿إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع﴾ (٢)، وانظر إلى قوله ﴿أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون﴾ (٣) . ثم انظر إلى ما جاء عن النبي ﷺ من طريق صحيح. ثم إنه ومن قبيل ﴿وفي ذلك فليتنافس المتنافسون﴾ (٤)، فإننا قد وجدنا لقوم ذكر وخوف من الله، وكلمات في التذكير قد وافقت ما أنزل الله، فكانت هذه الكلمات رسالة لنا تبين لنا كيف خشع هؤلاء لله الواحد القهار؟ لِمَ بكوا من خشيت الله. كما كانت رسالة لنا تقول: هل هم أولى بالله منا؟ هل نحن مستغنون عن الله، وهم إليه فقراء؟ تقول لنا: أن ما فعلوه كان في وسع طاقتهم، فما ينبغي أن نفعله - وهو الخشية - في وسعنا، فلِمَ يُعرض الإنسان عن التذكرة والإنابة؟ !! وإن من الكتب التي أحدثت عندي ذكرى وأحسست في قراءته بموعظة بليغة، كتاب أحسست في قراءته: كأنني في الجنة وفي نعيمها - والجنة أعظم نعيمًا من ذلك ـ، فازددت لها شوقًا، وازداد يقيني بأن ما عند الله خير مما ذكر صاحب الكتاب، فكيف بما عند الله؟!! _________ (١) الذاريات /٥٥. (٢) الطور ٧، ٨. (٣) الزمر /٢٤. (٤) المطففين /٢٦.
ثم وجدت الكتاب نقلني إلى النار وما فيها من عذاب، فكأني أراها وكأني بداخلها - أسأل الله لي ولكم السلامة - فازداد يقيني بأنني لا طاقة لي بها، وأنها كما جاء في الحديث (١): _________ (١) وقد أخرج البخاري ح ٦٤٠٧ فقال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: " إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم: منهم ما يقول عبادي. قال: تقول: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك؟ قال: فيقول: وكيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدًا وأكثر لك تسبيحًا. قال: يقول: فما يسألونني؟ قال: يسألونك الجنة. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا وأشد لها طلبًا وأعظم فيها رغبة. قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون من النار؟ قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا وأشد لها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقي بهم جليسهم. رواه شعبة عن الأعمش ولم يرفعه. ورواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ.
" قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها؟ قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا وأشد لها مخافة ". فازداد قراري بالفرار منها والبعد عنها وأسأل الله العون. فلما وجدت ذلك أردت للقارئ الكريم أن يكون معي من المقررين الرجوع إلى الله، وأن نكون سويًا من المعاهدين الله الثبات على أمره، وأن نكون من الفارَّين بكل قوتنا من النار. وكان هذا الكتاب وهو (التوهم) للحارث المحاسبي، فعلقت عليه بعض التعليقات وخدمت ما به من الأحاديث، ثم أردت أن أذكر الأحاديث التي منها ساق معلوماته عن الجنة أو النار أو أمر الساعة، فكل هذا غيب لا يستطيع أي عالم أن يتكلم فيه بالنظر أو بالفهم، وإنما هو غيب موقوف، فوجدت أن ذلك سيطيل الكتاب، فاكتفيت بما ذكرت على أن كل ما سيقوله عن الجنة، فإنها أعظم مما قال فقد أخرج البخاري ح ٣٢٤٤ بسندٍ له عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: " قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فاقرؤوا إن شئتم ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾ (١)، وأن ما سيقوله عن الساعة من تخويف فإن الله قال ﴿والساعة أدهى وأمر﴾ (٢) . وما سيقوله عن النار، فإن الله قال ﴿ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون﴾ (٣)، وهكذا وأسأل الله أن يكون ذلك في ميزاني يوم لقائه، وأن يتجاوز بذلك عن سيئات أعمالي، وأن يتقبل مني. فما كان من صواب فمن فضل الله عليَّ، وما كان من خطأٍ فمن نفسي ومن الشيطان، وأسأل الله السلامة وحسن التوفيق ﴿إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب﴾ (٤) . _________ (١) السجدة /١٧. (٢) القمر /٤٦. (٣) الزمر /٢٦. (٤) هود /٨٨.
كما أسأل ربي العظيم أن يوحد كلمة المسلمين دائمًا، وأن يصرف عنهم عدوهم، وأن يجمع شتات المسلمين تحت راية واحدة، وأن يصرف عنهم التمزق، وأن يعْظُمَ في قلوبهم أمر ربهم وشعائره، وأن يعود المتردد في الخطأ إلى عظيم الالتزام، وإلى كريم الأخلاق. آمين. هذا ولم يسعفني الوقت والجهد على مقابلة هذا الكتاب على مخطوطة، فاعتمدت على نسخة مطبوعة لدار التراث طبعت سنة ١٣٩٩ هـ، فما صححه اعتمدته، وبينت تصحيحه أو وصفه لما وجده على هامش الأصل عنده، لأنه هو الذي اطلع على أصل الكتاب، وقد أشرت إلى ذلك بالرمز (أ) . هذا وقد رقمت الأحاديث للتوضيح، مع وضع * أمام الرواية التي من قول الصحابي موقوفًا غير أنها من الروايات التي لا تروى من قبيل الرأي بل هي من قبيل ما يرجح رفعه. ووضعت ** أمام الرواية التي هي من قول تابعي فأقل وهي من قوله لأنها ليست من قبيل الرفع، ولا أستطيع أن أقول أنها يرجح رفعها لأن بعد الصدر الأول دخلت روايات عن أهل الكتاب فاختلط الأمر. وراجع إن تيسر لك مقدمة كتابنا (مختصر المصنف لعبد الرزاق) أو (مختصر مصنف ابن أبي شيبة) . والله الهادي إلى سواء السبيل. وكتب المستعصم بالله أبو هريرة مصطفى بن علي بن عوض جعفر كلمة عن المؤلف الحارث بن أسد المحاسبي نعته الذهبي في السير بقوله: الزاهد العارف شيخ الصوفية أبو عبد الله الحارث بن أسد البغدادي المحاسبي صاحب التصانيف الزهدية. قال الخطيب: له كتب كثيرة في الزهد وأصول الديانة والرد على المعتزلة والرافضة. قال الجنيد: خلف له أبوه مالًا كثيرًا فتركه، وقال: لا يتوارث أهل ملتين وكان أبوه واقفيًا. قال أبو الحسن بن مقسم: أخبرنا أبو علي بن خيران قال: رأيت المحاسبي معلقًا بأبيه، يقول: طلق أمي فإنك على دين وهي على غيره.
قال الجنيد: قال لي الحارث: كم تقول عزلتي أنسي! لو أن نصف الخلق تقربوا مني ما وجدت لهم أنسًا، ولو أن النصف الآخر نأوا عني ما استوحشت. قلت: المحاسبي كبير القدر وقد دخل في شيء يسير من الكلام فنقم عليه، وورد أن الإمام أحمد أثنى على حال الحارث من وجه وحذر منه. قال سعيد بن عمرو البرذعي: شهدت أبا زرعة الرازي وسئل عن المحاسبي وكتبه فقال: إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر تجد غنية، هل بلغكم أن مالكًا والثوري والأوزاعي صنفوا في الخطرات والوساوس ما أسرع الناس إلى البدع. قال ابن الأعرابي: تفقه الحارث وكتب الحديث وعرف مذاهب النساك، وكان من العلم بموضع إلا أنه تكلم في مسألة اللفظ ومسألة الإيمان، وقيل هجره أحمد فاختفى مدة. ومات سنة ثلاث وأربعين ومئتين. (أ. هـ الذهبي باختصار) . وقال ابن حجر في لسان الميزان: الزاهد المشهور. وفي التقريب قال: مقبول. ويعني بهذا اللفظ أن أحاديثه إذا تفرد بها لا تقوم مقام الحجة، وإنما تصلح للاعتبار والشواهد. قلت: وكتابه هذا بعيد عن شأن الصوفية وعلم الكلام، وإنما هو موعظة.
ولما كان هذا مأربهم، كانت العودة إلى التذكر لزامًا على المسلم، بل والسعي إليها والهرولة. فإن ربنا الكريم قال ﴿وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين﴾ (١) . وإن أعظم الذكرى ما ورد عن الله تعالى في كتابه، فانظر إلى ما قال الله تعالى ﴿إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع﴾ (٢)، وانظر إلى قوله ﴿أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون﴾ (٣) . ثم انظر إلى ما جاء عن النبي ﷺ من طريق صحيح. ثم إنه ومن قبيل ﴿وفي ذلك فليتنافس المتنافسون﴾ (٤)، فإننا قد وجدنا لقوم ذكر وخوف من الله، وكلمات في التذكير قد وافقت ما أنزل الله، فكانت هذه الكلمات رسالة لنا تبين لنا كيف خشع هؤلاء لله الواحد القهار؟ لِمَ بكوا من خشيت الله. كما كانت رسالة لنا تقول: هل هم أولى بالله منا؟ هل نحن مستغنون عن الله، وهم إليه فقراء؟ تقول لنا: أن ما فعلوه كان في وسع طاقتهم، فما ينبغي أن نفعله - وهو الخشية - في وسعنا، فلِمَ يُعرض الإنسان عن التذكرة والإنابة؟ !! وإن من الكتب التي أحدثت عندي ذكرى وأحسست في قراءته بموعظة بليغة، كتاب أحسست في قراءته: كأنني في الجنة وفي نعيمها - والجنة أعظم نعيمًا من ذلك ـ، فازددت لها شوقًا، وازداد يقيني بأن ما عند الله خير مما ذكر صاحب الكتاب، فكيف بما عند الله؟!! _________ (١) الذاريات /٥٥. (٢) الطور ٧، ٨. (٣) الزمر /٢٤. (٤) المطففين /٢٦.
ثم وجدت الكتاب نقلني إلى النار وما فيها من عذاب، فكأني أراها وكأني بداخلها - أسأل الله لي ولكم السلامة - فازداد يقيني بأنني لا طاقة لي بها، وأنها كما جاء في الحديث (١): _________ (١) وقد أخرج البخاري ح ٦٤٠٧ فقال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: " إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم: منهم ما يقول عبادي. قال: تقول: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك؟ قال: فيقول: وكيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدًا وأكثر لك تسبيحًا. قال: يقول: فما يسألونني؟ قال: يسألونك الجنة. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا وأشد لها طلبًا وأعظم فيها رغبة. قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون من النار؟ قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا وأشد لها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقي بهم جليسهم. رواه شعبة عن الأعمش ولم يرفعه. ورواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ.
" قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها؟ قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا وأشد لها مخافة ". فازداد قراري بالفرار منها والبعد عنها وأسأل الله العون. فلما وجدت ذلك أردت للقارئ الكريم أن يكون معي من المقررين الرجوع إلى الله، وأن نكون سويًا من المعاهدين الله الثبات على أمره، وأن نكون من الفارَّين بكل قوتنا من النار. وكان هذا الكتاب وهو (التوهم) للحارث المحاسبي، فعلقت عليه بعض التعليقات وخدمت ما به من الأحاديث، ثم أردت أن أذكر الأحاديث التي منها ساق معلوماته عن الجنة أو النار أو أمر الساعة، فكل هذا غيب لا يستطيع أي عالم أن يتكلم فيه بالنظر أو بالفهم، وإنما هو غيب موقوف، فوجدت أن ذلك سيطيل الكتاب، فاكتفيت بما ذكرت على أن كل ما سيقوله عن الجنة، فإنها أعظم مما قال فقد أخرج البخاري ح ٣٢٤٤ بسندٍ له عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: " قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فاقرؤوا إن شئتم ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾ (١)، وأن ما سيقوله عن الساعة من تخويف فإن الله قال ﴿والساعة أدهى وأمر﴾ (٢) . وما سيقوله عن النار، فإن الله قال ﴿ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون﴾ (٣)، وهكذا وأسأل الله أن يكون ذلك في ميزاني يوم لقائه، وأن يتجاوز بذلك عن سيئات أعمالي، وأن يتقبل مني. فما كان من صواب فمن فضل الله عليَّ، وما كان من خطأٍ فمن نفسي ومن الشيطان، وأسأل الله السلامة وحسن التوفيق ﴿إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب﴾ (٤) . _________ (١) السجدة /١٧. (٢) القمر /٤٦. (٣) الزمر /٢٦. (٤) هود /٨٨.
كما أسأل ربي العظيم أن يوحد كلمة المسلمين دائمًا، وأن يصرف عنهم عدوهم، وأن يجمع شتات المسلمين تحت راية واحدة، وأن يصرف عنهم التمزق، وأن يعْظُمَ في قلوبهم أمر ربهم وشعائره، وأن يعود المتردد في الخطأ إلى عظيم الالتزام، وإلى كريم الأخلاق. آمين. هذا ولم يسعفني الوقت والجهد على مقابلة هذا الكتاب على مخطوطة، فاعتمدت على نسخة مطبوعة لدار التراث طبعت سنة ١٣٩٩ هـ، فما صححه اعتمدته، وبينت تصحيحه أو وصفه لما وجده على هامش الأصل عنده، لأنه هو الذي اطلع على أصل الكتاب، وقد أشرت إلى ذلك بالرمز (أ) . هذا وقد رقمت الأحاديث للتوضيح، مع وضع * أمام الرواية التي من قول الصحابي موقوفًا غير أنها من الروايات التي لا تروى من قبيل الرأي بل هي من قبيل ما يرجح رفعه. ووضعت ** أمام الرواية التي هي من قول تابعي فأقل وهي من قوله لأنها ليست من قبيل الرفع، ولا أستطيع أن أقول أنها يرجح رفعها لأن بعد الصدر الأول دخلت روايات عن أهل الكتاب فاختلط الأمر. وراجع إن تيسر لك مقدمة كتابنا (مختصر المصنف لعبد الرزاق) أو (مختصر مصنف ابن أبي شيبة) . والله الهادي إلى سواء السبيل. وكتب المستعصم بالله أبو هريرة مصطفى بن علي بن عوض جعفر كلمة عن المؤلف الحارث بن أسد المحاسبي نعته الذهبي في السير بقوله: الزاهد العارف شيخ الصوفية أبو عبد الله الحارث بن أسد البغدادي المحاسبي صاحب التصانيف الزهدية. قال الخطيب: له كتب كثيرة في الزهد وأصول الديانة والرد على المعتزلة والرافضة. قال الجنيد: خلف له أبوه مالًا كثيرًا فتركه، وقال: لا يتوارث أهل ملتين وكان أبوه واقفيًا. قال أبو الحسن بن مقسم: أخبرنا أبو علي بن خيران قال: رأيت المحاسبي معلقًا بأبيه، يقول: طلق أمي فإنك على دين وهي على غيره.
قال الجنيد: قال لي الحارث: كم تقول عزلتي أنسي! لو أن نصف الخلق تقربوا مني ما وجدت لهم أنسًا، ولو أن النصف الآخر نأوا عني ما استوحشت. قلت: المحاسبي كبير القدر وقد دخل في شيء يسير من الكلام فنقم عليه، وورد أن الإمام أحمد أثنى على حال الحارث من وجه وحذر منه. قال سعيد بن عمرو البرذعي: شهدت أبا زرعة الرازي وسئل عن المحاسبي وكتبه فقال: إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر تجد غنية، هل بلغكم أن مالكًا والثوري والأوزاعي صنفوا في الخطرات والوساوس ما أسرع الناس إلى البدع. قال ابن الأعرابي: تفقه الحارث وكتب الحديث وعرف مذاهب النساك، وكان من العلم بموضع إلا أنه تكلم في مسألة اللفظ ومسألة الإيمان، وقيل هجره أحمد فاختفى مدة. ومات سنة ثلاث وأربعين ومئتين. (أ. هـ الذهبي باختصار) . وقال ابن حجر في لسان الميزان: الزاهد المشهور. وفي التقريب قال: مقبول. ويعني بهذا اللفظ أن أحاديثه إذا تفرد بها لا تقوم مقام الحجة، وإنما تصلح للاعتبار والشواهد. قلت: وكتابه هذا بعيد عن شأن الصوفية وعلم الكلام، وإنما هو موعظة.
Halaman tidak diketahui
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد القهار، العظيم الجبار، الكبير المتعال، الذي جعلنا للبلوى (١) والاختبار، وأعد لنا الجنة والنار، فعظم لذلك الخطر، وطال لذلك الحزن لمن عقل وادَّكر، حتى يعلم أين المصير، وأين المستقر، لأنه قد عصى الرب وخالف المولى، وأصبح وأمسى بين الغضب والرضا، لا يدري أيهما قد حل ووقع له، فعظم لذلك غمّه، وطال لذلك حزنه، واشتد كربه، حتى يعلم كيف عند الله حاله. فإلى الله فارغب في التوفيق، وإياه فسل العفو عن الذنوب، وبه فاستعن في كل الأمور.
فعجبتُ كيف تقرُّ عينك، أو كيف يزايل الوجل والإشفاق قلبك، وقد عصيتَ ربك واستوجبتَ بعصيانك غضبه وعقابه، والموت لا محالة نازلٌ بك، بكربه وغصصه ونزعه وسكراته، فكأنك قد نزل بك وشيكًا سريعًا.
فتوهم نفسك وقد صُرعتَ للموت صرعةً لا تقوم منها إلا إلى
_________
(١) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [للبلوا] .
1 / 5
الحشر إلى ربك، فتوهَّم نفسك في نزع الموت وكربه وغصصه وسكراته وغمه وقلقه، وقد بدأ الملَك يجذب روحك من قدمك، فوجدتَ ألم جَذْبه من أسفل قدميك، ثم تدارك الجذب واستحثَّ النزع، وجُذبت الروح من جميع بدنك، فنشطتْ من أسفلك متصاعدةً إلى أعلاك، حتى إذا بلغ منك الكرب منتهاه، وعمت آلام (١) الموت جميع جسمك، وقلبك وجلٌ محزون مرتقب منتظر للبشرى (٢) من الله ﷿ بالغضب أو الرضا، وقد علمتَ أنه لا محيص لك دون أن تسمع إحدى البشريين من الملَك الموكَّل بقبض روحك (٣) .
فبينا أنت في كربك وغمومك وألم الموت بسكراته وشدة حزنك لارتقابك إحدى البشريين من ربك، إذ نظرتَ إلى صفحة وجه ملك الموت بأحسن الصورة أو بأقبحها، ونظرتَ إليه مادًّا يده إلى فيك ليخرج روحك من بدنك، فذلتْ نفسك لمَّا عاينتَ ذلك وعاينتَ وجه ملك الموت، وتعلق قلبك بماذا يفجأك من البشرى منه (٤)،
إذا سمعت صوته بنغمته: أبشر يا ولي الله برضا الله وثوابه، أو أبشر يا عدو الله بغضبه وعقابه، فتستيقن حينئذ بنجاتك وفوزك، ويستقر الأمر في قلبك، فتطمئن إلى (٥) الله نفسك، أو تستيقن بعطبك وهلاكك،
_________
(١) كذا أثبتها (أ) من الهامش.
(٢) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [للبشرا] .
(٣) أخرج الإمام أحمد في مسنده (٤/٢٨٧): ثنا أبو معاوية قال ثنا الأعمش عن منهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع النبي ﷺ في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله ﷺ وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض فرفع رأسه فقال: " استعيذوا بالله من عذاب القبر ". مرتين أو ثلاثًا ثم قال: " إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت ﵇ حتى يجلس عند رأسه فيقول: «أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان» ..قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض. قال: فيصعدون بها فلا يمرون يعني بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة فيقول الله ﷿: «اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى» . قال: فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: «من ربك»؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: «ما دينك»؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: «ما هذا الرجل الذي بعث فيكم»؟ فيقول: هو رسول الله ﷺ. فيقولان له: «وما علمك»؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد في السماء: «أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابًا إلى الجنة. قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره. قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد؟ فيقول له: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال: " وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: «يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها. فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض. فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله ﷺ ﴿لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط﴾، فيقول الله ﷿: «اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى» . فتطرح روحه طرحًا ثم قرأ ﴿ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق﴾ فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: «من ربك»؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له: «ما دينك»؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له: «ما هذا الرجل الذي بعث فيكم»؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادى مناد من السماء أن كذب فافرشوا له من النار وافتحوا له بابًا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة.
والحديث صحيح، فله طرق فقد أخرجه أبو داود (٤/٢٣٩، ٢٤٠) ح٤٧٥٣، ٤٧٥٤، وأحمد (٤/٢٨٧، ٢٨٨، ٢٩٥)، والحاكم في مستدركه (١/٩٣) ح١٠٧، (١/٩٥) ح١٠٩، ١١٠، (١/٩٧) ح١١٣، ١١٤، (١/٢٠٨) ح٤١٤، وأبو داود الطيالسي ص١٠٢ ح٧٥٣، والطبراني في الأحاديث الطوال ص٢٣٨ ح٢٥، كما أخرجه مختصرًا أبو داود ح٣٢١٢، والنسائي في المجتبى (٤/٧٨)، وفي الكبرى ح٢١٢٨، وابن ماجة ح١٥٤٩، وأحمد (٤/٢٩٧)، وانظر تحقيقنا لكتاب «الثبات عند الممات» لابن الجوزي طبعة «دار الجيل» ص ١٤٣.
(٤) وأخرج الإمام أحمد في مسنده (٢/٣٦٤) حدثنا [حسين] بن محمد حدثنا ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: " إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا: «اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان» . قال: " فلا يزال يقال ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقولون: مرحبًا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. قال: فلا يزال يقال لها حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله ﷿.
وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج. فلا يزال حتى يخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقال: لا مرحبًا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر.
وإسناده صحيح، فرجاله كلهم ثقات رجال الكتب الستة. ولفظ [حسين] تحرف في المسند إلى [حسن]، والصواب حسين وهو حسين بن محمد بن بهرام.
والحديث أخرجه أيضًا ابن ماجة ح٤٢٦٢، والنسائي في الكبرى ح١١٤٤٢.
(٥) قال (أ): ناقص من الأصل.
1 / 6
ويحل الإياس قلبك، وينقطع من الله ﷿ رجاؤك وأملك، فيلزم حينئذ غاية الهمِّ والحزن أو الفرح والسرور قلبَك، حين انقضتْ من الدنيا مدتك، وانقطع منها أثرُك، وحُملتَ إلى دار من سلف من الأمم قبلك.
فتوهم نفسك حين استطار قلبك فرحًا وسرورًا، أو مُلئ حزنًا وعَبرة، بفترة القبر وهول مطلعه، وروعة الملكين وسؤالهما فيه عن إيمانك بربك، فمثبت من الله جل ثناؤه بالقول الثابت أو متحيِّر شاكٌّ مخذول.
فتوهم أصواتهما حين يناديانك لتجلس لسؤالهما إياك ليوقفاك على مسائلتهما، فتوهم جلستك في ضيق لحدك، وقد سقطت أكفانك على حقويك (١)، والقطنة من عينيك عند قدميك (٢) .
فتوهم ذلك ثم شخوصك ببصرك إلى صورتهما وعظم أجسامهما، فإن رأيتَهما بحسن الصورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة، وإن رأيتَهما بقبح الصورة أيقن قلبك بالهلاك والعطب.
فتوهم أصواتهما وكلامهما بنغماتهما وسؤالهما، ثم هو تثبيت الله إياك إن ثبَّتك، أو تحييره (٣) إن خذلك.
_________
(١) الحَقو وهو موضع شد الإزَار.
(٢) ﴿يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء﴾ . سورة إبراهيم / ٢٧.
(٣) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [تحيره] .
1 / 7
فتوهم جوابك باليقين أو بالتحيُّر أو بالتلديد (١) والشك، وتوهم إقبالهما عليك إن ثبتك الله ﷿ بالسرور وضربهما بأرجلهما جوانب قبرك بانفراج القبر عن النار بضعفك. ثم توهم النار وهي تتأجج (٢) بحريقها، وإقبالها عليك بالقول، وأنت تنظر إلى ما صرف الله عنك فيزداد لذلك قلبك سرورًا وفرحًا، وتوقن بسلامتك من النار بضعفك.
ثم توهم ضربهما بأرجلهما جوانب قبرك (٣)، وانفراجه عن الجنة بزينتها ونعيمها وقولهما لك: يا عبد الله، انظر إلى ما أعدَّ الله لك، فهذا منزلك وهذا مصيرك (٤) .
فتوهم سرور قلبك وفرحك بما عاينت من نعيم الجنان وبهجة ملكها، وعلمك أنك صائر إلى ما عاينت من نعيمها وحسن بهجتها.
وإن تكن الأخرى فتوهم خلاف ذلك كله من الانتهار لك، ومن معاينتك الجنة وقولهما لك (٥): انظر إلى ما حرمك الله ﷿، ومعاينتك النار وقولهما لك: انظر إلى ما أعدَّ الله لك، فهذا منزلك ومصيرك (٦) .
فأعظم بهذا خطرًا، وأعظم به عليك في الدنيا غمًّا وحزنًا، حتى تعلم أي الحالتين في القبر حالك، ثم الفناء والبلاء بعد ذلك، حتى تنقطع الأوصال، فتفنى عظامك، ويبلى (٧) بدنك، ولا يبلى الحزن أو الفرح من
_________
(١) قال في النهاية: التَّلدّد التلفُّت يمينًا وشمالًا تحيُّرًا مأخوذ من لَديدَي العنق وهما صفحتاه.
(٢) أَجَّتِ النار تَئِجُّ وتَؤُجُّ أَجِيجًا إِذا سمعتَ صوت لهبها، فالأَجِيجُ صوت النار. اللسان بتصرف.
(٣) قال (أ): كذا في الهامش، وفي الأصل: القبر.
(٤) أخرج مسلم (٤/٢٢٠٠) ح٢٨٧٠ من حديث أنس قال: قال نبي الله ﷺ: " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم قال: " يأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. قال فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة ". قال نبي الله ﷺ فيراهما جميعًا ".
قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعًا ويملأ عليه خضرًا إلى يوم يبعثون.
والحديث أخرجه البخاري ح ١٣٣٨، ١٣٧٤، وأبو داود ح٤٧٥١، والنسائي في المجتبى (٤/٩٧)، وفي الكبرى (١/٦٥٩) ح٢١٧٨، وأحمد (٣/١٢٦، ٢٣٣)، وابن حبان (٧/٣٩٠) ح٣١٢٠، والبيهقي (٤/٨٠) ح٧٠٠٩، وعبد بن حميد ص٣٥٦ ح١١٨٠.
(٥) أثبته (أ) من الهامش.
(٦) أخرج ابن ماجة (٢/١٤٢٦) ح٤٢٦٨ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا شبابة عن ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: " إن الميت يصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا مشعوف ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: كنت في الإسلام. فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله ﷺ جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه فيقال له: هل رأيت الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى الله. فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضًا، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله. ثم يفرج له قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له: هذا مقعدك. ويقال له: على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله.
ويجلس الرجل السوء في قبره فزعًا مشعوفًا فيقال له: فيم كنت. فيقول: لا أدري. فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولًا فقلته. فيفرج له قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضًا فيقال له: هذا مقعدك على الشك كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله تعالى.
إسناده صحيح فرجاله كلهم ثقات رجال الكتب الستة، غير أبي بكر فلم يرو عنه الترمذي، وهو من شيوخ البخاري ومسلم. وغير أن شبابة وهو ابن سوار قد نعته ابن حجر في التقريب بقوله: ثقة حافظ كان رمي بالإرجاء. وقال ابن معين: ثقة. وفي موضع آخر قال: صدوق. وقد تركه للإرجاء أحمد، وقال أبو حاتم: «لا يحتج به» . وقد تكلموا في بعض أحاديث له عن شعبة فقال ابن المديني: كان شيخًا صدوقًا إلا أنه كان يقول بالإرجاء، ولا ينكر لرجل سمع من رجل ألفًا أو ألفين أن يجيء بحديث غريب.
هذا وقد تابعه يزيد بن هارون عند أحمد (٦/١٣٩) .
فقد أخرجه أحمد (٦/١٣٩) فقال: ثنا يزيد بن هارون قال أنا ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن ذكوان عن عائشة قالت: جاءت يهودية فاستطعمت على بابي فقالت: أطعموني أعاذكم الله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر. قالت: فلم أزل أحبسها حتى جاء رسول الله ﷺ، فقلت: يا رسول الله ما تقول هذه اليهودية؟ قال: وما تقول؟ قلت: تقول: أعاذكم الله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر. قالت عائشة: فقام رسول الله ﷺ فرفع يديه مدًا يستعيذ بالله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر، ثم قال: " أما فتنة الدجال فإنه لم يكن نبي إلا قد حذر أمته وسأحذركموه تحذيرًا لم يحذره نبي أمته، إنه أعور والله ﷿ ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل مؤمن، فأما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تسألون، فإذا كان الرجل الصالح اجلس في قبر غير فزع ولا مشعوف ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: في الإسلام. فيقال: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله ﷺ جاءنا بالبينات من عند الله ﷿ فصدقناه. فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضًا، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله ﷿. ثم يفرج له فرجة إلى الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له: هذا مقعدك منها. ويقال: على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله.
وإذا كان الرجل السوء اجلس في قبره فزعًا مشعوفًا فيقال له: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري. فيقال: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولًا فقلت كما قالوا. فتفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: انظر إلى ما صرف الله ﷿ عنك ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضًا ويقال له: هذا مقعدك منها كنت على الشك وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله. ثم يعذب.
قال محمد بن عمرو: فحدثني سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: " إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، واخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح له فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقال: مرحبًا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري. ويقال بروح وريحان ورب غير غضبان. فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله ﷿.
فإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي منه ذميمة وأبشري بحميم وغساق ﴿وآخر من شكله أزواج﴾ . فما يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقال: لا مرحبًا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث أرجعي ذميمة، فإنه لا يفتح لك أبواب السماء. فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح فيقال له ويرد مثل ما في حديث عائشة سواء.
وإسناد كلا الحديثين صحيح؛ فرجالهما كلهم ثقات رجال الكتب الستة.
ولفظ: مشعوف من الشَّعَف وهو هنا بمعنى شدَّة الفَزَع حتى يذهَب بالقلب.
(٧) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [ويبلا] .
1 / 8
روحك، متطلعًا للقيام عند النشور إلى غضب الله ﷿ وعقابه، أو إلى رضا الله ﷿ وثوابه، وأنت مع توقع ذلك معروضة روحك على منزلك من الجنة أو مأواك من النار، فيا حسرات روحك وغمومها، ويا غبطتها وسرورها.
حتى إذا تكاملت عدة الموتى، وخلت من سكانها الأرض والسماء، فصاروا خامدين بعد حركاتهم، فلا حسَّ يُسمع، ولا شخص يُرى (١)، وقد بقي الجبار الأعلى (٢) كما لم يزل أزليًا واحدًا منفردًا بعظمته وجلاله، ثم لم يفجأ روحك إلا بنداء المنادي لكل الخلائق معك للعرض على الله ﷿ بالذل والصغار منك ومنهم (٣) .
فتوهم كيف وقع الصوت في مسامعك وعقلك، وتفهَّم بعقلك بأنك تُدعى (٤) إلى العرض على الملك الأعلى (٥)، فطار فؤادك وشاب رأسك للنداء، لأنها صيحة واحدة بالعرض على ذي الجلال والإكرام والعظمة والكبرياء.
فبينا أنت فزع للصوت إذ سمعت بانفراج الأرض عن رأسك، فوثبت مغبرًا من قرنك إلى قدمك بغبار قبرك، قائمًا على قدميك، شاخصًا ببصرك نحو النداء، وقد ثار الخلائق كلهم معك ثورة واحدة وهم مغبرون (٦) من غبار الأرض التي طال
_________
(١) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [يرا] .
(٢) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [الأعلا] .
(٣) قال تعالى ﴿يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسًا﴾ طه /١٠٨.
وقوله: ﴿وخشعت الأصوات للرحمن﴾ قال ابن عباس: سكنت. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني وطء الأقدام. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ﴿فلا تسمع إلا همسًا﴾ الصوت الخفي وهو رواية عن عكرمة والضحاك وقال سعيد بن جبير ﴿فلا تسمع إلا همسًا﴾ الحديث وسره، ووطء الأقدام. فقد جمع سعيد كلا القولين.
(٤) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [تدعا] .
(٥) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [الأعلا] .
(٦) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [مغبرين] .
1 / 9
فيها بلاؤهم (١) .
فتوهم ثورتهم بأجمعهم بالرعب والفزع منك ومنهم. فتوهم نفسك بعُريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وغمومك وهمومك في زحمة الخلائق، عراة حفاة، وهم صموت أجمعون بالذلة والمسكنة والمخافة والرهبة، فلا تسمع إلا همس أقدامهم والصوت لمدة المنادي، والخلائق مقبلون نحوه، وأنت فيهم مقبل نحو الصوت، ساعٍ (٢) بالخشوع والذلة. حتى إذا وافيت الموقف ازدحمت الأمم كلها من الجن والإنس عراة حفاة، قد نزع المُلك من مملوك الأرض ولزمتهم الذلة والصغار، فهم أذل أهل الجمع وأصغرهم خلقة وقدرًا بعد عتوهم وتجبُّرهم على عباد الله ﷿ في أرضه (٣) .
ثم أقبلت الوحوش من البراري (٤) وذُرى (٥) الجبال منكسة رؤوسها (٦) لذل يوم القيامة بعد توحشها وانفرادها من الخلائق، ذليلة ليوم النشور لغير بلية نابتها ولا خطية أصابتها. فتوهم إقبالها بذلها في اليوم العظيم ليوم العرض والنشور. وأقبلت السباع بعد ضراوتها وشهامتها، منكسة رؤوسها (٧) ذليلة ليوم القيامة حتى وقفت من وراء الخلائق بالذل والمسكنة والانكسار للملك الجبار. وأقبلت الشياطين بعد عتوها وتمردها خاشعة لذل العرض على الله سبحانه، فسبحان
_________
(١) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [بلاهم] .
(٢) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [ساعى] .
(٣) ﴿يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار﴾ غافر /٤٠.
(٤) قال في المختار: البَرِيَّة الصحراء، والجمع البَرَارِي.
(٥) والذُّرَى جمع ذِرْوَة، وهي أعلى سنام البعير، وذِرْوة كل شيء أعلاه.
(٦) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [روسها] .
(٧) كسابقه.
1 / 10
الذي جمعهم بعد طول البلاء، واختلاف خلقهم وطبائعهم، وتوحش بعضهم من بعض، قد أذلهم البعث وجمع بينهم النشور.
حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها وجنها وشياطينها ووحوشها وسباعها وأنعامها وهوامها، واستووا جميعًا في موقف العرض والحساب، تناثرت (١)
نجوم السماء من فوقهم، وطمست الشمس والقمر، وأظلمت الأرض بخمود سراجها وإطفاء نورها. فبينا أنت والخلائق على ذلك إذ صارت السماء الدنيا من فوقهم، فدارت بعظمها من فوق رؤوسهم (٢) وذلك بعينك تنظر إلى هول ذلك، ثم انشقت بغلظها خمسمائة عام فيا هول صوت انشقاقها في سمعك، ثم تمزقت وانفطرت بعظيم هول يوم القيامة، والملائكة قيام على أرجائها وهى حافات ما يتشقق ويتفطر، فما ظنك بهول تنشق فيه السماء بعظمها، فأذابها ربها حتى صارت كالفضة المذابة تخالطها صفرة لفزع يوم القيامة، كما قال الجليل الكبير: ﴿فكانت وردةً كالدهان﴾ (٣) و﴿يوم تكون السماء كالمهل * وتكون الجبال كالعهن﴾ (٤) .
(قال المفسرون: إن المهل هي الفضة المذابة يخالطها صفرة، وإن العهن هو الصوف المنفوش. وقوله: ﴿وردة كالدهان﴾ كلون الفرس الورد) .
فبينا ملائكة السماء الدنيا على
_________
(١) قال ابن كثير في تفسيره (٤/٤٧٦): وقوله تعالى ﴿وإذا النجوم انكدرت﴾ أي انتثرت كما قال تعالى ﴿وإذا الكواكب انتثرت﴾ وأصل الانكدار الانصباب.
وفي القرطبي (١٩/٢٤٤) طبعة الشعب: ﴿وإذا الكواكب انتثرت﴾ أي تساقطت. نثرت الشيء أنثره نثرًا فانتثر، والاسم النثار. والنثار بالضم: ما تناثر من الشيء.
(٢) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [روسهم] .
(٣) الرحمن / ٣٧.
(٤) المعارج ٨، ٩.
1 / 11
حافتها إذ انحدروا محشورين إلى الأرض للعرض والحساب، وانحدروا من حافتيها بعظم أجسامهم وأخطارهم وعلو أصواتهم بتقديس الملك الأعلى الذي أنزلهم محشورين إلى الأرض بالذلة والمسكنة للعرض عليه والسؤال بين يديه.
فتوهم تحدرهم (١) من السحاب بعظيم أخطارهم وكبير أجسامهم وهول أصواتهم وشدة فرقهم، منكسين لذل العرض على الله ﷿.
١- حدثني يحيى بن غيلان الأسلمي قال: حدثنا رشدين بن سعد [عن] (٢) أبي السمح عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ أنه قال: " لله مَلَك ما بين مواقي (٣) عينيه إلى آخر (٤) شفره (٥) مسيرة مائة عام " (٦) .
٢- حدثني يحيى بن غيلان قال: حدثنا رشدين بن سعد [عن ابن عباس ابن ميمون اللخمي] (٧) عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ أنه قال: " لله ﷿ ملك ما بين شفري عينيه مائة عام " (٨) .
فيا فزعك وقد فزع الخلائق مخافة أن يكونوا أُمروا بهم، ومسألتهم إياهم: أفيكم ربنا؟ ففزع الملائكة من سؤالهم إجلالًا لمليكهم أن يكون فيهم، فنادوا بأصواتهم تنزيهًا لما توهمه أهل الأرض: سبحان ربنا ليس هو بينا ولكنه آت من بعد، حتى أخذوا مصافهم محدقين بالخلائق منكسين رؤوسهم (٩) لذل يومهم.
فتوهمهم، وقد تسربلوا بأجنحتهم ونكسوا رؤوسهم (١٠) في عظم خلقهم بالذل والمسكنة والخشوع لربهم، ثم كل شيء على ذلك، وكذلك إلى السماء السابعة، كل أهل سماء
_________
(١) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [يحذرهم] .
(٢) يبدو أن في هذا الإسناد سقط، فإن رشدين لا يروي مباشرة عن أبي السمح فبينهما عمرو بن الحارث مثلًا.
(٣) مؤق العين وموقها ومؤقيها ومأقيها: مؤخرها، وقيل مقدمها. وقال أبو الهيثم: حرف العين الذي يلي الأنف.
(٤) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [أحر] .
(٥) الشُّفْر بالضم وقد يفتح حرف جَفْن العين الذي ينبُت عليه الشعر.
(٦) إسناده ضعيف جدًا، وذلك لشأن رشدين بن سعد، فقد ضعفه البخاري وأبو زرعة وأبو داود والدارقطني وابن سعد والفلاس وابن حجر في التقريب، وقال ابن معين: لا يكتب حديثه. وقال أيضًا: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: منكر الحديث، وفيه غفلة، ويحدث بالمناكير عن الثقات، ضعيف الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال في موضع آخر: ضعيف الحديث، لا يكتب حديثه. وقال الذهبي في الكاشف: كان صالحًا عابدًا محدثًا سيئ الحفظ. وقال ابن حبان: كان ممن يجيب في كل ما يسأل، ويقرأ كلما دفع إليه سواء كان من حديثه أم من غير حديثه فغلبت المناكير في أخباره. وقال الميموني سمعت أبا عبد الله يقول: رشدين بن سعد ليس يبالي عن من روى، لكنه رجل صالح. قال: فوثقه الهيثم بن خارجة وكان في المجلس فتبسم أبو عبد الله ثم قال: ليس به بأس في أحاديث الرقاق. وقال حرب: سألت أحمد عنه فضعفه وقدم ابن لهيعة عليه. وقال البغوي: سئل أحمد عنه فقال: أرجو أنه صالح الحديث.
وأبو السمح وهو دراج قال فيه أبو حاتم: ضعيف. وقال النسائي: منكر الحديث. وفي قول آخر قال: ليس بالقوي. وقال أحمد: أحاديثه مناكير، ولينه. وقد وثقه ابن معين واعترض على ذلك فضلك، وقال أبو داود وغيره حديثه مستقيم إلا ما كان عن أبي الهيثم. وقال في التقريب: صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعف.
ثم إن أبا قبيل وهو حيي بن هانئ قال فيه في التقريب: صدوق يهم.
هذا وقد ورد الحديث بلفظ: «إن لله ملكًا ما بين شفري عينيه مسيرة خمسمائة عام» في الأحاديث التي لا أصل لها في الإحياء ص٣٨٦، والمصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص٦٧ ط الرشد، وتذكرة الموضوعات ص١٣، واللؤلؤ المرصوع ص١١١، والإخبار بما فات من أحاديث الاعتبار ص٣٦، والأسرار المرفوعة ص٩٤.
(٧) هكذا في النسخة التي بين يدي ويبدو أن في هذا اللفظ شيء.
(٨) انظر الحديث السابق.
(٩) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [روسهم] .
(١٠) كسابقه.
1 / 12
مضعفين بالعدد، وعظم الأجسام، وكل أهل سماء محدقين بالخلائق صفًا واحدًا.
حتى إذا وافى (١) الموقف أهل السموات السبع والأرضين السبع كسيت الشمس حر عشر سنين، وأدنيت من رؤوس (٢) الخلائق قاب قوس أو قوسين، ولا ظل لأحد إلا ظل عرش رب العالمين، فمن بين مستظل بظل العرش، وبين مضحو بحر الشمس، قد صهرته بحرها، واشتد كربه وقلقه من (٣) وهجها، ثم ازدحمت الأمم وتدافعتْ، فدفع بعضُها بعضًا، وتضايقت فاختلفت الأقدام، وانقطعت الأعناق من العطش، واجتمع حر الشمس ووهج أنفاس الخلائق وتزاحم أجسامهم، ففاض العرق منهم سائلًا حتى استنقع على وجه الأرض ثم على الأبدان على قدر مراتبهم ومنازلهم عند الله ﷿ بالسعادة والشقاء، حتى إذا بلغ من بعضهم العرق كعبيه، وبعضهم حِقْويْه (٤)، وبعضهم إلى شحمة أذنيه، ومنهم من قد (٥) كاد أن يغيب في عرقه، ومن قد توسط العرق من دون ذلك منه.
٣- عن [سعيد بن عمير] (٦)
قال: جلست إلى ابن عمر وأبي سعيد الخدري، وذلك يوم الجمعة، فقال أحدهما لصاحبه: [إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: " أين يبلغ] (٧) العرق من ابن آدم يوم القيامة؟ فقال أحدهم: شحمة
_________
(١) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [وافا] .
(٢) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [روس] .
(٣) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [فوق] .
(٤) الأصل في الحَقْو مَعْقِد الإزار وجمعه أحْقٍ وأحْقاء، ثم سُمّي به الإزار للمجاورة.
(٥) قال (أ): في الهامش.
(٦) كذا في التراجم، أما في المطبوع من (التوهم) قال [عمير بن سعيد] وهو خطأ.
هذا. وسعيد بن عمير اختلف في ترجمته، فمنهم من جعله واحدًا، ومنهم من جعله غير ذلك، وإليك بعض البيان:
ابن حبان ذكر في ثقاته أربع تراجم لمن اسمه سعيد بن عمير:
ترجمة رقم (٢٩٣٩) قال: سعيد بن عمير الحارثي الأنصاري، من أهل المدينة يروي عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري، روى عنه جعفر بن عبد الله - وهو والد عبد الحميد ـ.... . وذكر في ترجمته حديثنا هذا.
ترجمة (٢٩٤٠) سعيد بن عمير بن عبيد الأنصاري يروى عن أبى برزة الأسلمي روى عنه وائل بن داود الثوري أحسبه الأول.
ترجمة (٢٩٤٢) سعيد بن عمير بن عقبة بن نيار يروى عن عمه أبى بردة بن نيار روى عنه سعيد بن سعيد الثعلبي.
ترجمة (٨١٣٨) سعيد بن عمير يروى عن نافع عن ابن عمر في عرق يوم القيامة روى عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عنه.
وهذه الترجمة الأخيرة تجاهلها أصحاب الكتب فلم يذكروها، بل لم يذكروا هذه الثلاث تراجم بل دمج البخاري هذه الثلاث إلى ترجمتين، فجعل الأولى مستقلة، وهي ترجمة الذي يروي عن ابن عمر وأبي سعيد، ويروي عنه عمرو بن عبيد الله.
وقال في الثانية: سعيد بن عمير الأنصاري روى عنه وائل بن داود. قال أبو أسامة عن سعيد بن سعيد سمع سعيد بن عمير بن عقبة بن نيار الأنصاري عن عمه أبي بردة قال النبي ﷺ: " ما من عبد من أمتي صلى عليَّ صادقًا من نفسه إلا ﷺ الله عليه عشرًا ". روى عنه وائل بن داود عن النبي ﷺ أطيب الكسب عمل الرجل بيده. وأسنده بعضهم وهو خطأ.
وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب: وقال الفسوي سعيد بن عمير الذي روى عنه وائل بن داود هو ابن أخي البراء بن عازب فكأنهما عنده واحد - يعني بين الذي يروي عنه وائل، وبين الذي يروي عنه سعيد بن سعيد ـ. ثم قال ابن حجر: وهو الأشبه. والله أعلم. ومعنى ذلك أن ابن حجر رجح ما جعله البخاري واحدًا.
وقد جعل الثلاثة ترجمة واحدة المزي في تهذيب الكمال. وكذلك رجح الأستاذ حسين سليم أسد في مسند أبي يعلى (١٠/٧٣)، وأرجح ذلك بكون الذي يروي عنه وائل بن داود من حلفاء بني حارثة، وكذا نسبه ابن حجر في اللسان.
غير أن الذي يروي عن ابن عمر ذكروا أنه من أهل المدينة، وقال الفسوي في سعيد بن عمير: وهو ابن أخي البراء بن عازب لا بأس به كوفي. كما نقل ذلك عنه الأستاذ / حسين أسد عن كتاب الفسوي المسمى بـ المعرفة والتاريخ.
(٧) كذا في المطبوع من التوهم، أما في مسند أحمد (٣/٩٠) فقال: [إني سمعت رسول الله ﷺ يذكر أنه يبلغ]، وأما في المستدرك ح٨٧٩٧ فقال: [إني سمعت النبي ﷺ يذكر مبلغ]، وأما في مسند أبي يعلى (١٠/٧٣) فقال: [سمعت رسول الله ﷺ يقول: " يبلغ]، وفي الثقات لابن حبان قال: [كيف سمعت النبي ﷺ يذكر أين يبلغ] وعلى رواية ابن حبان يكون تصحيح ما في التوهم إلى [أنَى سمعت رسول الله ﷺ يقول أين] فيكون أحدهما يسأل الآخر. هذا وفي باقي الروايات اختلاف يسير عن هذه الرواية في بقية الحديث.
1 / 13
أذنيه، وقال الآخر: يلجمه (١)، فقال ابن عمر: هكذا، وخط من فيه إلى شحمة أذنيه، فقال: ما أرى ذلك إلا سواء (٢) (٣) .
٤*- عن خيثمة عن عبد الله قال: (الأرض كلها نار يوم القيامة، والجنة من ورائها يرون كواعبها وأكوابها، والذي نفس عبد الله بيده إن الرجل ليفيض عرقًا حتى يسيح في الأرض قامته، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه، وما مسَّه الحساب) . قال: فقالوا: ممَّ ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: فقال: مما يرى الناس يلقون (٤) .
٥- عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: " إن الرجل (وقال عليٌّ مرة: إن الكافر) ليقوم يوم القيامة في بحر رَشَحه (٥) إلى أنصاف أذنيه من طول القيام " (٦) .
٦- عن عبد الله رفعه إلى النبي ﷺ: " إن الكافر يُلجم بعرقه يوم القيامة من طول ذلك اليوم ". (وقال علي: من طول القيام. قالا جميعًا:) " حتى يقول: ربِّ أرحني ولو إلى النار " (٧) .
وأنت لا محالة أحدهم.
فتوهم نفسك لكربك، وقد علاك العرق وأطبق عليك الغم، وضاقت نفسك في صدرك من شدة العرق والفزع والرعب، والناس معك منتظرون (٨) لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء.
حتى إذا بلغ المجهود منك ومن الخلائق منتهاه وطال وقوفهم لا يكلمون ولا ينظرون (٩) في أمورهم، فما ظنك بوقوفهم
_________
(١) قال في النهاية: أي يصل إلى أفواههم فيصير له بمنزلة اللِّجام يمنعهم عن الكلام يعني في المحشر يوم القيامة.
(٢) وذلك لا يكون إلا بأن ترفع الذقن لأعلى ما يكون إعلاؤها، وتخفض مؤخرة الرأس من الخلف بأن تلصق بأسفل العنق بين المنكبين، وهي حالة الذي يحاول الإنجاء بنفسه من الغرق. نسأل الله السلامة.
(٣) إسناده فيه سعيد بن عمير وثقة ابن حبان والهيثمي وأظنه تبعه في ذلك، وقال ابن حجر: مقبول، وقد تقدم الكلام فيه، وفيه عبد الحميد بن جعفر وهو صدوق ربما وهم، وهو من رجال مسلم والأربعة، وقد أخرج له البخاري تعليقًا.
والحديث أخرجه أحمد (٣/٩٠)، والحاكم في المستدرك (٤/٦١٥) ح٨٧٠٥، (٤/٦٥٠) ح٨٧٩٧، وأبو يعلى (١٠/٧٣) ح٥٧١١، وابن حبان في الثقات (٤/٢٨٧)، والهيثمي في مجمع الزوائد (١٠/٣٣٥) .
ويشهد له الحديث الذي سيأتي بعده برواية من حديث ابن عمر.
(٤) أخرج هذا القول ابن كثير في تفسيره (٢/٥٤٥)، والطبري في التفسير (١٣/٢٥١)، والطبراني في الكبير (٩/١٥٤) رواية ٨٧٧١، وهناد في الزهد (١/٢٠٠، ٢٠٤) .
(٥) بفتحتين أي عرقه، قاله ابن حجر في الفتح.
(٦) أخرجه البخاري بلفظ قريب ح ٦٥٣١ فقال بإسنادٍ له: عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي ﷺ ﴿يوم يقوم الناس لرب العالمين﴾ قال: " يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه ". وبلفظ البخاري أخرجه مسلم ح٢٨٦٢ فهو متفق عليه.
كما أخرجه بنحوه البخاري ح ٤٩٣٨، وقد أخرجه أيضًا الترمذي ح٢٤٢٢، ٣٣٣٥، ٣٣٣٦، وابن ماجة ح٤٢٧٨، وأحمد (٢/١٣، ١٩، ٦٤، ١٢٥، ١٢٦)، والنسائي في السنن الكبرى ح١١٦٥٦، ١١٦٥٧، وابن حبان ح٧٣٣٢، وعبد بن حميد ح٧٦٣، والطبري في التفسير (٣٠/٩٢، ٩٣) .
(٧) أخرجه أبو يعلى (٨/٣٩٨) ح٤٩٨٣، ومن روايته أخرجه ابن حبان (١٦/٣٣٠) ح٧٣٣٥، والهيثمي في موارد الظمأن ص٦٣٩ ح٢٥٨٢ من طريق بشر بن الوليد قال حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي ﷺ قال: " إن الكافر ليلجمه العرق يوم القيامة فيقول: أرحني ولو إلى النار ".
ومن طريق بشر بن الوليد وأبي بكر بن أبي شيبة أخرجه الطبراني في الكبير (١٠/٩٩) ح١٠٠٨٣، غير أنه قال: «رب أرحني» بدلًا من «أرحني» .
وإسناده ضعيف، وذلك لشأن أبي إسحاق، وهو السبيعي، فهو ثقة غير أنه يدلس وقد عنعن، وعلة أخرى فيه وهي الاختلاط فقد اختلط بآخرة. والراوي عنه وهو شريك روى عنه قديمًا قبل اختلاطه، غير أن شريكًا هو الآخر قد اختلط، ورواية أبي بكر بن أبي شيبة كانت بعد اختلاط شريك، وذلك لأن شريك اختلط بعد أن ولي القضاء أو قضاء الكوفة بالأخص، وكان ذلك سنة (١٥٨) أو قبلها، وسماع ابن أبي شيبة كان سنة (١٧٣)، أما سماع بشر بن الوليد من شريك فقد قال الذهبي في شأن بشر: ولد في حدود الخمسين ومائة. وذكر الخطيب وفاة بشر سنة (٢٣٨) وقال: وبلغ سبعًا وتسعين سنة. وعليه فتكون ولادته نحو سنة (١٤١) . فعلى القول الأول فيكون له نحو ثمانية أعوام عند اختلاط شريك، وعلى القول الثاني يكون له نحو سبعة عشر سنة على الأكثر عند اختلاط شريك.
وشريك، قال عنه في التقريب: صدوق يخطئ كثيرًا، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة. وقال في طبقات المدلسين: كان من الأثبات ولما ولي القضاء تغير حفظه. وقد ذكره في المرتبة الثانية وهو: من احتمل الأئمة تدليسه وأخرجوا له في الصحيح لإمامته وقلة تدليسه في جانب ما روى. وكان قديم السماع من أبى إسحاق. وقال ابن حبان في الثقات: ولي القضاء بواسط سنة ١٥٠ ثم ولي الكوفة بعد، ومات بها. وقال: وكان في آخر أمره يخطئ فيما روى تغير عليه حفظه فسماع المتقدمين منه ليس فيه تخليط وسماع المتأخرين منه بالكوفة فيه أوهام كثيرة. وقال الذهبي في التذكرة: وحديثه من أقسام الحسن.
وقد جاءت متابعة لأبي إسحاق أخرجها الطبراني في الكبير (١٠/١٠٧) ح١٠١١٢ فقد تابعه إبراهيم بن المهاجر غير أن هذا الطريق للمتابع ضعيف لشأن محمد بن إسحاق، وهو صدوق يدلس. وقد عنعن.
وإبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي أخرج له مسلم والأربعة، ولعل إخراج مسلم له في المتابعات.
قال الثوري وأحمد: لا بأس به. وقال العجلي: جائز الحديث. وقال ابن سعد: ثقة. وقال الساجي: صدوق اختلفوا فيه. وقال أبو داود: صالح الحديث.
وقال يحيى القطان: لم يكن بقوي. قال يحيى بن معين: ضعيف. وقال ابن عدي: حديثه يكتب في الضعفاء. وقال ابن حبان في الضعفاء: هو كثير الخطأ تستحب مجانبة ما انفرد من الروايات ولا يعجبني الاحتجاج بما وافق الأثبات لكثرة ما يأتي من المقلوبات. وقال النسائي في الكنى والتمييز: ليس بالقوي. وقال في موضع آخر: ليس به بأس. وقال الحاكم: قلت للدارقطني: فإبراهيم بن مهاجر؟ قال: ضعفوه تكلم فيه يحيى بن سعيد وغيره. قلت: بحجة قال: بلى حدث بأحاديث لا يتابع عليها. وقد غمزه شعبة أيضًا. وقال غيره عن الدارقطني: يعتبر به. وقال يعقوب بن سفيان: له شرف وفي حديثه لين. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي هو وحصين وعطاء بن السائب قريب بعضهم من بعض ومحلهم عندنا محل الصدق يكتب حديثهم ولا يحتج به. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: قلت لأبي: ما معنى لا يحتج بحديثهم؟ قال: كانوا قومًا لا يحفظون فيحدثون بما لا يحفظون فيغلطون ترى في أحاديثهم اضطرابًا ما شئت.
هذا. وقد جاءت هذه الرواية موقوفة عند الطبراني في الكبير (٩/١٥٥) ح٨٧٧٩ بإسناد فيه إبراهيم الهجري، وهو ابن مسلم. قال فيه البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حجر في التقريب: لين الحديث، رفع موقوفات. وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث منكر الحديث. وضعفه أبو زرعة والترمذي والنسائي وابن سعد، وقال ابن عدي في: إنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبي الأحوص عن عبد الله وعامتها مستقيمة.
هذا وقد أورده الألباني في ضعيف الجامع (٣/٤٢٩٥) .
(٨) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [منتظر] .
(٩) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [ينظروا] .
1 / 14
ثلاثمائة عام لا يأكلون فيه أكلة ولا يشربون فيه شربة، ولا يلفح وجوههم روح ولا طيب نسيم، ولا يستريحون من تعب قيامهم ونصب وقوفهم، حتى بلغ الجهد منهم ما لا طاقة لهم به.
٧**- عن قتادة أو كعب، قال: ﴿يوم يقوم الناس لرب العالمين﴾ (١) قال: (يقومون مقدار ثلاثمائة عام) .
٨**- قال: سمعت الحسن يقول: (ما ظنك بأقوام قاموا لله ﷿ على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربةً، حتى إذا انقطعت أعناقهم من العطش، واحترقت أجوافهم من الجوع، انصرف بهم إلى النار، فسُقوا من عين آنية قد آن (٢) حرُّها واشتد نفحها (٣)، فلما بلغ المجهود منهم ما لا طاقة لهم به كلم بعضهم بعضًا في طلب من يكرم على مولاه أن يشفع لهم في الراحة من مقامهم وموقفهم لينصرفوا إلى الجنة أو إلى (٤) النار من وقوفهم، ففزعوا إلى آدم ونوح ومن بعده إبراهيم، وموسى وعيسى من بعد إبراهيم، كلهم يقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، فكلهم يذكر شدة غضب ربه ﷿ وينادي بالشغل بنفسه فيقول: نفسي نفسي، فيشتغل بنفسه عن الشفاعة لهم إلى ربهم لاهتمامه بنفسه وخلاصها) . وكذلك
_________
(١) المطففين /٦.
(٢) الإنا بكسر الهمزة والقصر النُّضْج، ومنه ﴿غير ناظرين إناه﴾، وفي الطبري عن قتادة قوله ﴿تسقى من عين آنية﴾ يقول: قد أنى طبخها منذ خلق الله السموات والأرض. وفيه عن الحسن قال: أنى طبخها منذ يوم خلق الله الدنيا.
(٣) قال في النهاية: نفح الريح هبوبها، ونفح الطيب إذا فاح. قلت: فكيف بنفح نار وقودها النار والحجارة، نسأل الله الكريم لنا ولكم السلامة.
(٤) قال (أ): في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش.
1 / 15
يقول الله ﷿: ﴿يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها﴾ (١) .
فتوهم أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم، منفرد كل واحد منهم بنفسه ينادي: (نفسي نفسي)، فلا تسمع إلا قول: (نفسي نفسي) .
فيا هول ذلك وأنت تنادي معهم بالشغل بنفسك والاهتمام بخلاصها من عذاب ربك وعقابه، فما ظنك بيوم ينادي فيه المصطفى آدم (٢)، والخليل إبراهيم، والكليم موسى، والروح والكلمة عيسى مع كرامتهم على الله ﷿ وعظم قدر منازلهم عند الله ﷿، كل ينادي: (نفسي نفسي)، شفقًا من شدة غضب ربه، فأين أنت منهم في إشفاقك في ذلك اليوم واشتغالك بحزنك وبخوفك؟
حتى إذا أيس الخلائق من شفاعتهم لما رأوا (٣) من اشتغالهم بأنفسهم، أتوا النبي محمدًا (٤) ﷺ فسألوه الشفاعة إلى ربهم فأجابهم إليها، ثم قام إلى ربه ﷿ واستأذن عليه، فأذن له ثم خر لربه ﷿ ساجدًا، ثم فتح عليه من محامده والثناء عليه لما هو أهله، وذلك كله بسمعك وأسماع الخلائق، حتى أجابه ربه ﷿ إلى
_________
(١) النحل /١١١.
(٢) ﴿إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين﴾ . آل عمران /٣٣
(٣) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [روا] .
(٤) كذا أثبت (أ) من الهامش.
1 / 16
تعجيل عرضهم، والنظر في أمورهم.
فبينما أنت مع الخلائق في هول القيامة وشدة كربها منتظرًا متوقعًا لفصل القضاء والحلول في دار النعيم أو الحزن، إذ سطع نور العرش، وأشرقت الأرض بنور ربها، وأيقن قلبك بالجبار، وقد أتى لعرضك عليه حتى كأنه لا يعرض عليه أحد سواك، ولا ينظر إلا في أمرك.
٩**- عن حميد بن هلال قال: ذُكر لنا أن الرجل يُدعى (١) يوم القيامة إلى الحساب فيُقال: يا فلان ابن فلان هلمَّ إلى الحساب، حتى يقول: ما يراد أحد غيري مما يحضر به من الحساب.
ثم نادى: يا جبريل ائتني بالنار (٢) . فتوهمها وقد أتى (٣) جبريل فقال لها: يا جهنم أجيبي. فتوهم اضطرابها وارتعادها بفرقها أن يكون الله ﷿ خلق خلقًا يعذبها به، فتوهمها حين اضطربت وفارت وثارت، ونظرت إلى الخلائق من بعد مكانها، فشهقت إليهم وزفرت نحوهم، وجذبت خزانها متوثِّبةً على الخلائق غضبًا لغضب ربها على مَنْ خالف أمره وعصاه.
فتوهم صوت زفيرها وشهيقها، وترادف قصبتها، وقد امتلأ منه سمعك، وارتفع له فؤادك وطار فزعًا ورعبًا، ففر الخلائق هربًا
_________
(١) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [يدعا] .
(٢) يا حسرة على العباد إذا كان ذلك.
(٣) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [أتا] .
1 / 17
من زفيرها على وجوههم، وذلك يوم التنادي، لما سمعوا بدويِّ زفيرها ولَّوْا مدبرين، وتساقطوا على ركبهم جثاة حول جهنم فأرسلوا الدموع من أعينهم.
فتوهم اجتماع أصوات بكاء الخلائق عند زفيرها وشهيقها، وينادي الظالمون بالويل والثبور، وينادي كل مصطفى وصدِّيق ومنتخب وشهيد ومختار وجميع العوام: (نفسي نفسي) .
فتوهم أصوات الخلائق من الأنبياء فمن دون، كل عبد منهم ينادي: (نفسي نفسي)، وأنت قائلها، فبينا أنت مع الخلائق في شدة الأهوال ووجل القلوب إذ زفرت الثانية فيزداد رعبك ورعبهم وخوفك وخوفهم، ثم زفزت الثالثة فتساقط الخلائق لوجوههم (١) وتشخص بأبصارهم ينظرون من طرف خاشع خفي خوفًا أن تلفهم فتأخذهم بحريقها، وانتصفتْ عند ذلك قلوب الظالمين فبلغت لدى (٢) الحناجر كاظمين، فكظموا عليها وقد غصت في حلوقهم، وطارت الألباب، وذهلت العقول من السعداء والأشقياء أجمعين، فلا يبقى رسول ولا عبد صالح مختار إلا ذهل لذلك عقله.
فأقبل الله ﷿ عند
_________
(١) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [لوجوهم] .
(٢) قال (أ): في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش.
1 / 18
ذلك على رسله وهم أكرم الخلائق عليه وأقربهم إليه، لأنهم الدعاة إلى الله ﷿ والحجة على عباده، وهم وأقرب الخلائق إلى الله ﷿ في الموقف وأكرمهم عليه، فيسألهم عمَّا أرسلهم به إلى عباده وماذا ردّوا عليهم من الجواب فقال لهم: ﴿ماذا أجبتم﴾ (١) فردوا عليه الجواب عن عقول ذاهلة غير ذاكرة فقالوا: ﴿لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب﴾ (٢) فأعظم به من هول تبالغ من رسل الله ﷿ في قربهم منه وكرامتهم، حتى أذهل عقولهم، فلم يعلموا بماذا أجابتهم أممهم.
١٠*- عن أبي الحسن الدمشقي قال: قلت لأبي قرة الأسدي: كيف صبر قلوبهم على أهوال يوم القيامة؟ قال: إنهم إذا بُعثوا خُلقوا خلقةً يقوون عليها. قال أبو الحسن: قلت لإسحاق بن خلف: قول الله ﷿ للرسل: ﴿ماذا أُجِبْتُم قالوا لا علم لنا﴾، أليس قد علموا ما رُدّ عليهم في الدنيا؟ قال: من عِظَم هول السؤال حين يُسألون (٣) طاشت عقولهم، فلم يدروا أي شيء أجيبوا في الدنيا، فهم صادقون حتى تجلَّى (٤) عنهم بعد، فعرفوا ما أُجيبوا. قال: فحدثت به أبا سليمان فقال: صدق إسحاق، هم في ساعتهم تلك صادقون، حتى تجلَّى (٥) عنهم فعرفوا ما أُجيبوا، فقال
_________
(١) المائدة /١٠٩.
(٢) المائدة /١٠٩.
(٣) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [يسألوا] .
(٤) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [تجلا] .
(٥) كسابقه.
1 / 19
أبو سليمان: إذا سمعتَ الرجل يقول لصاحبه: بيني وبينك الصراط فاعلم أنه لا يعرف الصراط، ولو عرفه ما اشتهى (١) أن يتعلق بأحد، فلا يتعلق أحد.
١١**- عن مجاهد في قوله ﴿يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم﴾ (٢) قال: فيفزعون فيقولون: ﴿لا علم لنا﴾ (٣) .
عن مجاهد في قول الله ﷿ ﴿وترى كل أمة جاثية﴾ (٤) أي مستوفزين على الركب.
١٢- قال: سمعت عبد الله يقول: قال: رسول الله ﷺ: " كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم " (٥) .
١٣- قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله ﷺ: " من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ ﴿إذا الشمس كورت﴾ (٦) " (٧) .
١٤** - وعن عمر بن ذر قال: من غدا يلتمس الخير وجد الخير، أعليَّ تحملون جمود أعينكم وقسوة قلوبكم؟ احملوا العيَّ عليَّ إن لم أسمعكم اليوم واعظًا من كتاب الله ﷿، ثم قرأ: ﴿إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت * وإذا الجبال سيرت﴾ (٨) حتى إذا بلغ: ﴿علمت نفس ما أحضرت﴾ (٩) (أو قال: حتى ختمها)، قال: ثم قال: اسمعوا إليَّ يا عرض الدنيا، فأين أنت منهم في ذلك الموقف؟ هل تطمع أن يبلغ بك الهول ما بلغ منهم، بل أعظم مما بلغ منهم ما لا يطيقه قلبك فلا يقوم به بدنك، فهذه عقولهم
_________
(١) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [اشتها] .
(٢) المائدة /١٠٩.
(٣) المائدة /١٠٩.
(٤) الجاثية /٢٨.
(٥) أخرجه بهذا اللفظ ابن المبارك في الزهد ص١٠٥ فقال: أنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال سمعت عبد الله بن باباه يقول: قال رسول الله ﷺ: " كأني أراكم بالكوم جاثين دون جهنم ".
والحديث مرسل، فرجاله كلهم ثقات رجال الكتب الستة، غير عبد الله بن باباه فهو من رجال مسلم والأربعة، وهو ثقة من الطبقة الثالثة، كما في التقريب وهي الطبقة الوسطى من التابعين كالحسن وابن سيرين.
هذا وقد أخرجه من هذا الطريق ابن أبي حاتم كما ذكره ابن كثير في التفسير (٤/١٥٣)، وأبو نعيم في الحلية (٧/٢٩٩)، وكذا ذكره ابن حجر في الفتح فقال: وقد أخرج البيهقي في البعث من مرسل عبد الله بن باباه بسند رجاله ثقات رفعه: " كأني أراكم بالكوم جثى من دون جهنم.
(٦) التكوير /١.
(٧) والحديث بهذا اللفظ أخرجه أحمد (٢/٣٧) فقال: ثنا إبراهيم بن خالد ثنا عبد الله بن بحير عن عبد الرحمن بن يزيد - وكان من أهل صنعاء، وكان أعلم بالحلال والحرام من وهب يعني ابن منبه - قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول اللهِ ﷺ: " من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ ﴿إذا الشمس كورت﴾ .
ومن طريق أحمد أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد (٢/٤٥) .
وقد تابع إبراهيم بن خالد هشامُ بن يوسف عند الحاكم في المستدرك (٢/٥٦٠) ح٣٩٠٠.
وجاء من طريق عبد الرزاق بن همام عن عبد الله بن بحير عن عبد الرحمن بن يزيد الصنعاني قال سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله ﷺ: " من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ ﴿إذا الشمس كورت﴾ و﴿إذا السماء انفطرت﴾ و﴿إذا السماء انشقت﴾ ".
وهذا لفظ الترمذي (٥/٤٣٣) ح٣٣٣٣ وقال: حسن غريب، والحاكم (٤/٦٢٠) ح٨٧١٩، وزاد أحمد: وأحسبه أنه قال: وسورة هود. أخرجه أحمد (٢/٣٦)، وبنحوه أخرجه أحمد (٢/٢٧، ١٠٠ ولم يذكر فيه ﴿إذا السماء انشقت﴾)، والمنذري في الترغيب والترهيب (٢/٢٤٧)، وأبو نعيم في الحلية (٩/٢٣١)، وابن حجر في الفتح (٨/٥٦٤) وقال: حديث جيد. وقد صحح الحديث الألباني في صحيح الترمذي.
فكل هذه الطرق تأتي من طريق عبد الله بن بحير عن عبد الرحمن بن يزيد.
وإسناده جيد، ففيه عبد الرحمن بن يزيد اليماني أبو محمد وثقه ابن حبان، وقال ابن حجر في التقريب: صدوق. وقال الذهبي في الكاشف: وثق. وقد نعته الراوي عنه بقوله: وكان من أهل صنعاء وكان أعلم بالحلال والحرام من وهب يعني ابن منبه.
وعبد الله بن بحير وثقه ابن معين، واضطرب فيه كلام ابن حبان، كما قال ابن حجر، فقد جعل ابن حبان «عبد الله بن بحير بن ريسان»، غير «عبد الله بن بحير أبو وائل القاص الصنعاني» ووثق الأول، واتهم الثاني فقال: يروي العجائب التي كأنها معمولة لا يجوز الاحتجاج به. وقال ابن حجر في التهذيب: «قال الذهبي في التذهيب - وقرأته بخطه ـ: لم يفرق بينهما أحد قبل ابن حبان وهما واحد» . وقال ابن المديني: سمعت هشام بن يوسف - وسئل عن عبد الله بن بحير القاص - فقال: كان يتقن ما سمع. وقال الذهبي في الكاشف: وثق، وليس بذاك.
قلتُ: فلم أجد دليلًا على التفريق بينهما.
هذا. وقد أخرج الإسماعيلي في معجم شيوخه (١/٤٦٤) فقال: حدثنا محمد بن عون حدثنا عبد الواحد بن غياث حدثنا عبد العزيز بن مسلم عن الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: " من أراد أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ ﴿إذا الشمس كورت﴾ .
وإسناده ضعيف، وذلك لشأن محمد بن عون وهو السيرافي، قال عنه الإسماعيلي: وكان ينسب إلى التفسير ولم يكن في الحديث بذاك. وكذا ذكر في لسان الميزان.
(٨) التكوير /١: ٣.
(٩) التكوير /١٤.
1 / 20
ذاهلة في ذلك الموقف، فكيف بعقلك وما حلَّ بك، وأنت الخاطئ العاصي المتمادي فيما يكره ربك ﷿؟
فتوهم نفسك لذلك الخوف والفزع والرعب والغربة والتحير إذا تبرأ منك الولد والوالد والأخ والصاحب والعشائر، وفررت أنت (١) منهم أجمعين، فكيف خذلتهم وخذلوك، ولولا عظم هول ذلك اليوم ما كان من الكرم والحفاظ أن تفرَّ من أمك وأبيك وصاحبتك وبنيك وأخيك، ولكن عظم الخطر، واشتد الهول فلا تلام على فرارك منهم، ولا يلامون (٢)، ولم تخصهم بالفرار دون الأقرباء لبغضك إياهم، وكيف تبغضهم (٣) أو يبغضونك، وكيف خصصتهم بالفرار منهم، أتبغضهم (٤) وإنهم لهم الذين كانوا في الدنيا مؤانسيك وقرة عينك وراحة قلبك، ولكن خشيتَ أن يكون لأحد عندك منهم تَبِعةٌ فيتعلق بك حتى يخاصمك عند ربك ﷿، ثم لعله أن يحكم له عليك فيأخذ منك ما ترجو (٥) أن تنجو (٦) به من حسناتك فيفرقك منها فتصير بذلك إلى النار.
فبينما أنت في ذلك إذا ارتفعت عنق من النار فنطقت بلسان فصيح بمن وُكِّلتْ
_________
(١) قال (أ): في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش.
(٢) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [يلاموا] .
(٣) قال (أ): في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش.
(٤) كسابقه.
(٥) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [ترجوا] .
(٦) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [تنجوا] .
1 / 21
بأخذهم من الخلائق بغير حساب، ثم أقبل ذلك العنق فيلتقطهم لقط الطير الحب، ثم انطوت عليهم فألقتهم في النار فابتلعتهم، ثم خنست بهم في جهنم فيُفعل ذلك بهم، ثم ينادي مناد: سيعلم أهل الجمع مَنْ أولى بالكرم، ليقم الحمَّادون لله على كل حال، فيقومون فيسرحون إلى الجنة، ثم يفعل ذلك بأهل قيام الليل، ثم بمن لم يشغله تجارة الدنيا ولا بيعها عن ذكر مولاه حتى إذا دخلت هذه الفرق من أهل الجنة (١) والنار، تطايرت الكتب في الأيمان والشمائل ونصبت الموازين.
فتوهم الميزان بعظمه منصوبًا، وتوهم الكتب المتطايرة وقلبك واجف متوقِّع أين يقع كتابك في يمينك أو في شمالك.
١٥- عن الحسن أن رسول الله ﷺ كان رأسه في حجر عائشة فنعس، فتذكرتْ الآخرة فبكت، فسالت دموعها على خدِّ النبي ﷺ فاستيقظ بدموعها، فرفع رأسه فقال: " ما يبكيك يا عائشة؟ فقالت: يا رسول الله تذكرتُ الآخرة، هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال: " والذي نفسي بيده في ثلاث مواطن فإن أحدًا لا يذكر إلا نفسه: إذا وضعت الموازين ووزنت الأعمال حتى ينظر ابن آدم أيخف
_________
(١) قال (أ): في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش.
1 / 22
ميزانه أم يثقل، وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله، وعند الصراط " (١) .
١٦*- وعن أنس بن مالك قال: (يؤتى بابن آدم يوم القيامة حتى يوقف بين كفَّتي الميزان ويوكَّل به مَلكٌ، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوته يُسمع الخلائق: سعد فلان ابن فلان سعادة لا يشقى (٢) بعدها أبدًا، وإن خفَّ ميزانه نادى (٣) الملك بصوته يُسمع الخلائق: شقى فلان ابن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا) .
فبينا أنت واقف مع الخلائق إذ نظرت إلى الملك وقد أُمِرَ أن يحضر بالزبانية، فأقبلوا بأيديهم مقامع من حديد، عليهم ثياب من نار، فلما رأيتَهم فهبتَهم طار قلبك فزعًا ورعبًا، فبينا أنت كذلك إذ نودي باسمك فنوديت على رؤوس (٤) الخلائق الأولين والآخرين: أين فلان ابن فلان؟ هلمَّ إل (٥) ى العرض على الله ﷿، وقد وُكِّلَ الملائكة بأخذك حتى يقرِّبوك (٦) إلى ربك، فلم يمنعها اشتباه الأسماء باسمك أن تعرفك لما ترى بك (٧) أنك المراد بالدعاء المطلوب ـ. قال: حدثنا طلحة بن عمرو قال: قال لي عطاء بن أبي رباح: (يا طلحة، ما أكثر الأسماء على اسمك، وما أكثر الأسماء على اسمي، فإذا كان يوم القيامة قيل: يا فلان، فقام الذي يُعنى لا يقوم غيره لما لزم
_________
(١) إسناده ضعيف. وذلك لأن رواية الحسن عن النبي ﷺ مرسلة، فقد ولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر.
هذا وقد جاء الحديث مرسلًا عن النبي ﷺ في أبي داود (٤/٢٤٠) ح٤٧٥٥، وأحمد (٦/١٠١)، ومسند إسحاق بن راهويه (٣/٧٤٠) ح١٣٤٩.
وجاء من رواية الحسن عن أم المؤمنين عائشة مرفوعًا عند الحاكم (٤/٦٢٢) ح٨٧٢٢.
وفي شأن رواية الحسن عن عائشة.
قال الحاكم عقب هذا الحديث: حديث صحيح، إسناده على شرط الشيخين لولا إرسال فيه بين الحسن وعائشة على أنه قد صحت الروايات أن الحسن كان يدخل وهو صبي منزل عائشة رضي الله تعالى عنها وأم سلمة.
وقال المزي في تهذيب الكمال: رأى علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله وعائشة ولم يصح له سماع من أحد منهم.
وفي تهذيب التهذيب: وقال ابن المديني: مرسلات الحسن إذا رواها عنه الثقات صحاح ما أقل ما يسقط منها.
وقال أبو زرعة: كل شيء يقول الحسن: «قال رسول الله ﷺ» وجدت له أصلًا ثابتًاَ ما خلا أربعة أحاديث.
وقال ابن سعد: وكان ما أسند من حديثه وروى عمن سمع منه فهو حجة، وما أرسل فليس بحجة.
وقال ابن حبان في (الثقات): احتلم سنة ٣٧، وأدرك بعض صفين ورأى مائة وعشرين صحابيًا وكان يدلس. وقال سبط ابن العجمي: من المشهورين بالتدليس. وفي التقريب قال: ثقة فقيه فاضل مشهور، وكان يرسل كثيرًا ويدلس. مات سنة عشر ومائة وقد قارب التسعين.
وفي طبقات المدلسين لابن حجر قال: ويرسل كثيرًا عن كل أحد، وصفه بتدليس الإسناد النسائي وغيره.
وقال الذهبي في التذكرة (١/٧١): وهو مدلس فلا يحتج بقوله «عن» في من لم يدركه، وقد يدلس عمن لقيه ويسقط من بينه وبينه والله أعلم. ولكنه حافظ علامة من بحور العلم فقيه النفس كبير الشأن عديم النظير مليح التذكير بليغ الموعظة رأس في أنواع الخير.
وفي لسان الميزان قال: الإمام الحجة مدلس.
هذا وقد جاء عن عائشة من غير طريق الحسن كما أخرجه أحمد (٦/١١٠)، فقد أخرجه من طريق ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران.
وإسناده ضعيف، لشأن ابن لهيعة، فقد ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة وابن معين وابن سعد، وتركه ابن مهدي ويحيى بن سعيد ووكيع. وقال الذهبي في الكاشف: «العمل على تضعيف حديثه» . وفي التقريب قال: «صدوق من السابعة، خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما، وله في مسلم بعض شيء مقرون» .
وقد ذكره بالتدليس: ابن حبان وسبط ابن العجمي، وابن حجر في طبقات المدلسين. وهنا قد عنعن الحديث.
ورماه بالاختلاط كل من: أبو جعفر الطبري، وابن سعد، وابن حبان، والذهبي في التذكرة، وابن حجر في التقريب، وفي طبقات المدلسين فقال: اختلط في آخر عمره وكثر عنه المناكير في روايته.
وقال أحمد: ما حديث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيرًا مما أكتب لأعتبر به ويقوي بعضه بعضًا. وقال الذهبي: «يروى حديثه في المتابعات ولا يحتج به» .
وجاء الحديث من غير طريق عائشة ﵂، فقد جاء من حديث أبي أمامة كما أخرجه الطبراني في الكبير (٨/٢٢٥) ح٧٨٩٠ من طريق عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة.
وإسناده ضعيف، فعثمان بن أبي العاتكة قال عنه في التقريب: صدوق، ضعفوه في روايته عن علي بن يزيد. وعلي بن يزيد قال عنه في التقريب: ضعيف. وقال البخاري: منكر الحديث ضعيف. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث أحاديثه منكرة. قال يحيى بن معين: علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة ضعاف كلها. وقال أبو حاتم عنها: ليست بالقوية هي ضعاف.
(٢) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [يشقا] .
(٣) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [نادا] .
(٤) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [روس] .
(٥) قال (أ): في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش.
(٦) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [يقربونك] .
(٧) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في أصله [يرابك] .
1 / 23