51

Kesan Teratai

تأثير اللوتس: رواية عن جزيئات النانو في أبحاث الطب الحيوي

Genre-genre

شجاعة بحق، فكر أندرياس حين رأى فاندا في المقدمة، فمجرد تصور أن يظهر أمام جمع من الناس كان يصيبه بعدم الارتياح؛ ولهذا السبب جاء من أعلى، واختار الدخول من الباب الخلفي لقاعة المحاضرات، وجلس أقصى اليسار في الثلث الأول من مقاعد المنتصف. مكان ليس في الصفوف الأولى، لكنه قريب بما يكفي لرؤية تعبيرات وجه المتحدث جيدا. كان يسهل عليه متابعة المحاضرة بشكل أفضل حين تصله جوانب من الإنسان نفسه، وليس مجرد صوت المحاضر المقوى بالأجهزة التقنية. شغل المقعد المجاور له بكوفيته، وكانت السعادة قد غمرته طيلة اليوم بسبب هذا اللقاء، إلا أنه لم يكن متأكدا ما إذا كانت فاندا ستأتي حقا، رغم أنها هي من اقترحت هذا المكان. «حسنا، أراك مساء الاثنين حيث ستلقى سلسلة المحاضرات في مبنى الدراسة العامة.» كان لا يزال يسمع نبرة صوتها الدافئة العميقة، ثم أضافت بشيء من الاستهتار: «سيتحدث أحدهم عن تأثير اللوتس، بالتأكيد هذا نوع من إسهام فيزياء النانو لتحسين الإنسان.»

حين كان يبحث قبل بضعة أسابيع على الصفحة الرسمية لعلم السموم عن شخص يتواصل معه، لفتت انتباهه على الفور. كانت هي السيدة التي صادفها في القطار حين كان عائدا لتوه من جنازة والده بميونيخ، وهو ذات اليوم الذي رحلت فيه لاريسا إلى نيكاراجوا. كان هذا قبل ما يزيد عن ستة أشهر. منذ ذلك الحين والأحداث تمر مرور الكرام، هذا إن وقعت أحداث أصلا. كان لا يزال محبوسا في زقاق لوم الذات المظلم منتظرا أن يفتح باب من مكان ما.

حين تأملها في وقفتها تلك بدت هيئتها منكمشة على نحو ما، رغم أنه لا يذكر أنها ضئيلة البنية. جذبه جسدها المدملج، لكن موضة الشتاء التي تميل إلى الانتفاخ أزعجت إحساسه بالنسب الجمالية. في مخيلته حاول أن يستبدل بحشو بطانة سترتها الثقيل قماشا آخر أخف وأكثر انسيابية، وبحسب نجاحه في ذلك كانت تظهر له فاندا إما في صورة تمثال ربة خصوبة أنيقة، أو لاعبة هوكي ضخمة البنية. رأى كيف جالت ببصرها بانتظام باحثة بين صفوف المقاعد، وعندما نظرت تجاهه رفع يده. انعكست على وجهها تعبيرات سعادة لرؤيته، لكنه استشف أيضا أمارات إرهاق وشحوب تخفيها، ولم يتبدد هذا الإحساس إلا عندما رأى عيني فاندا الباحثتين عنه وهي تصعد درجات السلم وصولا إليه، وحين وقفت أمامه، لفتت انتباهه تلك التجزعات البنية في قزحية عينها الخضراء مثل شجر الزيزفون. فكر حينها في الصيف وفي قطع الشوكولاتة المنثورة فوق آيس كريم الفستق. أما بياض عينيها فكان يلمع ببريق معدني فوق خط الكحل الداكن على جفنها السفلي، وعلا شفتيها بريق خفيف. لقد تزينت. «هل المكان مناسب؟» سألها أندرياس وهو يسرع بسحب الكوفية من فوق المقعد المجاور، ثم خرج من الصف كي يسمح لها بالدخول. «إنه الأفضل» أجابته باسمة ثم سحبت المقعد للأسفل كي تجلس، ثم أضافت: «لا بد من إبقاء طريق الهروب مفتوحا دوما في حال صار الأمر مملا.» كانت تفوح منها روائح حدائق الليمون حين تمر بها الرياح المعبقة بعبير النعناع. رأى كيف أخرجت كراسا وقلما من حقيبتها، وكيف تحررت أخيرا بمهارة من البالون الذي كانت ترتديه. •••

حين وقفت فاندا أمامه أدركت على الفور ما الذي دفع بها إلى أزمة قلة الملابس تلك، لقد كان أندرياس يقدسها، وهي أرادت لهذا الوضع أن يستمر. بالنسبة لشاب في مثل عمره كان أندرياس يبدو حسن الهندام، وكانت ملابسه المنتقاة بعناية قد لفتت انتباهها في المعهد مؤخرا. لم يكن يرتدي قطعا باهظة الثمن للمصممين المعروفين، لا، وإنما كان يضفي لمساته الخاصة بمهارة، فتخرج طلته في صورة متفردة، بل تكاد تكون متمردة. لم تكن بثيابه مسحة الإهمال تلك التي تميز شاب أواسط العشرينيات، ورغم ذلك فقد بدا لها أنه ببساطة فتح علبة ألوانه ليغرق المعطف الذي يرتديه في اللون البرتقالي المشرق مثل قرع العسل، ليتناغم بروعة مع لون بشرته الداكنة وليجعله يبدو أكثر نضجا. لم تفكر فاندا يوما أن الألوان الزاهية يمكن أن تضفي رجولة على من يرتديها. رأت الخاتم في يده اليمنى فانتابها شعور عابر أنها قد عايشت كل هذا مرة من قبل. تفرست نظراته في رقبتها العارية، ثم انزلقت على ذراعيها، حتى وصلت إلى يديها، ثم رفع بعدها رأسه ببطء ونظر أمامه.

حيا منظم الندوة الحاضرين، ثم قدم المحاضر الذي شكره بدوره، وسرعان ما انساب صوته عبر مكبرات الصوت كما لو كان سيروي للحاضرين حكاية خرافية. بدأ محاضرته قائلا إنه منذ أكثر من ألفي عام ونبتة اللوتس المقدسة - المعروفة في اللاتينية باسم نيلومبو نوسيفيرا - التي يتم تبجيلها في آسيا باعتبارها رمزا للنقاء، لا تعد زهرة مائية، وإنما نبات ذو فصيلة قريبة من نبات الخشخاش، وعلى الأرجح فإن لثمرتها المليئة بعصارة حليبية مشبعة بمورفين شبه قلوي تأثيرا مخدرا. بالمناسبة النبتة بكاملها صالحة للأكل، وتعد مكسبا لذيذا للمطبخين الهندي والصيني. ما زالت فاندا تتذكر جيدا كيف ساءت حالتها عندما ضعفت مرة ثانية وتركت زابينة تقنعها بزيارة المطعم الصيني، فبعد تلك الليلة المريعة في سانتا فيه كانت قد اقتنعت بأنها لا تحتمل طعام المطبخ الصيني، فقد كرهت العصي، بل وكرهت نفسها لأنها لم تتمكن من التعامل معها. لقد كانت ببساطة نافدة الصبر، وكانت هذه الطريقة الغريبة في تناول الطعام تحطم أعصابها وتثير نفورها من خصوصية تلك الثقافة في الطعام. كانت تواسي نفسها بفكرة أن تلك الحصص الضئيلة تظل بلا تبعات مزعجة تؤثر على وزن الجسم. أما زابينة فقد تسلت على حساب فاندا، وروجت لما أسمته «رجيم مشهيات النانو» «كل لقمة فريدة من نوعها» كان هذا هو الشعار الذي صاغه برنامجها المكتوب وفق المعارف اللغوية-العصبية. لقد انشغلت زابينة في وقت ما بهذا الموضوع. طريقة توصيل الطعام إلى الفم هو الحدث المرضي الأهم والذي ينبغي تكراره بصورة أكبر أو أقل بحسب نمط الإنسان في الإدراك، ولا يخشى من التبعات السلبية على الأنماط عالية التكرار في عملية توصيل الطعام إلى الفم، والتي تؤدي إلى سرعة اختفاء اللقيمات من الصحن، على العكس قد يؤدي ذلك إلى توليد إحساس مبكر بالشبع. كانت هذه هي فرضيتها. زابينة كانت ترى أيضا أن العلماء، كون معظمهم من الأنماط التي تعتمد على حاسة السمع بشكل كبير، سيسمح لهم أيضا أن يتكتكوا بهذه العصي، خصوصا لو استبدلت العصي الخشبية بأخرى معدنية، وهو أمر قابل للتحقيق بلا أية مشاكل. وفي النهاية فقد نسيتا أن تحصلا على براءة اختراع لهذه الفكرة.

سرعان ما اضطرت فاندا للاعتراف بأن زهرة اللوتس لم تكن مجرد نبتة تؤكل أو تخدر، لكنها كانت مقدسة بحق. أظهر العرض صورة زهرة ذات برعم وردي رقيق على خلفية من الأوراق ذات اللون الأخضر الداكن، فبدت وكأن نورا ينبثق من بين فوضى وقذارة. كان هذا على الأقل هو رأي البوذيين الذين اتخذوا من زهرة اللوتس واحدا من مقدساتهم الثمانية، إلا أن «البيونك» أفشى السر المقدس كما قال المحاضر الذي كان حريصا على إضافة لمحة من السخرية على خطابه، وهو يعرف «البيونك» بأنه الاندماج بين علم الأحياء والتقنية، وهو لا يزيد عن كونه مجاراة للطبيعة. فالعلماء المنشغلون بهذا المجال لا يزيدون عن كونهم مقلدين ينقصهم الخيال، يقومون بدراسة الأوراق ليستخرجوا منها اكتشافاتهم، ثم ينقلون الظواهر التي قاموا بملاحظتها إلى مواد تقنية مثل المعادن والأقمشة الصناعية. وورقة اللوتس على وجه الخصوص أسدت لهم صنيعا جليلا؛ إذ إن جزأها العلوي الشمعي مغطى بنتوءات هي عبارة عن أنوف شمعية صغيرة لا ترى إلا تحت الميكروسكوب، وهي تتكون - إن شئنا الدخول أكثر في التفاصيل - من أنابيب متناهية الصغر من الجزيئات التي يصل قطرها إلى مائة وعشرة نانومترات، والمفترض أن سر النظافة يكمن خلف هذه الأشكال.

كان الهيكل النحيف الذي يرتفع وراء منصة المحاضرين معبرا عن فصيلة حديثة من الباحثين تثير التعاطف، إذ كان يتحدث عن التطور في تقليد النماذج الحيوية، وكان يقصد بذلك الأسطح ذاتية التنظيف التي تعمل وفق مبدأ تأثير اللوتس. «من تأثير لوتس لتأثير لوتس يا قلبي لا تحزن»، تفكرت فاندا ساخرة. لن تضطر إلى تنظيف المرحاض ثانية، وستنعم بنهاية عمليات حك القشرة المتكلسة على صاج الخبيز التي صارت تتكوم في المطبخ في الآونة الأخيرة. لم تكن تحب التنظيف، وكان منظر شقتها المهملة وحده كافيا لدفعها للخروج إلى الشارع، إلى العمل، إلى الحياة. فهل تنجح الأسطح الطاردة للقذارة في تحويلها إلى إنسانة بيتوتية؟

لا، لن يمكن لتأثير اللوتس أن يحدث الكثير في مجال النظافة، هذا ما يقوله المحاضر الآن كما لو كان بإمكانه أن يقرأ أفكارها، فذلك المجال يعمل وفق مبدأ «سهل التنظيف»، وعلى عكس المبدأ المذكور سلفا فإنه يعتمد على الأسطح فائقة النعومة. كما أن الصابون يوقف تأثير اللوتس مؤقتا. وللحظة رأت فاندا وجه أمها المحتقن غضبا أمام عينيها، وهي واقفة على الدرج المصنوع من حجر رملي أمام باب المنزل تضرب فقاعات الصابون بفرشاة دعك البلاط. قال المحاضر: «رهاب المياه المفرط ليس اضطرابا نفسيا ناجما عن الخوف الزائد من المياه.» ثم ترجم المصطلح قائلا: «عدم القابلية للبلل بدرجة فائقة هو المفتاح لما قد يكون أهم وظيفة تقوم بها هذه الأسطح الطبيعية، ألا وهي التنظيف الذاتي.»

لم تكن فاندا منتبهة. تخيلت كيف أن شتورم، بفصاحته المعهودة، تمكن من بيع بيانات زابينة كمنتج تم تلميعه بعناية، فزال عنه كل شك تماما كما تتساقط قطرات الندى من ورقة اللوتس؛ وبسرعة أدخلت يدها في جيب سترتها. ألم يكن يتعين عليها أن تكون مستعدة للمساعدة في أي وقت؟ ولحسن الطالع كان هاتفها المحمول مفتوحا، فتنهدت فاندا بصوت خفيض. لقد خرج الأمر من يدها. في النهاية هي تعرف أن ما سيقدمه شتورم في بوسطن ما هو إلا نصف الحقيقة؛ إذ ظلت معلومات ضرورية ناقصة، الأمر الذي يضعف من بيانات زابينة على نحو حاسم مهما كانت واعدة، وكل ما سجلته عن اضطراب سلوك الحيوانات من شأنه أن يلقي ضوءا جديدا على تأثير العلاج. لكن شتورم أصر ألا يعرف شيئا عن ذلك، ليتمكن دائما من الادعاء بأنه لم يخبر بالموضوع. ترى ألهذا لم يشأ أن يتحدث معها مرة أخرى قبل سفره؟

الحال واحدة في كل مكان؛ فالرؤساء يريدون عادة رؤية نتائج جاهزة؛ أي أرقاما يشيدون بها لأنفسهم مباني من الأفكار ثم يهدمونها، فهم لا يهتمون بالثابت. وكم من معماريين بينهم ضلوا الطريق بحق، والماكرون منهم ينهون التجارب في اللحظة المناسبة التي تبدأ فيها النتائج تزعجهم بانحرافها عن المسار المرجو. إن هذه الأبنية ذوات الأعمدة لمقامة على أساسات من خشب هش، حتى من قبل أن ترفع قواعدها. يساعد على ذلك تلك العملية المألوفة لدى العلماء، ألا وهي عملية قراءة البيانات، ففيها لا تبدو كل نقطة قياسية ذات قيمة ليتم اعتبارها في الحسابات؛ إذ يتم استخراج البيانات المشكوك فيها من سلة البيانات بنية طيبة ليس إلا، وهي إرضاء الرئيس، هي نفسها أزاحت بضع نقاط قياسية من قاعدة بياناتها آنذاك في روتشيستر ليتضح الفارق أكثر بين مجموعات التجارب، فحين تكون البيانات متجانسة لا يترك ذلك ثمة مجالا لنقد البحث، ويضحى نشره أسهل. وفي النهاية لا ينبغي إهمال تسويق المنتج. كثيرون فعلوها على ذلك النحو. على الأقل كان ذلك هو الحل المتداول من الجميع، والذي بدا أنه يضفي شرعية على طقوس التطهير تلك. «عبر عن نفسك بكلام موجز» هذه واحدة من تعليمات النشر في الدوريات العلمية، والتي تؤدي غالبا إلى غض الطرف عن المعلومات المزعجة. «الطبيعة مهملة.» سمعتها فاندا الآن من المحاضر، في حين عرضت الشاشة فوقه صورة أبيض وأسود لتحليل مجهري إلكتروني يظهر الجانب العلوي لورقة نبات اللوتس. ثمة أنماط مختلفة بعدد الأنوف في هذا العالم؛ فهناك الأنوف الصغيرة مرتفعة الأرنبة، والأنوف الدائرية البدينة المصنوعة من الورق المقوى، والأنوف الضخمة المدببة، والأنوف الشبيهة بأنف الفأر مدبب البوز، فضلا عن الأنوف التي تشبه مقدمة الطائرة. وحده الأنف الشبيه بخرطوم الفيل لم تتمكن فاندا من العثور عليه . كانت بعض الأنوف مائلة، بينما وقفت الأخرى مستقيمة، بحيث يرقد أي جزيء قذارة فوقها كما يرقد الناسك على لوح المسامير، حتى قطرات الماء لم تكن لتجد لنفسها سوى نقاط احتكاك ضئيلة جدا على هذا السطح المدبب، فتتجمع بعضها مع بعض مبتعدة عنه، غاسلة في طريقها أي وسخ. هذا هو سر عدم القابلية للابتلال كما أوضح المحاضر؛ إذ إن ابتلال أي جسم صلب بالماء يتعلق أساسا بالتوتر السطحي بين الماء والهواء، فهو الذي يحدد أي زاوية من زوايا قطرة الماء هي التي ستتصل بالسطح، فإن انفرجت الزاوية إلى 140 درجة فأكثر صرنا نتعامل مع ظاهرة سطح يتسم برهاب المياه المفرط. وأدرج العلماء هذا الاكتشاف في كتاب براءات الاختراع الكبير تحت اسم تأثير اللوتس. «حين عرضنا ظاهرة تأثير اللوتس في نهاية التسعينيات لم يصدقنا في البداية أحد إطلاقا.» قال المحاضر متباهيا ومط جملته مستمتعا بضحكته الصفراء: «كتب أحد المحكمين في مجلة «ساينس» أن الادعاء بوجود تأثير اللوتس لا يتحقق إلا في خيال المؤلف، ورفض نشر البحث.» ثم ابتسم المحاضر؛ فنجاح بحثه ساعده على نسيان هذه التجربة المهينة منذ وقت طويل. فكرت فاندا أنه ربما تكون الاستعارة مزعجة بالنسبة للمحكمين، ربما مزيد من تأثير اللوتس في أدمغة المختصين كان من شأنه أن يغسل العديد من المنتجات الموجودة حديثا في مجال الخلايا الجذعية، لتلقي بها في التو إلى البالوعة. أيضا ربما كان ينقصه وقتها أن ينال حماية كافية من المجتمع العلمي. كان يستطيع أن يحاضر بكفاءة، ورغم ذلك بدا وكأنه يختبئ في ظل بحثه، ودائما ما يلفت أسماع الحاضرين لموضوع محاضرته. إنه يختلف تماما عن تلك الأنماط اللامعة من زملائها، والتي يسهل تصور أنهم ينتمون لمهنة أخرى. والموضة الآن أن يبدو العلماء مثل بائعي المكانس الكهربية.

Halaman tidak diketahui