بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وتمم بالخير
الحمد لله المنعم الذي له نعم أبت أوضاحها إلا امتدادًا، وأمدادها إلا ازديادًا، يفوح عرف عرفانه في آفاق القلوب، ويمحو غفرانه من دفاتر الأعمال رقوم الذنوب، اللطيف الذي له ألطاف لا يدرك كنهها رائد الفكر، ولا يتسع لها نطاق التعداد والحصر، الوهاب الذي له مواهب لا مطمع للحمد في جزائها، ولا قيام للشكر بازائها.
والصلاة على محمد الذي أزاهير رياض نبوته مونقة، ومجاري أنهار شريعته مغدقة، (من) نشأت من آفاق رسالته سحابة عيمها نعمة سابغة وغيثها حكمة بالغة.
ثم السلام على أصحابه وخلفائه الراشدين من بعده، فإن كل خير وبركة ونجاة عندهم وعندنا من عنده.
قال الشيخ الإمام ظهير الدين أبو الحسن بن الإمام أبي القاسم البيهقي: كنت أبسم في تصانيفي عن ثغر الإفادة وأشيم بوارقها. وأتأمل التصانيف المتقدمة وأتبعها لواحقها، وأظن أنه تتهلل لي وجوه من الذكر الجميل، وجدتها في مدة حياتي عابسة، وتورق لي غصون من لسان صدق في العالمين بعدما صادفتها يابسة. وعسى الأيام أن يرجعن قومًا، وأن ترجع إلي الحبيب يومًا، ويساعدنا زمان ألذ من خلسات العيون وأحلى من فترات الجفون، وليت شعري هل عشيات الحمى برواجع، أم نجوم المنى بطوالع، والله ولي التوفيق، ومعين أهل التحقيق.
وهاءنذا ناسج في تصنيفي هذا على منوال مصنف كتاب صوان الحكمة، وهو أبو سليمان محمد بن طاهر بن بهرام السجزي، مشيد بمالهم من حرمة، وذاكر من تواريخ الحكماء وفوائدهم ما قرب غروب نجومه في مغارب النسيان، وأدرجه الدهر تحت طي الحدثان والله المستعان.
وكل من ذكره وأثبت اسمه مصنف كتاب صوان الحكمة، فأنا ما سقيت شماريخه، وما ذكرت فوائده وتواريخه، فإنه أنصف في ذكرهم، وبالغ في حقهم، ونشر أردية جلهم ودقهم.
حنين بن اسحق المترجم
كان أول من فسر اللغة اليونانية، ونقلها إلى السريانية والعربية، ولم توجد هذه الأزمنة بعد الإسكندر أعلم منه باللغة العربية واليونانية.
وكان حنين في عهد المأمون والمعتصم، وكان بغدادي المولد، وقد نشأ بالشام وتعلم بها.
وكان يدخل بيعة النصارى، ويتعبد على قوانين شريعة عيسى ﵇، فرأى يومًا في بيعة صورة عيسى فتفل فيها، وقال: هذه بدعة لا يجوزها الشرع والعقل، وكيف يجوز نصب الصور في مواضع يعبد فيها الله تعالى، الذي هو منزه عن الصورة والهيئة، فحبسه الجاثليق مدة في داره.
فصنف في مدة حبسه المسائل المنسوبة إليه في الطب، وفسر كتب أرسطو وأفلاطون.
ثم اعتذر الجاثليق فما قبل عذره، وما عاد إلى البيعة واشتغل بنشر العلوم.
قال حنين: من ترك إلا كل من السكر، والتمتع في الحمام، وإدخال الطعام على الطعام فقد استغنى عن الطبيب.
وقال: لا تتعجب من موت الحيوان فإن طعامه وشرابه سبب هلاكه (وقال: كل زمان يلائم علمًا وعادة وصنفًا من الإنسان) وقال: من شرب على الريق، وجامع على الجوع، فقد جر الموت إلى نفسه بحبل.
وقال: من وضع علمًا وصناعة كان كمن بنى دارًا، ومن شرح وفسر ذلك الأصل كان كمن طين سطحها وجصصها، وليس من جصص دارًا وكنسها كمن بناها.
وقال: ما خاف شقاوة الدنيا، من اكتسب سعادة العقبى.
اسحق بن حنين بن اسحق
كان من ندماء المكتفي بالله، وقد دعاه يومًا ليختار طالعًا حتى يجعل فيه ابنه ولي العهد، ومعه الوزير العباس بن الحسن فقال لهما: بايعا أولًا، فبايعا ولده الطفل، فقال له اسحق بن حنين: يا أمير المؤمنين، قد بايعنا ولدك الطفل، ولكن الطفل ناقص لا يتم أمره ولا يصلح للخلافة وأشار إلى الوزير العباس بن الحسن وقال: تأملت طالع المكتفي بالله فوجدت صاحب عاشره في ثالث طالعه، فعلمت أن الأمر بعده لأخيه وكان الأمر كما قال، وجلس بعده أخوه المقتدر بالله.
ولإسحق تصانيف كثيرة، وكان الغالب عليه علم الأحكام والطب ومن كلماته أنه قال يومًا للوزير العباس بن الحسن: أيها الوزير إن من تصدى لحفظ مصالح الناس ذكرته الألسن بالمدح والذم، فاجتهد أن تكون ممدوحًا في ذاتك " لا بحسب " أغراض الناس.
وقال للمكتفي، وقد قرب أجله: يا أمير المؤمنين، قرب منك ما كنت بعده عن نفسك، فلا تلتفت إلى ما بعد عنك، ولا يعود إليك، واشتغل بما قرب منك ولا يفارقك.
1 / 1
واسحق بن حنين كان من جلة المسلمين، وقد حسن إسلامه، وأشركه المكتفي في بيعة ابنه مع وزيره العباس بن الحسن.
حبيش الطبيب
وحبيش كان من الأطباء المتقدمين والمهندسين. وله تصانيف كثيرة في الطب، وكان مصيبًا في المعالجات.
ومما حكي عنه قوله: الكذب رأس كل بلية من ترك الحقد أدرك معالي الأمور قد يكون القريب بعيدًا بعداوته، والبعيد قريبًا بمودته من كرمت نفسه، لم يكن إلا بالحكمة أنسه.
العافية نظام كل مأمول.
ثابت بن قرة الحراني
كان حكيمًا كاملًا في أجزاء علوم الحكمة. وقيل إنه كان من الصابئين وهو جد محمد بن جابر بن سنان صاحب الرصد. وكان المعتضد بكرمه، ومن إكرامه له أن المعتضد طاف معه في بستان له. ويده على يد ثابت (فانتزع بغتة يده من يد ثابت ففزع من ذلك فقال له المعتضد: يا ثابت، أخطأت حين وضعت يدي على يدك وسهوت، فإن العلم يعلو ولا يعلى فهذه غاية إكرامه في بابه.
ومما نقل عنه: ليس شيء أضر بالشيخ من أن يكون له طباخ حاذق وامرأة حسناء. لأنه يستكثر من الطعام فيسقم، ومن النكاح فيهرم.
وقال لما ارتبطه بجكم الما كاني حاجتي إلى الأمير أن يعينني على حفظ صحته بشيئين وهما ترك الأكل على السكر، والتمتع في الحمام. وكتاب الذخيرة من تصنيفه كتاب نادر في الطب.
محمد بن زكريا الرازي المتطبب
كان محمد بن زكريا الرازي في بدء أمره صائغًا، ثم اشتغل بعلم الإكسير، فرمدت عيناه بسبب أبخرة العقاقير المستعملة في الإكسير، فذهب إلى طبيب ليعالجه، فقال له الطبيب: لا أعالجك حتى آخذ منك خمسمائة دينار. فدفع ابن زكريا الدنانير إلى الطبيب وقال: هذا هو الكيمياء لا ما اشتغلت به.
فترك صناعة إلا كسير واشتغل بعلم الطب، حتى نسخت تصانيفه تصانيف من قبله من الأطباء المتقدمين.
وقال أبو علي بن سينا في حقه: هو المتكلم الفضولي الذي من شأنه النظر في الأبوال والبرازات. وقد صدق لأنه بلغ الغاية في المعالجات الطبية وتكلم بالعوراء والخبائث فيما سوى ذلك.
ومما نقل عنه: الطب حفظ الصحة، ومرمة العلة وقال: السموم ثلاثة: أكل الشواء المغموم، واللبن الفاسد، والسمك المنتن.
علي بن ربن الطبري
كان من كتاب مدينة مرو وله همة رفيعة، وعلم بالإنجيل والطب. وتفسير ربن العلم العظيم وابنه كان حكيمًا كاملًا، يعرف ذلك من كتابه المعنون بفردوس الحكمة، وبه تصانيف كثيرة، أكثرها في الطب. ومما نقل عنه: السلامة غاية كل سؤال.
طول التجارب زيادة في العقل التكلف يورث الخسارة شر القول ما نقض بعضه بعضًا.
إسحاق بن سليمان
قال: من تناول الطين تسدر العين، ويصفر اللون، ويبخر الفم، وتحفر الأسنان وقال: عجبت لمن اقتصد في أكل الخبز الحنطي، واللحم الحولي، واحترز من الهواء الوبي، والماء الردي، كيف يمرض.
أبو الحسن البسطامي
قال: الأكل على الشبع داء، والشرب على الجوع ردى وقال: راحة الجسم في قلة الطعام وراحة الروح في قلة الكلام، وراحة العقل في قلة الاهتمام.
وقال: اجتنب ثلاثة وعليك بأربعة، ولا حاجة لك إلى الطبيب: اجتنب الغبار والنتن والدخان، وعليك بالحلو والدسم والحمام والطيب مع الاقتصاد.
وقال: عمى العقل داء لا دواء له.
اسحق بن قريش
قال: لا سواء أكل يوم يمنعك أكل حول، وصبر يوم يسوق إليك أكل حول.
وقال: خير الطعام أنظفه وأخفه وأمرؤه.
أبو زكار النيسابوري
كان حاذقًا عالمًا بأجزاء العلوم الحكمية، وصنف كتابًا وسماه " المبتدى والمنتهى " وفيه فوائد كثيرة. وقال: إن للنصارى شياطين يدعونهم إلى تناول لحم الخنزير وللمسلمين شياطين يدعونهم إلى شرب الخمر، وأكل الجبن اليابس، والقديد والكواميخ.
أبو الحسن الصميري
كان حكيمًا معروفًا في زمانه قال: الحمية في العلة هي الزمام لاقتياد الصحة.
قال: من أثنى على نفسه فقد أظهر حمقه.
وقال: بالبر تذهب الوحشة.
أبو الحسن بن تكين البغدادي الضرير
1 / 2
قاد الحكمة بزمامها، وكان مكفوفًا يقوده تلميذه إلى ديار المرضى. وكان أبو الخير يهجنه في كتاب امتحان الأطباء. وقال: من قاد أعمى شهرًا، يعني ذلك الطبيب، تطبب وعالج وأهلك الناس. وقال ابن تكين: إن الحمية في النهاية ليست بمحمودة، والطرفان من الإجحاف والإسراف مذمومان، والواسطة أسلم.
الحكيم أبو الخير الحسن بن بابا
بن سوار بن بهنام كان بغدادي المولد وقد حمل إلى خوارزم ثم لما استولى السلطان محمود بن سبكتكين على خوارزم حمله إلى غزنة، وعرض عليه الإسلام فأبى، وعمره جاوز المائة.
فمر يومًا بمكتب فيه معلم حسن الصوت يقرأ سورة ألم أحسب الناس. فوقف وبكى ساعة ومر، فرأى في هذه الليلة في منامه النبي ﵇ وهو يقول له: يا أبا الخير مثلك مع كمال علمك يقبح أن تنكر نبوتي. فأسلم أبو الخير في منامه على يد رسول الله.
فلما انتبه من منامه أظهر الإسلام، وتعلم الفقه على كبر سنه، وحفظ القرآن، وحسن إسلامه.
وقد حكم له أبو الريحان المنجم بنكبة قاطعة، فدعاه السلطان محمود يومًا، لعارض عرض له، وبعث إليه مر كوبه، فمر على سوق الخفافين فنفرت دابته، وأهلكت أبا الخير. وتمام قصته وقصة ابنه أبي علي ابن أبي الخير مذكور في تاريخ آل سبكتكين. وقد صنف ذلك التاريخ أبو الفضل محمد ابن الحسن البيهقي الكتب.
وقال أبو علي ابن سينا في بعض كتبه: فأما أبو الخير فليس من عداد هؤلاء ولعل الله يرزقنا لقاءه فيكون إما إفادة وإما استفادة.
وبعض الناسخين يكتب فأما أبو نصر وهذا غلط عظيم، لأن أبا نصر الفارابي مات قبل ولادة أبي علي بثلاثين سنة.
وقد أفرد السلطان محمود للحكيم أبي الخير ناحية يقال ناحية خمار، ونسب أبو الخير إلى تلك الناحية وقيل له أبو الخير خمار، تمييزًا بينه وبين أبي الخير صاحب البريد بقصدار وقدسها من قال هو أبو الخير الخمار. وله تصانيف كثيرة في أجزاء العلوم الحكمية ورأيت له (رسالة) إلى الوزير الأمين أبي سعيد فيها كلمات نافعة شافية.
وقيل لأبي الخير بقراط الثاني وحق له ذلك فإن النبي ﵇ سماه في منامه عالمًا.
وسئل أبو الخير حين كان نصرانيًا عما يأكل ويشرب كل (يوم) فقال: المدققة والمرققة والملبقة والمروقة.
وله تصانيف لطيفة في تدبير المشايخ عجيب جدًا. ومما نقل عنه: أحسن القول ما وافق الحق.
من طلب ما في أيدي الناس حقروه ومن صنع خيرًا أو شرًا فبنفسه ابتدأ.
المتمسك بالغرور كالمقتبس من ضوء البرق الخاطف.
الحكيم متى بن يونس المترجم
كان حكيمًا نصرانيًا شرح كتب أرسطو وله تصانيف في المنطق وغير ذلك.
ومما نقل عنه أنه قال: السعادة ثلاثة نفسانية وبدنية وخارجية، فالنفسانية هي العلوم الحقيقية ويتبعها الأخلاق المحمودة والفضائل والسيرة الحسنة والبدنية كمال الأعضاء (المتشابهة الأجزاء والأعضاء) الآلية وجودة التأليف والتركيب والخارجية حسن اكتساب الدنيا وتحصيلها (من) وجوهها وإنفاقها في وجوهها على ما يوجبه العقل والدين ولا تجتمع تلك السعادات لأحد إلا في النوادر.
يحيى بن منصور المنجم
هو صاحب الرصد في أيام المأمون، وكان متبحرًا في علوم الهندسة قال إذا غلبت القوة الغضبية والشهوانية العقل لا يرى المرء الصحة غلا صحة جسده ولا العلم إلا ما استطال به ولا الأمن إلا في قهر الناس ولا الغنى إلا مكسبة المال وكل ذلك مخالف للقصد مقرب من الهلاك.
محمد بن جابر الحراني البتاني
هو محمد بن جابر بن سنان بن ثابت بن قرة الحراني صاحب الرصد المشهور بعد أيام المأمون وكان حكيمًا عارفًا بتفاصيل أجزاء علوم الحكمة وقد أنفق أموالًا في الرصد وبتان قرية في حدود حران، وإليها ينسب محمد بن جابر.
ومما نقل عنه كدورة العمر في جار السوء والولد العاق والمرأة السيئة الأخلاق.
وقال: ثلاثة أشياء لا يستقل قليلها: الدين والعداوى والمرض.
الشيخ أبو نصر الفارابي
هو محمد بن محمد بن طرخان من فاراب تركستان، وهو الملقب المعلم الثاني ولم يكن قبله أفضل منه في حكماء الإسلام. وقيل الحكماء أربعة اثنان قبل الإسلام وهما أرسطو (وأبو قراط) واثنان في الإسلام وهما أبو نصر وأبو علي وكان بين وفاة أبي نصر وولادة أبي علي ثلاثون سنة وكان أبو علي تلميذًا لتصانيفه.
1 / 3
وقال أبو علي أييست من معرفة غرض ما بعد الطبيعة حتى ظفرت بكتاب لأبي نصر في هذا المعنى، فشكرت الله تعالى على ذلك، وصمت وتصدقت بما كان عندي.
وله تصانيف كثيرة أكثرها موجود بالشام وما يوجد منها بخراسان المختصر الأوسط في المنطق والمختصر الموجز وكتاب البرهان وجوامع كتب المنطق وآراء المدينة الفاضلة والتعليقات وشرح كتب أرسطو وشرح اوقليدس في الموسيقى أربع مجلدات وكتاب النفس وكتاب التفسرة وطماناوس ورسائل كثيرة.
وقد رأيت في خزانة كتب نقيب النقباء بالري من تصانيفه ما لم يقرع سمعي اسمه وأكثر ما رأيته كان بخطه وخط تلميذه أبي زكريا يحيى بن عدي.
ورأيت في كتاب أخلاق الحكماء أن الصاحب الجليل كافي الكفاة إسماعيل بن عباد بن عباس بعث إلى أبي نصر هدايا وصلات واستحضره واشتاق إلى ارتباطه وأبو نصر يتعفف وينقبض ولا يقبل منه شيئًا حتى ضرب الدهر ضرباته ووصل أبو نصر إلى الري وعليه قباء زري وسخ وقلنسوة بلقاء.
وكان أثط قصيرًا على هيئة بعض الأتراك وكان الصاحب يقول من أرشدني إلى أبي نصر أودعاه إلي أعطيته مالًا أغناه فانتهز أبو النصر الفرصة حتى دخل مجلس الصاحب متنكراُ وكان المجلس غاصًا بالندامى والظرفاء وأرباب اللهو فأضافوا الجرم إلى البواب ورموا إليه أسهم العتاب واستهزأ بأبي نصر كل من كان في ذلك المجلس، وهو يحتمل أذى الإيذاء ويغضي على قذى الإستهزاء حي اطمأنت أنفسهم بمجالسته وأنساهم الشراب ذكره ودارت الكؤوس ومالت الرؤوس وطربت النفوس وحمل أبو نصر مزهرًا واستخرج لحنًا مع وزن نوم المستمعين وصار كل واحد منهم كالذي يغشى عليه من الموت وقيل كانت معه آلة أعدها لهذا الشأن وكتب على البربط قد حضر أبو نصر الفارابي واستهزأتم به فنومكم وغاب. ثم خرج من الري متنكرًا مع رفقة، متوجهًا تلقاء بغداد، فلما أفاق الصاحب وندماؤه تعجبوا من حذقه في صناعة الموسيقى، وتأسفوا على فوات منادمته. ثم قال الصاحب: أديروا الكؤوس على اسمه لعل الزمان يرده علينا.
فلما حمل المطرب العود قال: أيها الصاحب قد كتب ذلك (الرجل) شيئا على مزهري، فلما نظرا إليه الصاحب وعرف انه أبو صر شق جيبه واستغاث، وجهز أعوانه في طلبه، فكان كالقارظ العنزي، فلم يجدله أثرًا، ولم يسمع عنه خبرا، وبقي بقية عمره متأسفا على فوات منادمته، والفعلة عن معرفته عن مشاهدته، وأين من المشتاق عنقاء مغرب وقد سمعت أستاذي ﵀ (يقول) أن أبا نصر كان يرتحل من دمشق إلى عسقلان فاستغفله جماعة من اللصوص الذين يقال لهم الفتيان فقال لهم أبو: خذوا ما معي من الدولاب والأسلحة والثياب (وخلوا) سبيلي فأبوا ذلك وهموا بقتله. فلما صار أبو مضطرا ترجل وحارب حتى قتل مع من معه، ووقعت هذه المصيبة في أفئدة أمراء الشام (أسوأ) وقع فطلبوا اللصوص ودفنوا أبا نصر، وصلبوهم على جذوع عند قبره.
وبعض من لم يكن له معرفة بالتواريخ يحكي أن أبا نصر قد عراه الماليخوليا، ومرعلى شط دجلة برجل يبيع التمر فقال له: كيف تبيع التمر فأجاب الرجل بكلام غير ملائم، فضربه أبو نصر وقال: أسألك عن الكيف وأنت عن الكم، وهذا أبو نصر الطبيب السمر قندي لا أبو نصر الفارابي، والله تعالى أعلم.
وقال الحكيم أبو نصر الفارابي: ينبغي لمن أراد الشروع في علم الحكمة أن يكون شابًا، صحيح المزاج، متأدبا بآداب الأخيار، قد تعلم القرآن واللغة وعلم الشرع أولا، ويكون صينا عفيفا متحرجا صدوقا، معرضا عن الفسق والفجور والغدر والخيانة، والمكر والحيلة، ويكون فارغ البال عن مصالح معاشه، ويكون مقبلا على أداء الوظائف، غير مخل بركن من أركان الشريعة، بل غير مخل بآداب من اداب السنة، ويكون معظما للعلم والعلماء ولم يكن عنده شئ قدر إلا للعلم وأهله، ولا يتخذ علمه من جملة الحرف والمكاسب، وآلة لكسب الأموال، ومن كان بخلاف فهو حكيم زور ونبهرج فكما أن الزور لا يعد من الكلام الرصين، ولا النبهرج من النقود، فكذلك من كانت أخلاقه خلاف ما ذكرنا لا يعد من جملة الحكماء وقال: من لا يهذب علمه أخلاقه في الدنيا لا تسعد نفسه في الآخرة.
وقال: تمام السعادة بمكارم الأخلاق كما أن تمام الشجرة بالثمرة.
وقال: من رفع نفسه فوق قدرها، صارت نفسه محجوبة عن نيل كمالها
فصل إخوان الصفا
1 / 4
وأما أبو سليمان محمد بن معشر البستي ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني وأبو أحمد النهرجوري، والعوقي، وزيد بن رفاعه، فهم حكماء اجمتمعوا وصنفوا رسائل إخوان الصفا. وألفاظ هذا الكتاب للمقدسي.
ومن حكمهم: مثل السلطان كمثل المطر،فما ظنك به إذا كان عادلا.
الهوى آفة العفاف، واللجاج آفة الرأي المدن تبنى على الماء والمرعى والمحتطب المرأة (تفسد المرأة) كما أن الأفعى تأخذ السم من الأفعى الدنيا سوق المسافر الرماد دخان كثيف والدخان رماد لطيف.
من أماتته حياته، أحيته وفاته.القناعة عز المعسر.
الحكيم أبو عبد الله الناتلي
كان حكيمًا عالمًا متخلقًا بأخلاق جميلة وكان أبو علي يقول قد ارتبطه والدي وكنت استفدت منه قوانين المنطق وانتهيت إلى غوامض يتعجب الناتلي منها فلما انتهيت في تعلم الرياضيات إلى المعطيات والمخروطات.
قال لي الناتلي: استخرج هذه الأشكال من ظنك ثم أعرضها علي وكان يستفيد بسبب هذه الواسطة مني.
وقد رأيت للناتلي رسالة في (واجب) الوجود وشرح اسمه وهذه الرسالة دالة على أنه كان مبرزًا في هذه الصناعة بالغًا الغاية القصوى في علم الإلهيات.
ورأيت له أيضا رسالة في علم الإكسير وابو علي لا يذكره في مصنفاته إلا في كتاب المقضيات (السبعة) .
قال أبو عبد الله الناتلي: عليك بالبحث عن جواهر النفس الشريفة وقال: النفس القديسة لا تنفع بالقياس الجدلي والخطابي.
وقال: لا تدخر ما تخاف فقده.
وقال: العارف لا يختار عرفان الحق على الحق.
وقال: الحق يطلب لذاته، والخير يطلب لأجل العمل به.
وقبل: إذا اشتبه عليك فلا أمران تدري في أيما الصواب فانظر أقربهما إلى هواك فاجتنبه.
والله أعلم.
يحيى النحوي الملقب بالطريق
والمنسوب إلى الديلم كان يحيى الديلمي من قدماء الحكماء وكان نصرانيا فيلسوفا فأراد عامل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁ إزعاجه عن فارس وتخريب ديره، فكتب يحيى قصته إلى أمير المؤمنين وطلب منه الأمان فكتب محمد بن الحنفية له كتاب الامان بامر امير المؤمنين. وقد رايت نسخة هذا الكتاب في يدي الحكيم أبي الفتوح المستوفى النصراني الطوسي. وكان أبو الفتوح طبيبا حاذقًا، ماهرًا في صناعة الاستيفاء وكان توقيع امير المؤمنين عليه بخطه عليه " الله الملك وعلي عبده ".
إما كتاب يحيى النحوي فظاهره سديد، وباطنه ضعيف. وفي الوقوف على تلك الشكوك والتوصل إلى حلها قوة للنفس، وغزارة للعلم، وتلك الشكوك ليس مما يفطن لعقدها الرشميون ممن نعلمه.
فان انحلالها مبنية على فروع (و) أصول من كتاب السماع الطبيعي.
ويحيى النحوي البطريق هو الذي صنف كتبا ورد وفيها على أفلاطون وأرسطو حين همت النصارى بقتله، وقال في شأنه أبو علي هو يحيى النوي المموه على النصارى، وأكثر ما أورده الإمام حجة الإسلام الغزالي ﵀ في تهافت الفلاسفة تقرير كلام يحيى النحوي.
(ومن كلامه) يجب التعب والكد في طلب العلوم، وتحقيق ماهيات الأشياء، والاحتياط في النقل والبحث عن المنقولات.
وله تصانيف كثيرة، منه أخذ الطلب خالد بن يزيد بن معاوية.
قال يحيى: ليس منا من لم يعمل في صدره نهاره لدنياه وفي آخره لعقباه وقال: أقبح الأشياء بالسلطان اللجاج، وبالمقاتلة الجبن، وبالأغنياء البخل، وبالفقراء الكبر، وبالشيوخ المزاح، وبالشباب الكسل، وبجماعة الناس التباغض والتحاسد.
وقال: الفقر الموت الأكبر.
وقال: كل من الطعام ما اشتهيت، والبس ما تشتهيه الناس.
وقال: من عرف فضل من هو فوقه عرف فضله من هو دونه.
يعقوب بن اسحق الكندي
كان مهندسا خائضا غمرات العلم، وله تصانيف كثيرة، وقد جمع في بعض تصانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات واختلفوا في ملته فقال قوم: (كان) يهوديًا ثم أسلم، وقال بعضهم كان نصرانيًا.
وإنا ما حصلت علم المناظر، وما تخيلت أشكال ذلك العلم إلا من تصنيفه الذي هو نادر في ذلك الفن. وقد ارتبطه المعتصم. (وكان أستاذ ولده أحمد بن المعتصم وله رسائل إلى أحمد بن المعتصم) .
قال يعقوب: اعتزل الشر فإن الشر للشرير خلق.
وقال: من لم ينبسط بحديثك فارفع عنه مؤونة الاستماع منك
1 / 5
وقال: اعص الهوى وأطع من شئت، ولا تغتر بمال وإن كثر، ولا تطلب حاجة إلى كذوب، فإنه يبعدها وهي قريبة، ولا (إلى) جاهل فإنه يجعل حاجتك وقاية لحاجته.
وقال: لا تنجو مما تكره حتى تمتنع عن كثير مما تحب وتريد.
أبو زيد البلخي
كان من حكماء الإسلام وفصحائه وبلغائه وله تصانيف كثيرة في كل فن، منها كتاب الأمد الأقصى وكتاب بيان وجوه الحكمة في الأوامر والنواهي الشرعية وسماه كتاب الإبانة عن علل الديانة وكتاب في الأخلاق وكتب أخر.
قال: للصدق أصل وفرع ونبات (من أ) كل من ثماره وجد حلاوة طعمه، والكذب عقيم لا أصل له ولا ثمرة فاحذره.
وقال: إذا كثر الخزان للأسرار زادت ضياعًا.
وقال: من طلب لسره حافظًا أفشاه.
وقال: لا بد من الموت فلا تخف، وإن كنت تخاف مما بعد الموت فأصلح شأنك قبل موتك وخف سيئاتك لا موتك.
وقال لطباخ سيء الطبخ ما أكيسه يصير الطعام قبل لا كل والهضم برازًا، وقال يومًا لطبيب جاهل: عالج نفسك أولًا ثم شخص غيرك ثانيًا وقال إذا مدحك واحد بما ليس فيك فلا تأمن أن يذمك أيضًا بما ليس فيك.
وقال: الشريعة الفلسفة الكبرى، ولا يكون الرجل متفلسفًا حتى يكون متعبدًا مواظبًا على أداء أوامر الشرع.
وقال: من سره ما ليس فيه من الفضائل ساءه ما فيه من الرذائل.
وقال: الدواء الأكبر هو العلم.
الفيلسوف أبو الفرج بن الطيب الجاثليق
كان الشيخ أبو علي يذمه ويهجن تصانيفه، ويقول في المباحث من حق تصنيفه أن يرد على بايعه، ويترك عليه ثمنه، ولعل ذلك لتحاسد يكون بين أهل العصر.
وأبو الفرج كان من حكماء بغداد وكان حكيمًا ملء إهابه، داخلًا بيت الحكمة من أبوابه، وله تصانيف في المنطق وغير ذلك وقد وجدت له تصنيفًا لطيفًا في كمية الأعمار ورسائل وكان عالمًا باللغة الرومية واليونانية.
وكان أبو علي يعترف بتقدمه في صناعة الطب ثم يعترض على بعض رسائله في الطب ويقول ظننت أن أبا الفرج كان مقدمًا في الطب إلا أن كلامه غير فصيح، فبعضه مستقيم وبعضه سقيم فهو من المستطرفين لا من أصحاب الصناعة وأنا قد رأيت كتابًا لأبي الفرج في علل الأشياء واستفدت منه واعترفت بأنه كان حكيمًا ولكن بينه وبين أبي علي بون بعيد، وأبو علي كان مؤذيًا مهجنًا.
وقد رأيت في بعض الكتب أن أبا علي دخل على الحكيم أبي علي ابن مسكويه صاحب كتاب تجاب الأمم وكتاب الشوامل والهوامل، والتلامذة حوله فرمى أبو علي إليه جوزة وقال بين مساحة هذه الجوزة بالشعيرات، فرفع ابن مسكويه أجزاء في الأخلاق ورماها إلى ابن سينا وقال: أما أنت فأصلح أخلاقك أولًا حتى استخرج مساحة الجوزة وأنت أحوج إلى إصلاح أخلاقك مني إلى مساحة الجوزة.
وهكذا يطعن أبو علي في أثناء تصانيفه على أبي الفرج وليس الذم والتثريب والتهجين من دأب الحكماء المبرزين بل تقرير الحق، ومن قرر الحق، استغني عن تهجين أهل الباطل، صاننا الله عن الرذائل وأسبغ علينا نعم الفضائل.
وقد بعث أبو الريحان البيروني مسائل إلى أبي علي فأجاب عنها أبو علي، واعترض أبو الريحان على أجوبة أبي علي وهجنه وهجن كلامه وأذاقه مرارة التهجين وخاطب أبا علي بما لا يخاطب به العوام فضلا عن الحكماء فلما تأمل أبو الفرج الأسئلة والأجوبة قال: من نخل الناس نخلوه ناب عني أبو الريحان.
وكان أبو الفرج يقول: أنا من أولاد فولوس وفولوس كان ابن أخت جالينوس. ولما بعث الله تعالى عيسى بالحق إلى الناس كان جالينوس شيخا عاجزًا فبعث إلى عيسى ﵇ ابن أخته فولوس واعتذر إليه وقال: أنا محبوس الهرم. وكتب إلى عيسى ﵇ كتابا، وكان عيسى يقرأ ويكتب، ومضمون الكتاب: يا طبيب النفوس ونبي الله ربما عجز المريض عن خدمة الطبيب بسبب عوارض جسمانية، وقد بعثت إليك بعضي وهو فولوس لتعالج نفسه بالآداب النبوية والسلام.
فلما وصل فولوس إلى عيسى أكرمه عيسى ﵇ وصار من الحواريين وكتب عيسى إلى جالينوس: يا من أنصف من علمه، الصحيح لا يحتاج إلى الطبيب إلا في حفظ صحته والمسافة لا تحجب النفوس عن النفوس والسلام وادعت النصارى أن فولوس صار بعد شمعون الصفا نبيا وله كتاب فيه دلائل البعث والحشر.
1 / 6
ومن كلمات أبي الفرج: قوله في هذا العالم ربما صار التولدي توالديا فلا يتعجب من أن يصير نوع التوالدي تولديا لا في هذا العالم كالشمس في ازمان والنار تؤثر فإنها تؤثر في آن، وقال: " آ " لا يكون سببا لوجود " ب " وب لا يكون سببا لوجود " ا " لأن من حق السبب أن يكون متقدما في الوجود على المسبب ومن حق المسبب أن يكون متأخرا، وإذا اعتبرت ذلك عرفت أن " آ " لا تكون علة لما هي " ب " و" ب " علة لوجود " آ ".
وقال: إذا قامت حجتك على الكريم أكرمك ووقرك، وإذا قامت على الخسيس (ازدراك) وامتهنك.
الفقير المتشبه بالغني كالوارم المتشبه بالسمين.
البخيل تغافله عن عظيم الجرم اسهل عليه من المكافأة على صغير الإحسان شرير العالم يفرح بالطعن على من تقدمه من العلماء، ويسوءه بقاء من في عصره منهم، لأنه يحب ألا يكرم سواه، والغالب عليه في العلم شهوة الرياسة.
من مدحك بما ليس فيك فهو مخاطب غيرك، وكذا من هجنك البخيل يسخو من عرضه بمقدار ما يبخل من ماله. إذا أقبلت الدولة خدمت الشهوات العقول، وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات. إذا أصحبت العاقل فأرضه وأسخط حاشيته، وإذا خدمت الجاهل فافعل ضد ذلك.
حرام على الملك السكر فإنه حارس المملكة، وقبيح أن يحتاج الحارس إلى من يحرسه.
الشجاع يختار حسن الذكر على البقاء، والجبان يختار البقاء على حسن الذكر.
الأماني أحلام المستيقظ. وقال: أول ما يظهر بعد الطوفان والأمراض الوبائية المفنية للناس الضروريات من الملابس والمآكل، ثم بعد ذلك يطلبون الحسن منها.
الجند والمدن والحصون تتخذ أولا هربا من السباع الضاربة ثم بعد ذلك لتوقي (الناس) بعضهم من بعض.
إذا تمسك الأبناء بسنن الآباء فربما داخلتهم المصيبة فدعت الضرورة إلى صاحب شرع حق يدعوهم إلى شئ واحد فيه صلاحهم.
الحكيم العالم أبو القاسم الكرماني
كان حكيما جرت بينه وبين أبي علي مناظرة، أدت إلى مشاجرة لزمها سوء الأدب. ونسبه أبو علي إلى قلة العناية بصناعة المنطق، ونسب أبو القاسم أبا علي إلى الغلط والمغالطة. وكتب هذه المناظرة أبو علي إلى الشيخ الوزير الأمين أبي سعيد الهمذاني الذي صنف أبو علي باسمه الرسالة الأضحوية، وكتب الحكيم أبو الخير إليه رسالته المعروفة. ومن كلمات الحكيم أبي القاسم قوله: الطبيب خادم القدر صح المريض أو هلك.
وقال: تأثير العلويات بتقدير الله تعالى في السفليات لا ينكر، لأن الأسفل مربوط بالأعلى، والتفاصيل لا تدرك، فاختر أمرًا بين أمرين فإنك في ذلك تحتاج إلى علم زماني وغير زماني.
وقال يوما للشيخ أبي علي: لا يقدر ما عندك بتهجين ما عند غيرك فإن الحق ابلج والإنصاف لم ينعدم.
وقال: المبتهج بمدحه الذي يسمعه كمادح نفسه وقال: معاتبة الجاهل كالطالب من الأعمى صحة البصر.
أبو الفتح يحيى بن علي بن محمد
الكاتب البستي كان أبو الفتح حكيما شاعرا من خدم الملوك السامانية وندماء الأمير خلف بن احمد واستخدمه الأمير ناصر الدين سبكتكين فقال له أبو الفتح أنا غرس أعدائك فلا تثق بي إلا بعد تجربتي فان التجربة تزيل الشبهة. وعاش هو إلى أيام السلطان محمد بن محمود، وخلع عليه السلطان محمد بن محمود مرارًا، وقيل هو كاتب باتبور صاحب بست واستحضره الأمير سبكتكين، وكان كاتب السلطان محمود مدة، ثم اتفق له مفارقة خراسان مع الخاقانية، وتوفي بما وراء النهر.
فللأمور مواقيت مقدرة ... وكل أمر له حد وميزان
فلا تكن عجلًا في الأمر تطلبه ... فليس يحمد قبل النضج بحران
يا أيها العالم المرضي سيرته ... أبشر فأنت بغير الماء ريان
ويا أخا الجهل لو أصبحت في لجج ... فأنت ما بينها لا شك ظمآن
وقوله:
تق الله والزم عرى دينه ... وبعدهما فاعرف الفلسفة
ودع عنك قومًا يعيبونها ... ففلسفة المرء فل السفه
وقوله:
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ... أتطلب الريح مما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
وقوله:
لا تلمني على اضطراب تراه ... في كتاب أخطه أو قريض
1 / 7
فأعز الأشياء عندي وجودًا صحة القول في الزمان المريض
وقوله:
منحتكم صدق المودة كاملًا ... وكان جزائي عندكم ظاهر النقص
كموجبة كلية إن عكستها ... فحاصلها جزئية عند ذي الفحص
ومن كلماته قوله: إذا وجب عن العلة البسيطة التي هي مثلًا " ى " معلولان هما " ح " و" ب " معًا ذاتيه (؟) لم تكن " ى " علة بسيطة.
أبو العباس أحمد بن إسحاق الجرمقي
كاتب فيلسوف مهندس شاعر من كتاب الأمير خلف بن أحمد (الذي) دوخ البلاد، وتعلق ببدر بن حسنوية.
ومن حكمه:
أن قل مالي فذاك من قب ... ل الأقدار إما اعتبرت لا قبلي
ويلزم اللوم في الخصاصة لو ... كانت تنال الحظوظ بالحيل
إن زال ما كنت فيه من عمل ... فإن ما كان في لم يزل
الحكيم الوزير شرف الملك
أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا البخاري أبوه رجل من رجال أهل بلخ من الكفاة والعمال، وانتقل إلى بخاري في أيام الأمير الحميد ملك المشرق نوح بن منصور، واشتغل بالتصرف، وتولى العمل بقربة خرميتن من ضياع بخاري، وتزوج أبوه إمرأة اسمها ستارة وولد أبو علي بهذه القرية في صفر سنة سبعين وثلثماءة، والطالع (السرطان) درجة شرف المشتري والقمر على درجة شرفه، والشمس على درجة شرفها، والزهرة على درجة شرفها، وسهم السعادة في كط من السرطان وسهم الغيب في أول السرطان مع سهيل والشعري اليمانية ثم ولد أخوه محمود بعده بخمس سنين، ثم انتقلوا إلى بخارى.
وأحضر أبو علي معلم القرآن ومعلم الأدب فلما بلغ عشر سنين حفظ أشياء من أصول الأدب، وأبوه كان يطالع ويتأمل رسالة إخوان الصفا وهو أيضًا أحيانًا يتأملها، وأبوه يوجهه إلى بقال يبيع البقل، ويعرف حساب الهندسة والجبر والمقابلة، يقال له محمود المساح.
ثم توجه تلقاء بخاري الحكيم أبو عبد الله الناتلي، وقد سبق ذكره فأنزله أبوه وآواه وأكرمه، وكان أبو علي يختلف في الفقه إلى إسماعيل الزاهد، ويتلقف مسائل الخلاف ويناظر ويجادل. ثم ابتدأ أبو علي بقراءة كتاب ايساغوجي على الناتلي حتى أحكم عليه المنطق، ثم ابتدأ بكتاب أوقليدس ثم المجسطي.
فلما فرغ الناتلي من تعليمه توجه تلقاء خوارزم قاصدًا حضرة خوارزم شاه مأمون بن محمد مولى أمير المؤمنين. واشتغل أبو علي بتحصيل العلوم من الطبيعي والآلهي، ونظر في النصوص والشروح، وانفتحت عليه أبواب العلوم، ثم رغب في علم الطب وتأمل الكتب المصنفة فيه. وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة فلا جرم صار فيه في مدة قليلة عديم المثيل، فقيد القرين والنظير.
وفضلاء الطب يختلفون إليه، ويقرؤون عليه المعالجات المقتبسة من التجربة، وهو مع ذلك يختلف في الفقه إلى إسماعيل الزاهد الفقيه. فلما جاوز اثنتي عشرة سنة من مولده أقبل بعد ذلك سنة ونصف سنة على العلوم، وأعاد قراءة المنطق وجميع أجزاء الفلسفة وفي هذه المدة ما نام ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغل في النهار بشيء سوى المطالعة، وجمع بين يديه ظهورًا من القراطيس، وكل حجة ينظر فيها يثبت مقدماتها القياسية، ويكتبها في تلك الظهور، وراعى شرائط المقدمات وفضل ما هو منتج مما هو عقيم. وإذا تحير في مسألة وما ظفر فيها بالحد الأوسط تردد إلى الجامع وصلى وابتهل إلى الله تعالى حتى يفتح الله تعالى له المنغلق منها. وكان يعود كل ليلة إلى داره، ويضع السراج ويشتغل بالقراءة والكتابة. فإذا غلبه النوم أو ابتدره ضعف مزاج شرب قدحًا من النبيذ. وكان الحكماء المتقدمون مثل أفلاطن وغيره زهادًا وأبو علي غير سنتهم وشعارهم، وكان مشغوفًا بشرب الخمر، واستفراغ القرى الشهوانية، ثم اقتدى به في الفسق والانهماك من بعده.
وأحكم جميع العلوم، ووقف عليها بحسب الإمكان الإنساني. وكل ما علمه في ذلك فهو كما علمه لم يزدد إلى آخر عمره، حتى فرغ من المنطق والطبيعي والرياضي. و(لم) يبالغ في علم الرياضي لأ (ن) من ذاق حلاوة المعقولات بضن بصرف فكره في الرياضيات. إلا فيما يتصوره مرة واحدة ويتركه.
1 / 8
ثم أقبل على العلم الإلهي، وقرأ كتاب ما بعد الطبيعة، وأعاد قراءته أربعين مرة، وصار له محفوظًا، ومع ذلك لا يفهمه ولا المقصود منه، وأيس من نفسه وقال: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه. واتفق أنه كان يومًا من الأيام في سوق الوراقين فعرض عليه دلال يقال له محمد الدلال كتابًا ينادي عليه، فرده أبو علي رد متبرم، معتقدًا ألا فائدة في هذا العلم، فقال الدلال اشتر مني فإنه رخيص بثلاثة دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه، فاشتراه فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي الفيلسوف الذي هو المعلم الثاني في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة.
قال فرجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه كان لي محفوظًا، ففرحت بذلك وتصدقت بشيْ كثير على الفقراء شكرًا لله تعالى.
وكان ملك المشرق وخراسان في ذلك الزمان الأمير نوح بن منصور فعرض له مرض أعجز الأطباء. وكان اسمه اشتهر في التوفر على العلم والقراءة. فسألوا الأمير إحضار أبي علي فحضره وشاركهم في معالجته فوسم بخدمته. وصار أول حكيم توسم بخدمة الملوك. وكان الحكماء قبل أبي علي يترفعون عن ذلك ولا يقربون أبواب السلاطين.
فسأل الأمير نوح بن منصور الرئيس أبو علي الأذن له في دخول دار له فيها بيوت الكتب فنال الإيجاب فطالع من جملتها فهرست كتب الأوائل وطلب ما احتاج إليه فرأى من الكتب ما لم يقرع أسماع الناس اسمه لأبي نصر الفارابي وغيره. فقرأ تلك الكتب وظفر بفوائدها وعرف مرتبة كل رجل في علمه من المتقدمين.
فاتفق احتراق تلك الدار، واحترقت الكتب بأسرها، وقال بعض خصماء أبي علي إنه أحرق تلك الكتب ليضيف تلك العلوم والنفائس إلى نفسه، ويقطع أنساب تلك الفوائد عن أربابها والله أعلم.
فلما بلغ أبو علي سنة ثمان عشرة من عمره فرغ من العلوم كلها، ولم يتجدد له بعدها شيء، وكان في جواره رجل يقال له أبو الحسن العروضي، فسأله أن يصنف كتابًا جامعًا في هذا العلم، فصنف له المجموع وذكر اسمه فيه، وأثبت فيه سائر العلوم سوى الرياضي (فإنه ليس فيه زيادة مرتبة وسعادة في العقبى) .
و(كان) في جواره أيضًا رجل يقال له أبو بكر البرقي الخوارزمي فقيه زاهد مفسر مائل إلى هذه العلوم، فسأله شرح الكتب فصنف له كتاب الحاصل والمحصول. وكان في بيت كتب بوزجان منه نسخة فقدت. وأتم كتاب الحاصل والمحصول في عشرين مجلدة. وصنف له كتابًا في الأخلاق وسماه البر والإثم. ورأيته عند الإمام محمد الحارثان السرخسي ﵀ بخط رديء مقرمط في سنة أربع وأربعين وخمسمائة ثم مات والده وسن أبي علي اثنتان وعشرون سنة.
وتصرفت (به) الأحوال، وتقلد عملًا من أعمال السلطان. ولما اضطربت أمور السامانية دعته الضرورة إلى الخروج من بخارء والإنتقال إلى كر كانج والإختلاف إلى خوارزم شاه علي بن مأمون بن محمد وكان أبو الحسن السهلي المحب لهذا العلم بها وزيرًا. وكان أبو علي على زي الفقهاء بطيلسان وعمامة (تحت الحنك)، فأثبتوا له مشاهرة تقوم بكفاية مثله.
ثم دعت الضرورة أيضًا إلى الإنتقال عن خوارزم والتوجه تلقاء نسا وأبي ورد ثم إلى طوس ثم إلى سمنقان ولم يدخل نيسابور، ثم إلى جاجرم رأس حد خراسان ثم إلى جرجان. وكان يقصد الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير، فاتفق في أثناء تلك الحالات أخذ قابوس وحبسه في بعض القلاع وموته هناك. ثم مضى إلى دهستان ومرض بها مرضًا صعبًا. وعاد إلى جرجان، واتصل به الفقيه أبو عبيد الجوزجاني، واسمه عبد الواحد، وبجرجان رجل يقال له أبو محمد الشيرازي قد ارتبط الشيخ واشترى له دارًا في جواره.
وأبو عبيد يختلف إليه كل يوم يقرأ المجسطي ويستملي المنطق، فأملى عليه المختصر الأوسط في المنطق، لذلك يقال له الأوسط الجرجاني. وصنف لأبي محمد الشيرازي كتاب المبدأ والمعاد وكتاب الأرصاد الكلية. وصنف في جرجان كتبًا كثيرة كأول القانون والمختصر من المجسطي وكثيرًا من الرسائل والكتب.
1 / 9
وهذا فهرست جميع مصنفاته: كتاب المجموع مجلدة، كتاب الحاصل والمحصول عشرون مجلدة، كتاب البر والإثم مجلدتان، كتاب الشفاء ثمان عشرة مجلدة كتاب القانون أربع مجلدات، الأرصاد الكلية مجلدة، الأنصاف عشرون مجلدة، النجاة مجلدة، الهداية مجلدة، الإرشادات مجلدة، الأوسط مجلدة، العلائي مجلدة، كتاب لسان العرب عشر مجلدات، الأدوية القلبية مجلدة، الموجز مجلدة، الحكمة القدسية مجلدة بيان ذوات الجهة مجلدة، كتاب المبدأ والمعاد مجلدة، كتاب المعاد مجلدة، كتاب المقتضيات مجلدة. ومن رسائله رسالة في القضاء والقدر والإجرام العلوية والآلة الرصدية وغرض قاطيغورياس والمنطق بالشعر. ورسالة التحقة ورسالة في الحروف وتعقب المواضع الجدلية، ومختصر أوقليدس وفي النبض وفي الجدل وأقسام علوم الحكمة وفي النهاية واللا نهاية، وحي بن يقظان، وفي أن أبعاد الجسم غير ذاتية له، وفي الهندباء ومسائل جرت بينه وبين فضلاء العصر.
ثم انتقل إلى الري، واتصل بخدمة السيدة وابنها الملك مجد الدولة أبي طالب رستم بن فخر الدولة علي، وعرفوه بسبب كتب وصلت معه، وتضمنت تعريف قدره. وقد استولت على مجد الدولة علة الماليخوليا فاشتغل الشيخ بمداواته، وصنف هناك كتاب المعاد وأقام إلى أن قصد شمس الدولة قتل هلاك بن بدر بن حسنوية وهزيمة عسكر بغداد.
ثم اتفقت أسباب أوجبت بالضرورة خروجه إلى قزوين ومنها إلى هنذان واتصاله بخدمة كدبانويه وبالنظر في أسبابها. ثم اتفقت له معرفة شمس الدولة، وأمر بإحضاره مجلسه بسبب قولنج أصابه، فعالجه حتى شفاه الله، وفاز من ذلك المجلس بخلع كثيرة، ورجع إلى داره بعد ما أقام هناك أربعين يومًا بلياليها، وصار من ندماء الأمير. ثم اتفق نهوض الأمير إلى قرمسين لحرب عناز.
وخرج الشيخ منخرطًا في سلك خدمته، ثم توجه تلقاء همذان، منهزمًا راجعًا. ثم سألوه تقلد الوزارة فتقلدها، ثم اتفق تشويش العسكر بسببه وإشفاقهم منه على (أنفسهم) فأغاروا على داره وأخذوه وحبسوه، وسألوا الأمير قتله فامتنع منه الأمير. ثم أطلق الشيخ فتوارى في دار الشيخ أبي سعد بن دخدوك أربعين يومًا. فعاود الأمير شمس الدولة مرض القولنج، فطلب الشيخ وحضر مجلسه فاعتذر إليه الأمير، فاشتغل الشيخ بمعالجته، وأقام عنده مكرمًا مبجلًا، وأعيدت الوزارة إليه ثانية.
ثم سأله الفقيه أبو عبيد شرح كتب أرسطو فذكر أنه لا فراغ له، ولكن إن رضيت مني بتصنيف كتاب أورد فيه ما صح عندي من هذه العلوم بلا مناظرة مع الخصوم، ولا اشتغال بالرد عليهم فعلت. قال أبو عبيد: فرضيت بذلك، فابتدأ بالطبيعيات من كتاب الشفاء وقد صنف المجلد الأول من القانون.
فكان يجتمع كل ليلة في داره طلبة العلم وأبو عبيد يقرأ من كتاب الشفاء نوبةً، ويقرأ المعصومي من القانون نوبة، وابن زيلة يقرأ من الإشارات نوبة، وبهمن يار يقرأ من الحاصل والمحصول نوبة، فإذا فرغوا حضر المغنون واشتغلوا بالشراب. وكان التدريس بالليل لعدم الفراغ بالنهار.
ثم توجه شمس الدين تلقاء طارم لحرب الأمير بهاء الدولة، وعاوده القولنج قرب ذلك الموضع واشتدت علته، وانضاف إلى ذلك أمراض أخر جلبها سوء تدبيره، وقلة القبول من الشيخ. فخاف العسكر وفاته، فرجعوا سار بين إلى همذان، فتوفي شمس الدولة في الطريق، ثم بويع ابن شمس الدولة وطلبوا استيزار الشيخ فأبى عليهم.
1 / 10
وكان علاء الدين سأل الشيخ المصير إليه، فأقام في دار أبي غالب العطار متواريًا، وصنف فيها بلا كتاب يطالعه جميع الطبيعيات والإلهيات من كتاب الشفاء، وابتدأ بالمنطق وكتب منه جزءًا. ثم اتهمه تاج الملك بمكاتبة علاء الدولة فأخذه وحبسه في قلعة نردوان وبقي فيها أربعة أشهر. ثم قصد علاء الدولة أبو جعفر كاكويه همذان واستولى عليها. ثم رجع علاء الدولة وعاد تاج الملك وابن شمس الدولة من القلعة إلى همذان وحملا معهما الشيخ، فنزل في دار علوي واشتغل بتصنيف المنطق من كتاب الشفاء، وصنف في القلعة كتاب الهداية وكتاب حي بن يقظان ورسالة الطير وكتاب القولنج، فأما الأدوية القلبية فقد صنفها في أول وروده همذان. ثم عن للشيخ التوجه تلقاء أصفهان، فخرج متنكرًا، ومعه أخوه محمود والفقيه أبو عبيد وغلامان له في زي الصوفية، فلما وصلوا إلى الطبران على باب أصفهان استقبله خواص الأمير علاء الدولة، وحمل إليه الثياب والمراكب الخاصة، وأنزل في دار عبد الله بن بابي في محلة كونكنيذ.
وكان الشيخ في ليالي الجمعات يحضر مجالس علاء الدولة مع علماء البلدة. وإذا تكلم استفادوا منه في كل فن. واشتغل بتتميم كتاب الشفاء. أما في المجسطي فأورد عشرة أشكال في اختلاف المنظر. وأورد في علم الهيئة أشياء لم يسبق إليها، وأورد في أقليدس شكوكا، وفي الارتماطيقي خواص (حسنة)، وفي الموسيقى مسائل غفل عنها الأولون. أما كتاب الحيوان والنبات من الشفاء فقد أنهاه في السنة التي توجه فيها علاء الدولة تلقاء سابور خواست، وكان الشيخ في خدمته وكان السلطان محمود بن سبكتكين وابنه مسعود لا يعدان واحدا من الملوك من أقرانهما وخصائصهما سوى علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه وكان يقيم ابن علاء الدولة بحضرة غزنة مدة، وجرى يوما عند علاء الدولة ذكر الخلل الواقع في التقاويم المعمولة بحسب الأرصاد القديمة، فأمر علاء الدولة الشيخ بالإشتغال برصد الكواكب، وأطلق من الأموال ما احتاج إليه، وابتدأ الشيخ به والفقيه أبو عبيد هو القيم بهذه الأمور يتخذ آلاتها ويستخدم صناعتها، حتى ظفر بكثير من المسائل. وكان الخلل واقعا في أمر الرصد لكثرة الأسفار، وتراكم العوائق. وصنف الشيخ في أصفهان كتاب العلائي.
ومن عجائب أحوال الشيخ أن أبا عبيد صحبة ثلاثين سنة قال إنه ما رآه ينظر في كتاب في كتاب جديد على الولاء بل يقصد المواضع الصعبة، والمسائل المشكلة منه، فينظر ما قاله المصنف فيها، فتبين عنده مرتبته في العلم.
وكان الشيخ جالسًا يومًا بين يدي الأمير، والأديب أبو منصور الجبان حاضر، فجرت في اللغة مسألة تكلم الشيخ فيها بما حضره، فقال له أبو منصور: إنك حكيم، ولكنك لم تقرأ من اللغة ما يرضى به كلامك، فاستنكف الشيخ من هذا الكلام، وتوفر على درس كتب اللغة ثلاث سنين. وكان ينظر في كتاب تهذيب اللغة من تصنيف أبي منصور الأزهري.
فبلغ الشيخ في اللغة طبقة قلما يتفق مثلها. وأنشأ ثلاث قصائد وضمنها ألفاظًا غريبة، وكتب ثلاث رسائل على طريقة ابن العميد والصاحب والصابي وأمر بتجليدها وأخلاق جلدها. ثم سأل الأمير عرض تلك المجلدة على أبي منصور الجبان وذكر أنا ظفرنا بهذه المجلدة في الصحراء في وقت الصيد، فيجب أن تنتقدها وتقرر لنا ما فيها. فنظر فيها الشيخ أبو منصور، وأشكل عليه كثير منها فقال له الشيخ أبو علي إن ما تجهله من هذا الكتاب مذكور في موضع كذا وكذا، وذكر له كتبًا معروفة في اللغة، ففطن أبو منصور أن هذه القصائد والرسائل من إنشاء أبي علي فتنصل واعتذر إليه. ثم صنف الشيخ كتابًا في اللغة وسماه لسان العرب، لم يصنف مثله، ولم ينقله إلى البياض فبقي على مسودته، لا يهتدي أحد إلى ترتيبه.
وقد حصل للشيخ تجارب في المعالجات وعلقها في أجزاء، وعزم على تدوينها في كتاب القانون فضاعت الأجزاء.
ومن تجاربه أنه صدع يومًا، فتصور أن مادة نزلت إلى حجاب رئته وأنه لا يأمن ورمًا يحصل فيه، فأمر بإحضار ثلج كثير ولفه في خرقة وغطى رأسه بها حتى تقوى الموضع، وامتنع عن نزوله تلك المادة وعوفي.
ومن تجاربه أن إمرأة مسلولة بخوارزم حضرته، فأمرها إلا تتناول من الأشربة إلا جلنجبين السكر حتى تناولت على مر الأيام منه مائة من، وشفيت المرأة.
1 / 11
وكان الشيخ صنف بجرجان المنطق الذي وضعه في أول النجاة، ووقعت منه نسخة إلى شيراز فنظر فيها جماعة من أهل العلم، فوقعت لهم شبه في مسائل فكتبوها على جزء، وكان القاضي بشيراز من جملة القوم، فأنفذوا الجزء إلى الحكيم أبي القاسم الكرماني، فدخل أبو القاسم على الشيخ عند اصفرار الشمس في الصيف، ووضع الجزء بين يدي الشيخ. فلما خرج أبو القاسم صلى الشيخ العشاء، وكتب خمسة أجزاء مربعة كل جزء عشرة أوراق على الربع الفرعوني ثم نام، فلما صلى الغداة، بعث الأجزاء إلى أبي القاسم وقال: استعجلت في الجواب حتى لا يمكث القاصد. فلما رأى أبو القاسم (ذلك) تعجب وكتب إلى شيراز بهذه القصة.
ثم وضع بسبب الرصد آلات ما سبقه بها أحد. واشتغل بالرصد، ثماني سنين، ثم صنف الشيخ كتاب الإنصاف.
ووقعت محاربة بين العميد أبي سهل الحمدوني صاحب الري عن جهة السلطان محمود وبين علاء الدولة، قصد السلطان مسعود بن محمود أصفهان، وأخذ أخت علاء الدولة. فبعث أبو علي إلى السلطان مسعود وقال: إن تزوجت بهذه المرأة التي هي كفؤ لك سلم علاء الدولة إليك الولاية، فتزوجها السلطان مسعود، ثم اشتغل علاء الدولة بالمحاربة، فبعث السلطان إليه رسولًا وقال: أنا أسلم أختك إلى ولوده (؟) العسكر، فقال علاء الدولة لأبي علي: أجب فقال أبو علي: إن كانت المرأة أخت علاء الدولة فهي زوجتك، وإن طلقتها فهي مطلقتك، والغيرة على الأزواج لا على الأخوات، فأنف السلطان من ذلك ورد أخت علاء الدولة عليه عزيزة مكرمة.
ثم نهب العميد أبو سهل الحمدوني مع جماعة من الأكراد أمتعة الشيخ وفيها كتبه، ولم يؤخذ من كتاب الإنصاف إلا أجزاء. ثم ادعى عزيز الدين الفقاعي الزنجاني في شهور سنة خمس وأربعين وخمسمائة أنه اشترى منه نسخة بأصفهان وحملها إلى مرو والله أعلم.
وأما الحكمة المترقية بتمامها والحكمة العرشية، فقال الإمام إسماعيل الباخرزي أنهما في بيوت كتب السلطان مسعود بن محمود بغزته، حتى أحرقها ملك الجبال الحسين وعسكر الغور والغز، في شهور سنة ست وأربعين وخمسمائة.
وكان أبو علي قوي المزاج، وكانت قوة المجامعة عليه أغلب، وكان يشتغل باستفراغها، فأثر ذلك في مزاجه، وكان لا يعالج شخصه، حتى ضعف في السنة التي حارب فيها علاء الدولة الأمير حسام الدولة أبا العباس تاش فراش على باب الكرخ وعرا الشيخ داء القولنج فحقن نفسه في يوم واحد ثماني مرات، فتقرح بعض أمعائه، وظهر له سحج، وكان لا بد له من المسير مع علاء الدولة، فظهر به الصرع الذي يتبع علة القولنج، فأمر يومًا باتخاذ دانقين من بزر الكرفس في جملة ما يحقن به، وخلطه بها طلبًا لكسر ريح القولنج. فقصد بعض الأطباء الذي يعالجه، وطرح من بزر الكرفس خمسة دراهم، ولا يدري أعمدًا فعله أم سهوًا، فازداد السحج به من حدة بزر الكرفس، وكان يتناول مثروديطوس لأجل الصرع فقام بعض غلمانه وطرح في مثروديطوس شيئًا كثيرًا من الأفيون وتناوله. وكان سبب ذلك أن ذلك الغلام خان في خزانته فخاف عاقبة فعله عند برئه.
ونقل الشيخ في المهد كما كان إلى أصفهان، فاشتغل بتدبير نفسه وكان من الضعف بحيث لا يقدر على القيام، فانصرف علاء الدولة إلى أصفهان، والشيخ يعالج شخصه، وغلمانه بتمنون هلاكه، بسبب خيانتهم في أمواله، فقدر الشيخ على المشي، وحضر مجلس علاء الدولة، لكنه مع ذلك لا يحتمي ولا يتحفظ ويكثر التخليط في أمر المعالجة. ولم يبرأ من العلة كل البرء، وكان يبرأ أسبوعًا ويمرض أسبوعًا.
ثم قصد علاء الدولة همذان ومعه الشيخ، فعاود الشيخ القولنج في الطريق إلى أن وصل إلى همذان، وعلم أن قوته قد سقطت، وأنها لا تفي بدفع المرض، فأهمل من أداة نفسه، وقال: المدبر الذي في بدني، عجز عن تدبير بدني، فلا تنفعني المعالجة، ثم ا (غتسل وتا) ب وتصدق بما بقي معه على الفقراء، ورد المظالم إلى عرفه من أربابها، وأعتق غلمانه.
وكان يحفظ القرآن فيختم في كل ثلاثة أيام. ثم مات في الجمعة الأولى من رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ودفن في همذان. وفي هذه الجمعة خطبوا في نيسابور للسلطان طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجوق، وأعرضوا عن ذكر السلطان مسعود بن محمود. وكان عمر الشيخ نح سنة من السنين الشمسية مع كسر.
1 / 12
حكاية عجيبة: كان أبو علي يحضر مجلس علاء الدولة وعليه قباء داري وعمامة خيش وخف أدم، ويجلس بين يديه قريبًا منه. وكان يتبين أثر السرور في وجه الأمير إذا حضر، لتعجبه من جماله وفضله وظرفه، فإذا تكلم بين يديه استمع له أهل المجلس، لا ينبسون بحرف حتى (ينتهي) . واتفق أن أعطاه الأمير علاء الدولة منطقة مفضضة مذهبة مع السكاكين، ثم رآها الأمير مع غلام من خواص غلمانه، فقال له من أين هذه المنطقة؟ فقال أعطانيها الحكيم. فاشتد غضبه عليه، وصك وجهه ورأسه وأمر بقتله، فطلبوه فوجده واحد من أصحاب الأمير فخلاه حتى هرب، وقد غير ثيابه وزيه.
فورد الري على هيئة المتصوفة وعليه مرقعة، وليس معه شيء ينفقه على نفسه، فدخل السوق لتحصيل القوت، فرأى أن يطالع مقامات الناس ليتخذ ما هو أروح، وكان يطالع واحدًا بعد واحد، حتى اطلع على شاب ظريف اتخذ مقامًا على باب داره، وقد اجتمع عليه خلق كثير فأرته إمرأة تفسره فقال لها: هذه تفسرة يهودي، فاعترفت وقالت: هي كما نقول. ثم قال: وقد تناول رائبًا. فقالت: نعم. ثم قال: داركم في المدينة في موضع منخفض من الأرض، فقالت: هي كذلك. فتعجب الحكيم من ذلك، فنظر الشاب إليه وقال: أنت أبو علي بن سينا، هربت من علاء الدولة فاجلس، فجلس بجنبه حتى فرغ الشاب من شأنه، وأخذ بيده وأدخله داره، وأمر حتى أدخل الحمام، وألبسه ثيابًا حسنة، ودعا با (لطعام فقال) للشيخ أبي علي: كيف تعرف من التفسرة أنها تفسرة يهودي فقال: رأيت في يدها قميصًا عليه غيار اليهود، ورأيته ملوثًا بشيء من الرائب، فحدست أنه اشتهى الرائب وتناوله، واليهود كلهم يسكنون المدينة الداخلة من بلدنا، وجميع الدور في تلك المدينة في انخفاض. فقال له الشيخ وكيف عرفتني؟ فقال الشاب: كنت أسمع بجمالك وحسن هيئتك وفطانتك، فلما نظرت إليك حدست أنك هربت من علاء الدولة، وأني لأعلم أنه يزول غضبه عليك، ويشتاق إلى لقائك، ويردك إلى مجلسه، فأردت أن أتخذ عندك يدًا. قال أبو علي: فما حاجتك؟ فقال الشاب أن تحضرني مجلس الأمير، وتحكي له ما رأيته لعله يستظرفني للمنادمة. فما مضى إلا أيام قلائل (حتى) طلب علاء الدولة الحكيم، وخلع عليه، ورده إلى مجلسه. فحمل أبو علي معه الشاب إلى أصفهان، وحكى للأمير ما رأى من حاله، وارتضاه الأمير وصار من ندمائه.
نسخت عما كتبه أبو علي لنفسه وما كان في النسخة التي انتسخت منها غير مكتوب تركته ضرورة عدم وجوده، وشرعت بذكر الحكيم أبي الريحان محمد بن أحمد البيروني.
أبو الريحان البيروني
من أجلاء المهندسين وقد سافر في بلاد الهند الأربعين سنة ونصف كتبًا كثيرة، ورأيت أكثرها بخطه. والقانون المسعودي الذي صنفه في عهد السلطان شهاب الدولة مسعود بن محمود غرة في وجوه تصانيفه، وله مناظرات مع أبي علي، ولم يكن الخوض في بحار المعقولات من شأنه، وكل ميسر لما خلق، وزادت تصانيفه على حمل بعير، وكان موفقًا في هذا السعي المشكور. وبيرون التي هي منشأوه ومولده، بلدة طيبة فيها غرائب وعجائب. ولا غرو فإن الدر ساكن الصدف.
قال في تحقيق أمر منازل القمر: سهولة الشيء وصعوبته قلما تطلق. وإنما تضافان إليه بحسب اختلاف الأحوال، فيسهل بها من جهة ويتعذر (من) أخرى.
وقال: جل خطر الملوك عن المجازاة بالانتقام.
ليس للملك أن يحسد إلا على حسن التدبير والسياسة.
الملك أقل الناس خوفًا من الفقر، وأكثر الناس خطرًا وقربًا إلى الهلاك، فليس له أن يبخل ويجبن، فإن ما قل عنده لا يكثر، وما كثر لا ينعدم.
المن يبطل إحسان المحسن.
العاقل من استغنى بتدبير اليوم (عن تدبير الغد) لا تحقر الأمر الصغير، فللأمر الصغير موضع ينتفع به، وللأمر الكبير موقع لا يستغنى عنه.
ما اجتمعت عليه الألفة والعادة واصطلحت عليه العامة فلا تخالفه من كفاه التأديب بالكلام لا يؤدب بالسوط والسيف. مدارسة أخلاق الحكماء والعلماء تحيي السنة الحسنة، وتميت البدعة (السيئة) .
السنن الصالحة علامات الخير والحق. لكل يوم أمر حاضر، ولكل غد ما فيه يحدث
الحكيم أبو المحسن علي بن رامساس العوفي
له رسالة في تفسير أقسام الموجودات، وتصانيف لطيفة.
1 / 13
قال: البيضة صارت رطبة لغلبة الماء والهواء والنار عليها ونقصان طبيعة الأرض، فصفرة البيض تشبه طبيعة الهواء، وبياضها يشبه طبيعة الماء، فلذلك يطير الطائر والمادة الترابية فيه أقل، لذلك لم تخلق له الأسنان والأضراس، والصفرة والبياض هما النطفة والدم، والحضانة في الطائر معينة للقوة المولدة.
وقال: (من) لم يكن خيرًا متخلقًا بأخلاق الحكماء فلا خير لأحد في علمه اجعل لنفسك من حسن الظن بالناس نصيبًا مفروضًا.
الفضائل مبدأ الخيرات، والرذائل أساس الشرور الرجوع عن الصمت خير من الرجوع عن الكلام، والإقدام على العمل بعد التأني أحزم من الإمساك بعد الإقدام عليه.
بالمشورة تضاف العقول إلى عقل واحد.
أبو علي عيسى بن اسحق بن زرعة الفيلسوف
كان حكيمًا منطقيًا، ومنطقيًا كاملًا. وله رسالة في أن علم الحكمة أقوى الدواعي إلى متابعة الشرائع.
منها: (من زعم أن الحكمة تخالف الشريعة فهي مفسدة لها) مقدمة غير كلية، وتقريرها: الحكمة مخالفة للشريعة، وكل ما هو مخالف لشيء مفسد له، والكبرى غير كلية فإن الحلاوة تخالف البياض ولا تفسده، والصور تخالف المادة ولا تفسدها، فإذا كانت الكبرى غير كلية لا ينتج القياس. منها: الغرض من المنطق تمييز الحق من الباطل والكذب من الصدق فمن قال إن الناضر في صناعة المنطق مستخف بالشريعة، فإن ذلك القائل طاعن في الشريعة، لأن كلامه في قوة قول من قال إن الشريعة لا تثبت عند البحث والتحقيق، ومنزلته منزلة رجل حامل للدراهم المبهرجة الذي يهرب بعين من النقاد، ويأنس بمن ليس من أهل المعرفة. فمن قال إن الحكمة تفسد الشريعة فهو الطاعن في الشريعة، لا المنطقي الذي يميز بين صدق الكلام و(كذ) به.
و(منها) قول من قال إن الحكيم يستخف بالشريعة لأن الحكيم يبحث عن غوامض الأمور وحقائقها، فليس له أن يتفوه بلائمة، لأنه اعتقد في الشريعة أن البحث عنها يفسدها، فهو أولى باللوم بسبب هذا الاعتقاد. ويقال له: أتعلم يقينًا أن المنطق يفسد الشريعة، أم تعتقد ذلك ظنًا وحسبانًا؟ فإن قال: يقينًا لزمه ما ذكرناه، وإن قال: ظنًا، فالظن لا يغني من الحق شيئًا، وان ذلك من طريق الشيوع والاستفاضة فليس كل شائع حقًا وإن قال: ذلك بسبب أن الشارع صلوات الله عليه نهى عن ذلك، والشرع يفسد المنطق وليس للمنطق أن يفسد الشرع بل الشرع يفسده، فنحن لم نجد في قول صاحب الشرع ﵇ ولا في أفعاله ما يدل على فساد علم المنطق ثم نقول: يلزم هذا القائل أن يكون قوله بذلك عن علم منه بالمنطق، وأنه يؤدي إلى ما ادعاه عليه وعلى أهله من أجله، أو عن غلبة الظن. فإن كان القائل بذلك من أهل المعرفة بالصناعة المنطقية فقد أدى علمه إلى إفساد الشريعة، فهو أيضًا مخالف للشريعة بسبب علمه، فمن حقه أن يبين كيف يؤدي هذا العلم إلى إفساد الشريعة، أو كيف يؤدي الشرع إلى إفساد المنطق وإن قال ذلك عن غلبة الظن والتقليد فهو مخالف للشريعة، لأن الشرع نهى عن التقليد والحكم على الناس بغلبة الظن.
ومنها: لا يعرف صدق النبي ﵇ إلا بالمعجزات، ومن لم يعرف حقائق المعجزات فلا سبيل (له) إلى تصديق النبي ﵇ فمن عرف حقائق المعجزات وحقائق النبوة فهو أقرب إلى تصديق النبي ﵇ من المقلد المتمسك بظواهر الأمور.
وهذه رسالة طويلة لا يحتمل الموضع إثباتها بكمالها وتمامها.
ومن كلماته: كل من فكر فكرًا رديئًا في غيره فهو من نفسه يقبل الرديء. الشقي من لا يذكر عاقبته.
1 / 14
وذكر ذلك الحكيم في بعض تصانيفه عن أرسطو أنه قال: إني ربما خلوت بنفسي كثيرًا، وخلعت بدني فصرت كأني جوهر مجرد بلا بدن، فأكون داخلًا في ذاتي وخارجًا من سائر الأشياء، فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما أبقى له متعجبًا باهتًا، فاعلم أني جزوء من العالم الشريف، وإني ذو حياة فعالة، فلما بقيت كذلك ترقيت بذهني من ذلك العالم إلى العوالم الإلهية فصرت كأني موضوع فيها، معلق بها، فأكون فوق العالم العقلي فأرى كأني واقف في ذلك الموقف الشريف وأرى هناك من البهاء والنور ما لا تقدر الألسن على صفته، والأسماع على قبول نعته فإذا استعز الشأن وغلبني ذلك النور والبهاء، ولم أقو على احتماله، هبطت من العقل إلى الفكرة، وحجبت الفكرة عني ذلك النور، فأقضي عجبًا أني كيف انحدر (ت) من هذا العالم، وعجبت أني كيف رأيت نفسي ممتلئة نورًا، وهي مع البدن كهيئتها.
أبو الحسن بن سنان الطبيب
كان حكيمًا فاضلًا، وطبيبًا حاذقًا، وصديقًا للحكيم أبي الخير الذي تقدم ذكره.
ومن كلماته: البدن بناء، وحفظ الصحة عماده، ولا غناء للبيت عن الأساس والعماد.
قال: لذة الهوى لذة ساعة وألم دهر.
أبعث عينيك على نفسك، حتى لا يكون الناس بعيبك أعلم منك بنفسك.
في الناس معايب سترها أولى من كشفها.
إصلاح الأمور بوثاقة الرأي وشدة الرحمة.
رأس مروءة الملوك حب العلم والعلماء، ورحمة الضعفاء، والإجتهاد في مصلحة العامة.
من صرف رأيه في غير المهم ازرى بالمهم
أبو الحسن بن هرون الحراني
طبيب ماهر وحكيم متفلسف، والغالب عليه علم الرياضة وعلم الطب. قال: إصابة الرأي حلية الملوك. وقال: عليك في مشورتك بالخبير العالم غير الحسود، فإن الجبان يضيق الأمور، والبخيل يقصر في طلب الغايات، والحريص يطلب الأمور من غير استكمال الآلات والأسباب.
المستشار اللبيب كالطبيب العالم الذي إن رأى ظاهر حال المريض في عرقه وتفسرته ولونه أطلع من باطن أمره على ما لا يطلع عليه المريض من نفسه، ثم عالجه على حسب ذلك.
العماني الطبيب
كان أبو الخير أثنى على العماني وقال: هو أقوى أهل الزمان في صناعته. ومن كلماته قوله: حق على المرء أن يوكل معه كالئين أحدهما يكلؤه من أمامه والآخر من ورائه، وهما عقله وأخوه الناصح. ما ينفعك في ذاتك فاطلبه، وإن لم يكن فيه افتخار، وما يضرك في الدنيا والآخرة فاتركه وإن كان به افتخار.
من استبد بمعالجته في حال مرضه وإن كان طبيبًا حاذقًا فقد يعرض للخطأ بجهده والاستشارة أداة كاملة.
الحكيم ابن سيار الطبيب
كان حكيمًا طبيبًا وكان يعالج أصحاب الحميات معالجة شافية وله تصانيف في الحكمة والطب وكان في صناعة المنطق من الظاهرين.
ومن كلماته قوله: لا يرجى نيل معالي الأمور بكثرة الأعوان لكن بصلحاء الأعوان.
أعوذ بالله من صديق يحسن القول ولا يحسن العمل.
إذا باعدت صديقك ولايته، فاعلم أن أخلاقه تبدلت، فإن الأخلاق تستحيل في الولاية.
المحاسن إذا قويت انهزمت المساوي الولاية تبسط اللسان بالغلظة، فلا تغضبن من شتم الوالي. أذكر دائمًا تلون الأحوال.
الحكيم دانيال الطبيب
كان طبيبًا لمعز الدولة، وقد أصاب معز الدولة فلج بشابور خواست فعالجه دانيال وصح. فبعد ذلك بثلاث سنين عرا معز الدولة سرسام حاد. فقال له الحمقى من الأطباء: هذه تأثيرات الأدوية الحارة التي عالجك بها دانيال دفعًا للفلج، فقبل المعز ذلك الكلام وغضب على دانيال، ولم يكن في حضرة المعز عالم منصف، فصار دانيال بسبب ذلك منكوبًا، كما ذكره أبو الخير في كتابه محنة الأطباء. ومن كلمات دانيال قوله: إذا سئل غيرك فلا تجب، فإن ذلك استخفاف بالسائل والمسؤول.
لكل إنسان أليف قد أنس به فلا يطمع في أن يفرق بينهما.
من شرع في أمر بسبب حرصه بلا آلة وعلم فقد لبس لباس الغرور.
إذا جاء المرض من قبل الدواء النافع وجهته عجز الطبيب. من خدم السلطان قاسى في ساعة واحدة من الأذى والخوف ما لا يقاسيه غيره في زمان طويل.
الحكيم أبو سليمان محمد بن طاهر
بن بهدام السجستاني مصنف كتاب صوان الحكمة، كان حكيمًا له تصانيف كثيرة أكثرها في المعقولات، منها رسالة في انتصاص طرق الفضائل، ومنها رسالة في المحرك الأول.
1 / 15
ومن كلماته قوله: الحسود لا يرجى الاستمتاع به، وكيف يرجى الاستمتاع (بمن) مضرته تنال القريب فضلًا عن الغريب.
الفضيلة في ذوي الأخطار زينة العالم.
لسان العلم أفصح من كل لسان.
كفى بالعلم نفاسة أنه يفخر به من لا يعرفه، وكفى بالجهل ذلالة أنه يأنف منه من يعرفه من نفسه.
الإنسان موزون بين كفتي النفس والطبيعة.
الإصرار على الشر مع ذي الإقلاع عنه زيادة في الشر.
كذبت حواسك الخمس إلا إذا شهد لدعواها العدل الرضا.
احرص على أن تعمل جيدًا لا على أن تقول جيدًا.
لا تنازع من فوقك، ولا تقل ما لا تعلم.
استصغر الكبير في طلب المنفعة، واستعظم الصغير عند دفع المضرة.
أعط من دونك ما تحب أن يعطيك من فوقك.
النظر في أعمال الأخيار وسننهم جلاء العقول.
لا تأس على ما فاتك أسى القنوط، ولا تفرح بما أتاك فرح أشر.
الحكيم أبو حامد أحمد بن اسحق الأسفزاري
الحكيم المتقي والفيلسوف المبرز، له تصانيف في الرياضيات والمعقولات، وكلامه في تصانيفه منقح لا غبار عليه، ولا يشوبه ضعف. ومن كلماته: أحق ما صبر عليه المرء ما ليس إلى تغييره سبيل.
ما لا تحب أن تفعله لا تخطر ببالك ذكره.
اختر الرمي بالحجارة بغير فائدة على التفوه بكلام باطل.
العلم بالله يكون باللفظ اليسير، فاللفظ الكثير دليل على عدم العلم به.
إذا أضمرت سوءًا في غيرك فأنت أقرب في الإساءة إلى نفسك وجعلت حياتك حياة رديئة.
وقال: الصلاة الحسنة والعبادات علامة معرفة الله تعالى.
المظلوم الذي لا يظلم مستجاب الدعوة.
عسير على الإنسان أن يكون حرًا وهو مطيع للعادة السيئة.
لا تتكلم بما لا يعنيك، وتكلم بما يعنيك في وقته وموضعه.
لا تبالغ بإفراط الهشاشة والبشاشة، فإن ذلك من السخف كما أن قلة الكلام من الكبر.
الحكيم أبو الوفاء البوزجاني
بلغ المحل الأعلى في الرياضيات، وكان حميد الأثر، وكفى بذلك شاهدًا تصنيفه المعنون بالمنازل ثم زيجه ثم سائر تصانيفه وكان نقي الجيب من عثرات الدنيا قانعًا بما عنده ومن كلماته قوله: لا خير في الحياة إلا مع الصحة والأمن من سوء الأدب الاستخفاف بحق المؤدب لا تتحدث مع من يرى حديثك غنمًا إلا عند الضرورة إن غلبك غيرك في الكلام فلا يغلبك أحد في السكوت إن كان السفيه عندك فخصه بترك المكافأة.
لا تجالس أحدًا بغير طريقته، فإنك إن لقيت الجاهل بالعلم، والماجن بالجد، فقد آذيت جليسك، وأنت مستغن عن إيذائه.
الحكيم بطليموس التالي أبو علي بن الهيثم
كان تلو بطلميوس في العلوم الرياضية والمعقولات، وتصانيفه (أكثر) من أن تحصى، وله في الأخلاق رسالة لطيفة ما سبقه بها أحد. وقد صنف كتابًا في الحيل، بين فيه حيلة إجراء نيل مصر عند نقصانه في المزارع، وحمل الكتاب وقصد قاهرة مصر فنزل في خان، فلما ألقى عصاه قيل له إن صاحب مصر الملقب بالحاكم على الباب يطلبك فخرج أبو علي ومعه كتابه.
وكان أبو علي قصير القامة، وعلى باب الخان دكان فصعد أبو علي الدكان، ودفع الكتاب إلى صاحب مصر، وصاحب مصر راكب حمارًا مصر يًا، مع آلات مفضضة. فلما نظر صاحب مصر في الكتاب قال له: أخطأت فإن مؤنة هذه الحيلة أكثر من منافع الزرع، وأمر بهدم الدكان ومضى، فخاف أبو علي على نفسه، وهرب حين جن الليل، وأقام بالشام عند أمير من أمرائها فاقبل عليه ذلك الأمير، وأجرى عليه أموالًا كثيرة، فقال له أبو علي: يكفيني قوت يوم، وتكفيني جارية وخادم: فما زاد على قوت إن أمسكته كنت خازنك، وإن أنفقته كنت قهرمانك ووكيلك، وإذا اشتغلت بهذين الأمرين فمن الذي يشتغل بأمري وعلمي.
فما قبل بعد ذلك إلا نفقة احتاج إليها، ولباسًا متوسطًا. وقد قصده من أمراء سمنان أمير يقال له سرخاب متعلمًا، فقال له أبو علي: أطلب منك للتعليم أجرة، وهي مائة دينار في كل شهر، فبذل ذلك الأمير مطلوبه وما قصر فيه، وأقام عنده ثلاث سنين. فلما عزم الأمير على الانصراف قال له أبو علي: خذ أموالك بأسرها فلا حاجة لي إليها وأنت أجوج إليها مني عند عودك إلى مقر ملكك ومسقط رأسك، وإني قد جربتك بهذه الأجرة، فلما علمت أنه لا خطر ولا موقع للمال عندك في طلب العلم، بذلك مجهودي في تعليمك وإرشادك. واعلم ألا أجرة ولا رشوة ولا هدية في إقامة الخير ثم ودعه وانصرف.
1 / 16
وكان أبو علي بن الهيثم ورعًا متعبدًا، معظمًا لأوامر الشريعة، وكان يقول في بعض رسائله: تخيلنا أوضاعًا ملائمة للحركات السماوية فلو تخيلنا أوضاعًا أخرى غيرها ملائمة أيضًا لتلك الحركات لما كان لذلك التخيل مانع، لأنه لم يقم البرهان على أنه لا يمكن أن يكون سوى (هذه) الأوضاع أوضاع أخرى ملائمة مناسبة لهذه الحركات. وطول الكلام، وهذه الرسالة آخر تصانيفه.
واتفق أن قد عرض له إسهال دموي، وكلما تناول شيئًا من القابضات مثل رب السفرجل وقرص التباشير وغير ذلك قاء فأيس من نفسه وقال: ضاعت الهندسة، وبطلت المعالجة وعلوم الطب، ولم يبق إلا تسليم النفس إلى خالقها وبارئها.
ثم توجه تلقاء القبلة بعد ما قاسى الإسهال بأسبوع وقال: إليك المرجع والمصير يا رب، عليك توكلت وإليك أنبت. ومات.
ومن كلماته قوله: إبذل لمعارفك (ودك)، وللمستفيد علمك، واحرص عرضك ودينك.
إذا وجدت كلامًا حسنًا لغيرك فلا تنسبه إلى نفسك، واكتف باستفادتك منه، فإن الولد يلحق بأبيه، والكلام بصاحبه، وإن نسبت الكلام الحسن الذي لغيرك إلى نفسك فسينسب غيرك نقصانه ورذائله إليك.
الإنسان مجبول على أن يتباعد ممن دنا منه، ويدنو ممن تباعد عنه موعظة الحكماء وإن قلت منفعتها عظيمة.
الحكيم أبو سهل الكوهي
كان في ابتداء أمره ممن يلعب في الأسواق بالقوارير، فأدركته عناية أزلية، فبرز في علم الحيل والأثقال والاكر المتحركة و(كان) في تلك الصنائع عديم المثيل مشارًا إليه. فتعلم الأدب على كبر سنه وصنف الكتب، واختلف إليه (لفيف) كبير من المستفيدين، وكان جميل الهيئة.
ومن كلماته في رسالة له: إن اعتذر إليك معتذر فقابله بوجه طليق إلا أن يكون ممن قطيعته غنم.
سلاحك على أعدائك أن تكون الحجة معك في كل أمر.
وقال: من أراد السلامة فلا يظهرن حب السلامة من نفسه، حتى (لا) يجترئ عليه خصمه وعدوه.
الحكيم أبو محمد العدلي العايني
صاحب الزيج العدلي، وكان مهندسًا كاملًا ولم يكن له في غير المعقولات نصيب، وكان أديبًا ماهرًا وله تصانيف منها الزيج العدلي، ومنها كتاب في المساحة، ومنها كتاب في الجبر والمقابلة. وهو قد هذب الزيج البتاني أحسن تهذيب. وكان مرجعه في ذلك التهذيب إلى الزيج الأرجاني ووجدت نسخًا كثيرة من الزيج الأرجاني بخطه ومن كلماته قوله في بعض كتبه: ليس الجصاص كالباني، ولا الباني كالمهندس، فالمهندس بطلميوس والباني هو البتاني، ومرتبتي مرتبة الجصاص وقال: قطع الكلام بعد افتتاحه سخف، والسخف دناءة.
ابن أعلم الشريف البغدادي
هو بغدادي المنشأ والمولد، وكان شريفًا من أولاد جعفر الطياروبه نزق. فصنف الزيج المنسوب إليه، واتفق المهندسون بأسرهم على أن تقويم المريخ من زبحه أصح وأقرب إلى التحقيق، ولكنه ألقى الزيج الذي له يومًا في الماء فلم يوجد منه إلا نسخة سقيمة، وكان عالمًا بالهندسة وأجزائها، عارفًا بالقانون الفيثاغوري من الموسيقى.
ومما نقل عنه، وإن كانت أخلاقه أخلاق المجانين قوله: كن إما مع الملوك مكرمًا، وإما مع الزهاد متبتلًا.
وأقول هذا كلام رصين، حوله من الحكمة حصن حصين، ولكنه رمية من غير رام.
أبو الحسن كوشيار
بن ليان بن باسهري (؟) الجبلي يروى لبان ويروى ليان بلغة الجبل الأسد. كان مهندسًا ملء إهابه، داخلًا بيوت هذا الفن من أبوابه، وكفاه معرفًا زيجه المعنون بألغ، ثم زيجه المعنون بالجامع، ثم مجمله في علم النجوم ثم سائر تصانيفه كمثل معرفة الإصطرلاب وعمله وغير ذلك. وخالفه بعض المهندسين في تقويم المريخ فاستخرج جدولًا وسماه إصلاح تعديل المريخ.
ومما نقل عنه قوله: إذا طلب رجلان أمرًا واحدًا ناله أسعدهما جدًا من لم يعرف عيوبه لم يكن مشفقًا على نفسه.
محمد بن أيوب الطبري
صاحب الزيج وأمثلة الأعمال النجومية، وكان صاحب دولة وحظ ورأيت له رسالة إلى بعض أكابر الري فيها: المروءة والصبر يقويان الضعيف ويسهلان العسير ويثمران نيل المطلوب، ويخففان عن صاحبه ثقل كل مؤنة.
أبو الصقر عبد العزيز بن عثمان
القبيصي الهاشمي لم يصنف في النجوم أحسن وأتقن من مدخله، فهو في كتب النجوم مثل كتاب الحماسة بين الأشعار.
ومن كلماته قوله: ثق بمودة من يكرمك لعلمك فإن علمك لا يزول عنك، والمال والجاه زائلان.
1 / 17
وقال: كن عالمًا كجاهل وناطقًا كصامت.
وقال: عظم في أعين الناس من صغرت الدنيا في عينه وله تصانيف في إثبات صناعة أحكام النجوم ونقض لرسالة عيسى ابن علي في إبطال أحكام النجوم.
الحكيم الأديب أبو الفرج علي بن الحسين
بن هندو كان أديبًا فاضلًا حكيمًا مقتبسًا من فوائد الحكيم أبي الخير الحسن بن سوار.
ولأبي الفرج كتاب كامل معنون بكتاب نموذج الحكمة، وكتاب آخر في فوائد علم الطب معنون بالمفتاح، والرسالة المشرقية، وكتاب النفس، ورسائل وديوان وكتب أخر.
وذكر أبو الفرج في كتاب المفتاح أن متكلمًا كان في جوارنا، وصنف كتابًا في إبطال علم الطب، وحث تلامذته على درسه، فعرض له صداع فبعث تفسرته إلى الحكيم أبي الخير، فقال الحكيم أبو الخير لرسوله قل له ضع تصنيفك في إبطال علم الطب تحت وسادتك، وضع عليها رأسك، فإنه لا حاجة لك إلى الطبيب والطب. فما عالجه واحد من الأطباء حتى اعترف ببطلان كلامه ومزق تصنيفه وتاب. ثم عالجناه وشفاه الله ﵎.
قال أبو الفرج قلت له يومًا: قال رسول الله ﷺ: العلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان، فقدم علم الأبدان لأن العبادات إنما تصدق ممن صح جسمه وثبت عقله. قال الله تعالى: ولا على المريض حرج. وقال تعالى: وإن كنتم مرضى أو على سفر. وقال تعالى: فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه. ومعالجات النبي ﵇ معروفة.
وجمعها واحد من الأطباء وصنف منها كتابًا، فاستطرد المتكلم وقال كان واحد من المتكلمين في جوارنا وعرض له خناق فعدته، فقال لي: ما ينفعني من طريق الطب؟ فقلت له: ينفعك ماء الشعير الفاتر مع ماء الرمانين، ورب التوت، وخل الجوز، وماء الهندباء، مع فلوس الخيار شنبر، وفصد القيفال وغير ذلك. فقال: وما يضرني فقلت ما فيه حرارة. فقال: كيف يكون العسل المصفى والعصيدة التمرية؟ فقلت: تعوذ بالله، ففيهما هلاكك فقال لتلامذته: أنا أخالف رأي الأطباء عقيدة ومذهبًا، ولا غفر الله لي إن خالفت عقيدتي وأطعت طبيبًا، فقمت من عنده فتناول العسل والعصيدة ومات قبل غروب الشمس. أقول ولم أجد في شرف علم الطب وفوائده كتابًا مثل كتابه المعنون بالمفتاح وكان أبو الفرج من كتاب السيدة بالري وغيرها.
ومن كلماته قوله: إنما المرء حيث يجعل نفسه.
وقال: عظم العلم في ذاتك وصغر الدنيا في عينك، واخرج من سلطان شهواتك، وكن ضعيفًا عند الهزل، قويًا عند الجد، ولا تلم أحدًا على فعل يمكن أن يتعذر منه، ولا ترفع شكايتك إلا إلى من يرى نفعه عندك، حتى تكون حكيمًا كاملًا.
العاقل لا يكلف نفسه ما لا تطيق ولا يسعى فيما لا يدرك، ولا ينظر فيما لا يعنيه، ولا ينفق إلا بقدر ما يستفيد، ولا يلتمس الجزاء إلا بقدر ما عند صاحبه من الاستطاعة.
العالم الحكيم أبو سهل المسيحي
كان حكيمًا استولى عليه الطب، وتصانيفه في الطب كثيرة مفيدة. وقد ارتبطه خوارزمشاه مأمون بن محمد، ومولد أبي سهل في جرجان، وقد نشأ وتعلم ببغداد. وصنف كتابًا لطيفًا في التعبير لخزانة خوارزمشاه مأمون بن محمد.
وكان أبو سهل نصراني الملة إلا أنه كان لا يحضر مع النصارى ويتعبد في منزله.
ومن حكمه قوله: أكرم الناس من له حسب يعينه على الشرف ونجدة وجود تعينه على المكارم، وجدة نجدة تعينه على العز. وخير العاقل مرجو على كل حال، وشر الجاهل مخوف على كل حال.
العاقل يعد نفسه فريدًا من تخليط أهل زمانه.
إنسان لا عقل له ولا علم كتمثال لا روح له.
وقد صنف أبو سهل كتابًا في النفس ثم ترجمه فقال فيه: من لم يرض بما عنده من أسباب المعاش، لم يرض بإضافة مال غيره إلى ماله فإن غريزة الإنسان لا تشبع.
وقال كيف أعدل عن حكم المسيح، والنار نازلة في كنيسة القيامة في المسجد الأقصى (وتدل) تلك النار أن الليلة التي رفع الله فيها عيسى إلى السماء ليلة النصف من نيسان وفي هذه الليلة كل سنة كانت تنزل نار من الأثير بحيث يراها الناس، وتشتعل قناديل القيامة من غير أن تكون كوة ولا فرجة في سقف ذلك البيت بل نغوص النار في السقف ومن غير أن يحرق الخشب.
ثم توقد السرج والمشاعل، فإذا طلع الفجر انطفأت.
وقد صنف أبو زكريا يحيى بن عدي تلميذ أبي نصر الفارابي كتابًا وبين الأمر الطبيعي في ذلك.
أبو زكريا يحيى بن عدي
1 / 18
كان حكيمًا كاملًا وهو أفضل تلامذة أبي نصر، وله تصانيف كثيرة، وكان يشرح كتب أرسطو ويلخص تصانيف أبي نصر.
ومن كلماته: العاقل مع خشونة العيش عند العقلاء، أسر منه مع لين العيش مع السفهاء.
العاقل لا يغتر بالمرتقى السهل إذا كان المنحدر وعرًا لم يعرف الحق من لم ينفصل من الباطل.
الفيلسوف بهمن يار الحكيم
كان تلميذ أبي علي، وكان مجوسي الملة، غير ماهر في كلام العرب وكان من بلاد آذربايجان. والمباحث التي لأبي علي أكثرها مسائل بهمن يار، تبحث عن غوامض المشكلات ومن تصانيف بهمن بار كتاب التحصيل، وكتاب الرتبة في المنطق وكتاب في الموسيقى ورسائل كثيرة.
ومن حكمه قوله: المال محروس والعقل حارس العقل أنيس في الغربة.
الصدق معشوق العقلاء.
إذا أصابك هم فاقمع الحزن بالحزم، وفرغ العقل للحيلة وطلب الخلاص.
اللذات العقلية شفاء لا يعقبه داء، وصحة لا يلزمها سقم من تعلم العلوم العقلية ولم يتخلق بأخلاق أربابها كان جاهلًا بحقائق العلوم.
تظهر أخلاق الحكماء على من تعلم الحكمة، كما تظهر آثار الربيع على البستان.
كل حكيم طلب زيادة على حاجته من المال فإنه علم الحكمة وليس له ذوقها.
لا تحزن بسبب أمر قد يقع، واجتهد في إزالته ودفعه، واحذر مما لم يقع ولا تحزن، واعلم أنه لا بد من المقدور.
ومات بهمن يار في شهور سنة ثمان وخمسين وأربعمائة بعد موت أبي علي بثلاثين سنة.
الحكيم أبو منصور الحسين بن طاهر بن زيلة
كان أصفهاني الأصل والمولد وهو من خواص تلامذة أبي علي ومن بطانته.
و(قيل) انه كان مجوسي الملة، ولكن لم يتحقق لي ذلك.
وكان عالمًا بالرياضيات، وماهرًا في صناعة الموسيقى أيضًا ومن تصانيفه الاختصار من طبيعيات الشفاء وشرح رسالة حي بن يقظان وقال: الحي عبارة عن النفس الكلية، واليقظان عبارة عن العقل، لأنه أشبه بالحي من النائم. وهو قابض على النفس، وهو إشارة إلى ترتيب الموجودات نازلة مسلسلة الترتيب. وله كتاب في النفس ورسائل أخر وكان قصير العمر مات في سنة أربعين وأربعمائة بعد موت أبي علي باثنتي عشرة سنة.
ومن كلماته وأقاويله، وكان عارفًا بعلوم العرب، كاملًا في صناعة الإنشاء، قوله: لا تتفكر في الأمور المستقبلة فإنك لا تدري ما يأتيك منها وما لا يأتيك.
إذا عادى بعض أعدائك بعضًا كان في اشتغال بعضهم ببعض شاغل عنك، وإذا تنازعت القوة الشهوانية والغضبية فرغت أنت من أذيتهما لذلك قال أرسطو: أصلح الشهوانية بالغضبية والغضبية بالشهوانية وإذا أصابك شر فقل ربما يكون أردأ منه ولعل الذي كرهت من (ذلك) الأمر داع إلى ما هو خير منه.
الفقيه الحكيم أبو عبيد عبد الواحد الجوزجالي
كان من خواص أبي علي، وأحلاس مجلسه، وندمائه وخدمه، وهو الذي أعان أبا علي على جمع كتاب الشفاء، وألحق بآخر النجاة والرسالة العلائية طرفًا من العلوم الرياضية، وفسر مشكلات القانون وشرح رسالة حي بن يقظان، وصنف بالفارسية كتاب الحيوان، ومنه نسخة في الخزانة النظامية بنيسابور.
ولم يوجد في تلامذة أبي علي أقل بضاعة منه. وسمعت بعض أساتذتي أنه قال: الحكيم أبو عبيد كان في مجلس أبي علي شبه مريد لا شبه تلميذ مستفيد.
ومن كلمات أبي عبيد قوله: ثلاثة أشياء القليل منها خير من الكثير: صحبة السلطان والنساء والمال.
وقال: من الذي صحب السلطان فدامت له (منه) السلامة؟ وقال: معرفة الإنسان عجزه عن كمال معرفة الله تعالى غاية علم الإنسان، وتلك معرفة برهانية.
الوجود خير، أي وجود كان، والخير مطلوب وقال: الإنسان (يعلم) أنه لا يبقى بالشخص بل بالنوع، وبقاؤه بالتوالد، فإذا هلك له ولد فهو يجزع على انقطاع بقاء شخصه، ويعلم أن شخصه لا يبقى، وإنما يبقى نوعه بالتوالد والتناسل، ولذلك قيل لا حزن أعظم من حزن هلاك الولد، لأنه متيقن بهلاك شخصه، ويتخيل بقاء جزء منه وهو الولد.
الإنسان حريص على طلب ما يتعذر إدراكه ويعسر.
أبو عبد الله المعصومي الحكيم
قيل هو أحمد وقيل هو محمد بن أحمد. كان أفضل تلامذة أبي علي، وهو الذي صنف أبو علي باسمه كتابه في العشق وقال: سألت أسعدك الله يا أبا عبد الله الفقيه المعصومي.
1 / 19
ولما أجاب أبو علي عن أسئلة أبي الريحان اعترض على تلك الأجوبة أبو الريحان وتفوه بكلمات متضمنة سوء أدب وسفاهة فامتنع أبو علي عن مناظرته، فأجاب المعصومي عن اعتراضات أبي الريحان وقال: لو اخترت يا أبا الريحان لمخاطبة الحكيم ألفاظًا غير تلك الألفاظ لكان أليق بالعقل والعلم.
وصنف المعصومي كتابًا في المفارقات، وأعداد العقول والأفلاك وترتيب المبدعات. وكانت في الخزانة النظامية بنيسابور منها نسخة فأخذها جمال الملك بن نظام الملك، ولا ندري أطارت بها العنقاء، أم أدركها الفناء. وكان هذا الكتاب معشوق كافة الحكماء، وكان أبو علي يقول للمعصومي: هو مني بمنزلة أرسطو من أفلاطن. ورأيت رسالة في عالمية الله تعالى إلى المعصومي، ولم يتحقق لي أنها له أو لغيره، والغالب على ظني أنها له، والله أعلم.
ومن كلماته قوله: ليس لمتكبر مادح، ولا لغدار حبيب، ولا لملك ظالم استقامة ملك. السلطان والمتمول والشاب (سكارى) يدعوهم سكرهم إلى غير المنافع.
العلماء إذا اجتمعوا طالع بعضهم بعضًا، وعرف بعضهم فضيلة بعض، والجهال لو اجتمعوا طول أعمارهم لما عرف بعضهم (جهالة) بعض، العجلة شجرة لا تجتني منها إلا ثمار الندامة، وطلعها يشبه رؤوس الشياطين.
دأب الحكيم التروية في الجواب بعد استيعاب الفهم.
ليس بإنسان من تكلم بغير روية سابقة.
أبو الحسن الأنباري الحكيم
كان حكيمًا، والغالب عليه علم الهندسة، وكان الحكيم عمر الخيام يستفيد منه وهو يقرر له المجسطي، فقال بعض الفقهاء يومًا للأنباري ما تدرس؟ فقال أفسر آية من كتاب الله تعالى، فقال الفقيه: وما تلك الآية؟ فقال الأنباري قول الله تعالى أو لم يروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها، فأنا أفسر كيفية بنائها.
ونقل عنه قوله: الساعي غاش وإن قال قول النصيح.
إذا هممت بشر فسوف الصدق يقبله منك العدو، والكذب ترده عليك نفسك كن للهوينا عند النوازل تاركًا، وكن لأعدائك من الشهوانية والغضبية غلوبًا وكن للصدق مؤثرًا حتى يصدق فكرك ورؤياك، وتسلم من غوائل الكذب.
الأديب الحكيم إسماعيل الهروي
كان حكيمًا أديبًا فاضلًا (له) أشعار وتصانيف في الحكمة. وكان يدرس كتب أبي نصر، ولا يخوض في تصانيف أبي علي، وله تلامذة حكماء فضلاء يأتي ذكرهم.
ونازعه يومًا خطيب هراة وقال: أنا أدعو عليك بين الخطبتين. فقال له الأديب: تيقنت أن الله تعالى لم يستجب دعاءك، لأنك تقول كل جمعة في مدة عمرك، اللهم أصلح الأمير فلان بن فلان، والله تعالى ما أصلحه، وما استجاب دعاءك فيه.
ومن كلماته الحكمية: الموت هو الفطام الثاني إن أضعت عقلك فقد استخدمك عدوك الهوية تعرف حقيقتها بالحد، ويدرك ذوقها بتزكية النفس.
الحكيم ميمون بن الجيب الواسطي
كان طبيبًا فاضلًا حكيمًا، وسمعت أنه كان يحفظ المنطق والطبيعيات والإلهيات من كتاب الشفاء. وقلما يخالط أرباب الجاه والمال. وكان شرف الدين ظهير الملك علي بن حسن البيهقي (عامل) هراة مدة، ويشتاق إلى محاورة الحكيم ميمون، وميمون عزيز النفس قليل الإختلاف إلى أولياء السلطان، فإذا مرض الظهير، أو مرض واحد من أولاده، أنزل ظهير الملك الأتراك في دار ميمون، حتى أزعجوه وصيروه مضطرًا إلى رفع الحال إلى العامل، فعند ذلك يرتبطه ظهير الملك حتى يعالج مرضه، ويجاوره ويجالسه مدة.
ومن حكم ميمون قوله: إن نلت حاجة برأي خطأ فلا يشجعنك ذلك على معاودة الخطأ تارة (أخرى) العاقل من إذا نزل عليه بلاء لم يدهشه عن طلب الحيلة، وهذا هو الحزم، والعاجز هو الذي يدهش في البديهة ولا يعد لما لم يأت عدة.
لا ينفع القول، وإن كان حكمة وصوابًا، مع سوء الإستماع. وسمعت أن ميمون بن النجيب كان واسطي الأصل، خوزي المولد، مقيمًا بهراة.
الحكيم أبو الفتح كوشك
كان حكيمًا صاحب حكيمًا (وهو) صاحب خاطر قوي، ورأيت كتبه في خزانة السلطان الأعظم سنجر، وكان السلطان مشغوفًا بكتبه، بسبب حسن اعتقاده فيه، وكان أبو الفتح عارفًا بأجزاء علوم الحكمة.
1 / 20