تصدير
مقدمة
مقدمة تاريخية
1 - نشأة التصوير الفارسي
2 - مدرسة بغداد أو مدرسة العراق
3 - المدرسة الفارسية التترية
4 - عصر تيمور وخلفائه
5 - بهزاد ومعاصروه - مدرسة بخارى
6 - المدرسة الصفوية
7 - عصر الشاه عباس وخلفائه
مراجع
تصدير
مقدمة
مقدمة تاريخية
1 - نشأة التصوير الفارسي
2 - مدرسة بغداد أو مدرسة العراق
3 - المدرسة الفارسية التترية
4 - عصر تيمور وخلفائه
5 - بهزاد ومعاصروه - مدرسة بخارى
6 - المدرسة الصفوية
7 - عصر الشاه عباس وخلفائه
مراجع
التصوير في الإسلام عند الفرس
التصوير في الإسلام عند الفرس
تأليف
زكي محمد حسن
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد، فهذا كتاب صغير أرجو أن أكون قد وفقت فيه إلى حاجة الذين يريدون أن يدرسوا نشأة فنون التصوير وتطورها في إيران، أو قل في العالم الإسلامي كله؛ فبلاد الفرس كانت أكثر الأمم الإسلامية عناية بصناعة التصوير وأسبقها في هذا المضمار.
أما التصوير الذي ازدهر على ضفاف النيل، فإني أعقد للكلام عليه فصولا في كتابي عن الفن الإسلامي في مصر، وفي بلاد الهند تصوير إسلامي سوف يكون موضوع أبحاث أنشرها في المستقبل.
وإني أشكر أستاذي الدكتور عبد الوهاب عزام لتفضله بمراجعة أصول هذا الكتاب، كما أشكر الأساتذة أعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر - ولا سيما أستاذي الجليل أحمد أمين - لعنايتهم بطبعه.
ولن يفوتني أن أنوه بما أنا مدين به للأستاذ الكبير جاستون فييت من إرشاد وتشجيع.
زكي محمد حسن
تصدير
بقلم المستشرق الكبير الأستاذ جاستون فييت مدير دار الآثار العربية
لست في حاجة إلى أن أقدم للقراء المصريين الدكتور زكي محمد حسن، فقد يكون مؤلفه الكبير عن الدولة الطولونية قد مر دون أن يسترعي انتباه جمهور كبير في مصر؛ لأنه كتب باللغة الفرنسية، ولكن الدكتور زكي لم يكن لديه بد من كتابته بهذه اللغة، فقد أعده ليحصل به على درجة الدكتوراه من السوربون. وهذا الكتاب يشهد على كل حال بأن الدكتور زكي يملك ناصية اللغة الفرنسية ويجيدها إجادته لغة بلاده.
وإني لشديد الرغبة في أن ينقل الدكتور زكي إلى العربية هذه المؤلف التاريخي البديع؛ حتى يستطيع المثقفون المصريون ممن لا دراية لهم باللغة الفرنسية أن يروا إلى أي حد استطاع المؤلف أن يلم بموضوعه إلماما شاملا وأن يعالجه في شعور وطني أثر في أثرا بالغا.
وقد عاد الدكتور زكي إلى مصر بعد دراسات واسعة ومثمرة في فرنسا وألمانيا وإنجلترا وإسبانيا، وتسلم كأمين لدار الآثار العربية العمل الذي تؤهله له دراساته وأبحاثه. وكان أول همه أن يكون إنتاجه ظاهرا منذ رجوعه إلى وطنه فألف الجزء الأول من كتاب عن تاريخ الفن الإسلامي في مصر، وسارعت دار الآثار العربية إلى طبع هذا الكتاب على نفقاتها، فهو الأول من نوعه في اللغة العربية، وقد وفق فيه الدكتور زكي إلى إطلاع مواطنيه على الدراسات التي قام بها العلماء الأوربيون في هذا الميدان وإلى الأخذ بنصيبه فيه. والحق أن العلماء المتكلمين باللغة العربية يلزمهم أن لا يجهلوا تصانيف المستشرقين؛ إن لم يكن للموافقة على ما فيها فلإعلان ما عسى أن يكشفوه في نتائج أبحاثهم من أخطاء، كما أن المستشرقين لا يستطيعون أن يغضوا الطرف عن المؤلفات المكتوبة بالعربية.
ولذا فإني بصفتي غربي تربطه بالشرق دراسات طويلة، وباعتباري مدير دار الآثار العربية أشعر بسرور مزدوج في أن أقدم إلى القراء المصريين هذا المؤلف الجديد الذي كتبه الدكتور زكي. •••
وفي الواقع إن تصوير المخطوطات من أطرف نواحي الفن الإسلامي وأكثرها إمتاعا. والدكتور زكي حسن، بفضل ما نعهده فيه من المزايا، يعرض لما هذا الموضوع عرضا دقيقا واضحا يشعر بأنه يحبه حبا جما. ولا ريب في أن تذوقه الفن في تلك الصور وفرط إعجابه سهلا عليه التعمق في دراستها.
ويرى القراء أن الدكتور زكي يبدأ كتابه بمقدمة تاريخية لازمة يستعرض فيها تاريخ إيران لينتقل بعد ذلك إلى دراسة نشأة التصوير الإسلامي وتطور هذا الفن في بلاد إيران مع العوامل التي أثرت فيه. وقد وفق المؤلف إلى شرح المدارس المختلفة وبيان مميزات كل منها، والمصورين الذين نبغوا وكانت لهم مواهب ممتازة تفوقها كلها مواهب زعيمهم بهزاد.
وإني عظيم الأمل في أن يجد القراء المصريون في قراءة هذا المؤلف الجديد ما وجدته في قراءته من فائدة واغتباط.
القاهرة في فبراير سنة 1936
مقدمة
بقلم الأستاذ الجليل الدكتور عبد الوهاب عزام
1
حرم الإسلام تصوير ذوات الروح قضاء على الوثنية في كل مظاهرها، فلم يعن المسلمون بتصوير الإنسان والحيوان، ووجهوا عنايتهم، حينما ازدهرت حضارتهم، إلى النقش والخط وتصوير النبات والجماد، فأتوا في ذلك بآيات من الجمال.
على أن المسلمين ترخصوا على مر الزمان في تصوير ذوات الروح وتجسيدها، ولا سيما في العصور المتأخرة، القرن السابع الهجري فما بعده.
ففي قصر عمرا الذي كشفت بقاياه في بادية الشام، ويظن أن بانيه أحد الأمراء الأمويين، صور كثيرة حيوانية ونباتية، فلم يقتصر الأمويون على صور النبات والجماد، التي نرى مثالها الجميل في الفسيفساء التي لا تزال تزين جدران جامع بني أمية بدمشق.
وقد روي أن المنصور العباسي حينما بنى بغداد أمر أن يوضع على إحدى قبابها صورة فارس تحركها الريح. وكذلك كشفت آثار سامرا وآثار الفاطميين في مصر عن صور حيوانية كثيرة، ولا تزال آثار الأندلس شاهدة بمثل هذا.
وكانت الكتب الإسلامية من أجمل المظاهر للفنون الجميلة في الخط والنقش والتذهيب والتلوين، وكانت صفحاتها أوسع مجال للصور الروحية التي نفر منها المسلمون دهرا.
ففي القرن السابع الهجري أولع الناس في العراق بالتصوير في الكتب لتمثيل بعض قصصها، ومن أنبه الكتب في هذا مقامات الحريري؛ فقد أغرم المصورون بتمثيل نوادر أبي زيد السروجي، فمثلوا كثيرا من أزياء ذلك العهد وعاداته، وفي المكتبة الأهلية بباريس نسخة من المقامات فيها زهاء مائة صورة صورت في منتصف القرن السابع الهجري.
وكان في مصر والشام لهذا العهد اهتمام لتصوير الكتب كذلك.
ثم تجلى هذا الفن في البلاد الفارسية، ولم يقف المصورون هناك عند حد فصوروا حتى الأنبياء والصحابة. وقد كان للفن هناك أطوار متداولة بتأثير الفن الصيني، وبترقيه على مر الزمان، وقد تولى رعايته الملوك الذين امتد سلطانهم على البلاد الفارسية: الإيلخانيون والتيموريون فالصفويون. ولا تزال آثار تلك العهود ناطقة باهتمام القوم وتنافسهم في تزيين الكتب والقصور بالصور.
وكانت سمرقند وهراة في عهد تيمور وشاهرخ وبيسنقر وحسين بيقرا ووزيره مير علي شير مجمع الكاتبين والمصورين. وختم هذا العصر بالمصور الذائع الصيت بهزاد.
وفي عهد الصفويين ازدهر التصوير ازدهارا؛ إذ عني به السلاطين عناية كبيرة، ولا سيما الشاه طهماسب (930-984) والشاه عباس الكبير (985-1038).
وفي عهد عباس ازدانت قصور أصفهان بآيات من النقش والتصوير رأيت بقاياها في قصر چهل ستون (الأربعين عمودا) وغيره من قصور أصفهان. وفي ذلك العهد ظهرت بجانب الصور الفارسية صور يظهر فيها الفن الأوروبي. وفي قصر چهل ستون صور تمثل سفراء أوروبا إلى الشاه عباس، وتمثل مواقع حربية تذكر رائيها بصور قصر فرساي في فرنسا.
ويمثل هذا العصر المصور النابه رضا عباسي.
وكان للتصوير من بعد أطوار أدت به نحو الذبول.
ثم إلى جانب التصوير الفارسي التصوير الإسلامي في الهند وغيرها، وكل ذلكم جدير بدرس واسع.
2
وقد عني الأوروبيون كثيرا بدراسة التصوير الإسلامي والعمارة الإسلامية، فجمعوا الكتب المصورة والصور المفردة ورتبوها على التاريخ ووصفوها. وجعلوا للفن الإسلامي تاريخا واضحا حتى كتب الأستاذ أرنولد وزميل له كتابا في فن الكتب خاصة سموه «الكتاب الإسلامي».
3
واهتم المسلمون في هذه السنين بدرس الفنون الإسلامية اقتداء بالأوروبيين. وكان من آثار هذا الاهتمام أن أرسلت وزارة المعارف المصرية طالبا لدرس الفنون الإسلامية، وهو شاب نجيب تخرج في كلية الآداب ومدرسة المعلمين العليا. أرسل إلى باريس فدرس مجدا حتى نال درجة الدكتوراه، وأكمل درسه في متاحف ألمانيا وغيرها، ثم عاد إلى مصر موفقا يعنى بأن يمد اللغة العربية بما تحتاجه من كتب الفن الإسلامي، وذلكم هو تلميذنا ثم زميلنا الدكتور زكي محمد حسن.
4
وقد كتب عن «الفن الإسلامي في مصر» كتابا ظهر منه الجزء الأول، ثم وضع الكتاب الذي نقدمه إلى القراء بهذه الكلمة - كتاب «التصوير في الإسلام عند الفرس».
وإنا لنرجو في همة الدكتور زكي محمد حسن ونبوغه رجاء كبيرا، آملين أن يبذل جهده في إمتاع قراء العربية بين الحين والحين ببحث في هذا الموضوع الطريف.
والله ييسر له كل خير، ويقدر له النجاح في كل عمل.
بغداد 28 شوال سنة 1354 / 23 يناير سنة 1936
مقدمة تاريخية
تمتد هضبة إيران من وادي دجلة والفرات غربا إلى وادي نهر السند شرقا، ومن خليج فارس وبحر العرب جنوبا إلى بحر قزوين ونهر جيحون شمالا، فهي بذلك تشمل بلاد إيران الحالية وأفغانستان وبلوخستان وجنوب التركستان الروسية.
ولأن الأسرتين الكيانية (الأكمينية) والساسانية، أعظم الأسر الملكية التي حكمت البلاد، نشأتا في إقليم فارس بالجنوب الغربي من إيران غلب اسم هذا الإقليم على بلاد إيران كلها، وأصبحت تعرف به عند اليونان والرومان والعرب والأوروبيين.
ولفظ إيران مشتق من لفظ آري، فإيران بلاد الإيرانيين الذين هم قسم من الآريين نزحوا إلى وطنهم الجديد من أواسط آسيا.
ولا ريب في أن حضارة الشعوب التي كانت تسكن إيران قديمة جدا؛ فقد وجد السر أوريل شتاين، والأستاذ هرتزفلد، قطعا من خزف رقيق متقن الصنع تزينه أشرطة جميلة من الخطوط والأشكال الهندسية، وعلماء الآثار مختلفون في تعيين العهد الذي صنع فيه هذا الخزف، ولعل أرجح الآراء أنه صنع في الألف الرابع أو الثالث قبل الميلاد.
وقد عثر المنقبون أيضا على نوع آخر من الخزف كشفوا أكثره في إقليم نهاوند، وليس لهذا الخزف رقة النوع السابق أو حسن صناعته، ويرجعه كثير من العلماء إلى أواخر الألف الثالث قبل الميلاد.
وكان معرض الفن الفارسي في لندن عام 1931 سببا في شهرة ما اكتشف في لورستان من أوعية وأسلحة وأدوات زينة وغيرها من البرنز، اختلف العلماء كثيرا في تاريخها، ولكن أكثرهم يرجعونها إلى نحو 1000 سنة قبل الميلاد.
على أن تاريخ إيران قبل قيام قورش
Cyrus
خرافي غامض؛ ولكنا نعلم أنه في القرن السادس قبل الميلاد كان القسم الغربي من إيران يسكنه شعبان من الجنس الآري، الميديون في الشمال، والفرس في الجنوب.
أما الميديون فكانوا قد نزحوا إلى هذه البلاد قبل ذلك بعصور طويلة، وكان اختلاطهم بالآشوريين والبابليين من سكان الجزيرة والعراق عاملا كبيرا في رقيهم، فتعلموا الكتابة وبلغوا من الحضارة مبلغا كبيرا مكنهم من إخضاع الفرس وإلزامهم دفع الجزية.
وكان الفرس أحدث عهدا بسكنى إيران، ولكن ضعفهم لم يدم طويلا؛ إذ تمكن قورش السالف الذكر من توحيد كلمتهم، ثم غزا شمال إيران فهزم الميديين واستولى على عاصمتهم اكبطانه (همذان الحالية)، ووحد ملك البلاد سنة 550 قبل الميلاد وأسس الدولة الكيانية.
الدولة الكيانية (559-331 قبل الميلاد)
مد قورش سلطانه شرقا حتى نهر السند، ثم ضم إلى بلاده آسيا الصغرى بعد أن هزم الليديين وأسر ملكهم كروسس، وانتصر بعد ذلك على الكلدانيين فاستولى على بابل سنة 539ق.م، وسار خلفاؤه على سنته؛ ففتح ابنه قمبيز مصر سنة 535ق.م، والتقى الفرس والإغريق بعد هذه الفتوح، فكان بينهما الكفاح المعروف، وتكررت حملات الفرس على بلاد الإغريق وما بقي لها من المستعمرات (500-479ق.م)، وظلت دولة الكيانيين قائمة إلى أن ظهر الإسكندر المقدوني وقضى على ملكهم (334-331ق.م).
وكان الآريون في العصور القديمة يعبدون مظاهر الطبيعة ويعتقدون بوجود نزاع بين قواها المختلفة، إلى أن ظهر زردشت في الألف الأول قبل الميلاد؛ فوحد قوى الخير في معبود واحد سماه أهورامزدا، كما جعل من الأرواح الشريرة وحدة هي أهريمان. والقوتان في نزاع دائم: خلق أهورامزدا كل ما هو خير ونافع، وخلق أهريمان كل ما هو شر وضار، وواجب الإنسان أن ينصر روح الخير، وأن يخذل روح الشر، وأن يعتقد باليوم الآخر. وأيد زردشت في تعاليمه تقديس الآريين للنار واتخذها رمزا للخير والنور، وكان إيقاد النار على موقد في العراء أهم مظاهر ديانته.
الإسكندر وخلفاؤه (330-248ق.م)
مزق الإسكندر ملك الفرس ومهد انتصاره الطريق لنشر الحضارة الإغريقية في الشرق الأدنى وشمالي الهند، وكان أكبر ما يطمح إليه أن يوحد الشرق والغرب ويجعل منهما إمبراطورية عالمية تحت سلطانه؛ فتزوج ببنت دارا الثالث، وتبعه قواده فتزوج كثير منهم بفارسيات.
ولكن المنية عاجلته، وانقسم ملكه من بعده أقساما تولى الأمر فيها قواده، ولم يصب أحدهم سلويقوس
Seleucus
شيئا يذكر، ولم يلبث النزاع أن دب بين خلفاء الإسكندر، فانضم سلويقوس هذا إلى أنتيجون وحصل بذلك على بابل، ولكن أنتيجون أراد بعد ذلك أن ينفرد بإرث الإسكندر فغلبه سلويقوس على أمره، ومد سلطانه على أكثر الأملاك الآسيوية التي خلفها العاهل المقدوني، وأخذت الحضارة الإغريقية تنتشر في الشرق الأدنى إبان حكمه وفي عصر خلفائه السلويقيين.
البارثيون
Les Parthes (250ق.م-226م)
كان يسكن خراسان (بارثيا) في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد شعب آرى نزح إليها من أواسط آسيا، واستطاع ملكه أرزاكس
Arsakes
أن يستقل بإقليمه، وظل البارثيون في نزاع مع خلفاء سلويقوس حتى انتزعوا منهم غربي إيران وشرقي بلاد الجزيرة، ثم مع الرومان فسلبوهم أرمينية وغربي بلاد الجزيرة، وفي عهد ميتراداثا الأكبر (174-136) بلغت إمبراطورية البارثيين أبعد حدودها، ومع أن هؤلاء البارثيين كانوا إيرانيين فيما يظن، لم تكن تتمثل الحضارة الإيرانية في عصرهم تماما إلا في طبقات الشعب، أما البلاط وكبار رجال الدولة فقد غلبت عليهم الحضارة الإغريقية، وكان إلحاق الملوك البارثيين نسبهم بالكيانيين غير ذي أثر كبير بعد أن صبغ الإسكندر وخلفاؤه البلاد بصبغة إغريقية قوية.
الساسانيون
Les Sassanides (226-641م)
ينتسبون إلى ساسان وهو شخص خرافي يزعمون أنه كان كاهنا في إصطخر. وهم فوق ذلك يصلون نسبهم بالكيانيين.
وقد كانت إيران في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد يحكمها عدة أسر صغيرة تخضع للبارثيين، فسمى العرب هذا العصر عصر ملوك الطوائف، وكان بابك على رأس إحدى هذه الأسر الصغيرة يحكم إقليما في فارس، ثم بدأ في التوسع على حساب جيرانه، واستطاع حفيده أردشير أن يهزم أردوان آخر ملوك البارثيين في إيران، فاغتصب عرشه وأسس الأسرة الساسانية التي ورثت، فيما ورثته عن البارثيين، النزاع بين إيران وروما ثم بيزنطة، فغزا أردشير أرمينية، وبدأ ذلك الكفاح الذي ظل قائما بين الإمبراطوريتين حتى سقوط الساسانيين لا تتخلله إلا فترات قصيرة، ولا ريب أن الفضل في العودة بإيران إلى مجدها الأول، والسير بها في ميدان الحضارة شوطا بعيدا؛ إنما يرجع إلى الدولة الساسانية، التي كان ملوكها أبطال الدفاع عن إيران والحضارة الإيرانية ضد الرومان ثم الإغريق في الغرب، وضد القبائل المغولية التركية في الشرق.
وقد اشتهر من ملوك هذه الأسرة شابور الأول، الذي غزا سورية وقاتل الرومان سنة 260، فأوقع بجيشهم هزيمة كبيرة وأسر إمبراطورهم (فالريان )، فخلد الفرس ذكرى هذا الحادث الجلل في نقوشهم البارزة على الصخور.
ومنهم بهرام الخامس الذي ارتقى عرش إيران بمعونة النعمان ملك الحيرة، والذي برع في الصيد فلقبوه بهرام جور (من گور بالفارسية ومعناها حمار الوحش)، وكانت أكبر مجهوداته صد القبائل التي كانت تهاجم الحدود الشمالية والشرقية لإمبراطوريته.
وفي سنة 531 ارتقى عرش إيران أنوشروان العادل الذي يتغنى بذكره شعراء العرب، فأصلح القوانين، ونظم الضرائب، واستتب الأمن في عصره، وانتصرت جيوشه في الحدود الشرقية والغربية، فأخضع سوريا ومد سلطانه إلى بلاد اليمن. واستطاع أبرويز الثاني أن يخضع سوريا والشام ومصر وآسيا الصغرى، وكاد يستولي على القسطنطينية، لولا أن نهض لصده الإمبراطور هرقل، فأوقع بالفرس في بلاد الجزيرة هزيمة كبيرة، واسترد ما استولى عليه أبرويز.
ولما كانت الإمبراطورية الساسانية وليدة نهضة وطنية ملكية دينية، فقد ظلت طول حكمها إيرانية وطنية للدين فيها المنزلة العليا، واستطاع ملوكها أن يبعثوا النظم الإدارية التي استحدثها دارا في عصر الدولة الكيانية، وأن يبثوا احترام الإدارة المركزية في نفوس حكام الأقاليم والمدن، وكان دين زردشت مرتبطا أوثق ارتباط بهذه النهضة المباركة، فكان دين الدولة الرسمي، وعظم نفوذ رجال الدين حتى أصبحوا خطرا على نظام الملكية نفسه، فحاول الملوك في القرن الرابع أن يصدوا هذا التيار، وذهب بعضهم ضحية مساعيه هذه، فخلع أردشير الثاني (379-383)، وقتل شابور الثالث (383-388) ويزدجرد الأول (399-420)، وكان هرمز الأول (272-273) قد اعتنق مذهب المانوية، وهو مزيج من الزردشتية والنصرانية، أساسه أن العالم نشأ عن أصلين: النور والظلمة، وعن النور نشأ كل خير، وعن الظلمة نشأ كل شر، ولكن امتزاج الخير والشر في هذا العالم شر يجب الخلاص منه، والمانوية يدعون إلى الزهد ويحرمون النكاح استعجالا للفناء، ويقرون بنبوة عيسى وزردشت، ويزعمون أن ماني هو النبي الذي بشر به المسيح، على أن تعاليمهم لم تلق في إيران نجاحا كبيرا، فلما مات هرمز وخلفه بهرام الأول (373-376) قتل ماني وشرد أصحابه.
وآخر من خرج على دين زردشت من ملوك إيران قباذ الأول (488-531) فاتبع مذهب مزدك وهو ثنوي أيضا، ولكنه يمتاز بتعاليمه الاشتراكية وإباحته الأموال والنساء، وكان قباذ يرمي بتأييد هذا المذهب إلى القضاء على نفوذ الأشراف ورجال الدين، ولكنه غلب على أمره وأقصي عن العرش، ورجع إليه ثانية بعد أن هجر تعاليم مزدك، ولا غرو في ذلك؛ فإنه مع أن الدولة الساسانية كان على رأسها عاهل يقدسه الشعب وينزله منزلة الآلهة، كانت طبقة الأشراف تنعم بسلطة واسعة وتسيطر على الأرض وتخرج للحكومة الموظفين ورجال الجيش، كما كان رجال الدين يحافظون على تعاليم زردشت، ولا يقف في سبيلهم شيء دون قمع كل الحركات الإصلاحية.
على أن النزاع الذي ظل قائما عدة قرون بين إيران وبيزنطة، كانت نتيجته إضعافها وقت بدء الدعوة الإسلامية وعجزها عن وقف تيار العرب حين بدءوا فتوحهم العظيمة، التي ما لبثت أن امتدت على إيران كلها.
الفتح الإسلامي
كانت قوة إيمان العرب بالعقيدة الإسلامية، ورغبتهم في نشر هذه الديانة، واعتقادهم بالقضاء والقدر، وعرفانهم خصوبة إيران ومصر والشام؛ نقول كان ذلك وغيره أكبر مشجع لهم في فتوحهم الواسعة، كما ساعدهم على ذلك ضعف الأمم العظيمة في ذلك الحين: الفرس في الشرق والرومان في الشمال، فسقطت مملكة الفرس في أيديهم، وبقيت تابعة رأسا للخلفاء، يرسلون إليها حكاما من قبلهم حتى أوائل القرن الثالث (التاسع الميلادي)، وكانت سياسة بني أمية العمل على إعلاء شأن العرب، وصبغ الدولة الإسلامية المترامية الأطراف بالصبغة العربية، فلم يلعب الفرس في عهدهم دورا كبيرا. ثم جاء العباسيون، فانتقل السلطان إلى يد الفرس الذين قامت على أكتافهم الأسرة الجديدة.
وما لبث العصر الذهبي للدولة العباسية أن آذن بالغروب، وبدأ الانحلال يدب في أركان الدولة الإسلامية، فأخذ حكام الأقاليم يطمعون في الاستقلال بها. وأقدمهم في إيران بنو طاهر وبنو الصفار.
الدولتان: الطاهرية 205-259ه/820-872م، الصفارية 254-290ه/867-903م
وتنسب الأولى إلى طاهر بن الحسين المشهور بذي اليمينين، والذي كان قائدا في خدمة المأمون فكافأه بولاية خراسان، وبقي الحكم في أسرته أكثر من خمسين عاما حتى قضى عليها بنو الصفار. وأول ما كان من أمر هؤلاء أن عميدهم يعقوب بن الليث، الذي كان يصنع الصفر (النحاس)، تولى حكم سجستان ومد سلطانه في هراة وفارس، ثم هزم بني طاهر واستولى على خراسان، وأراد فتح بغداد فهزمه الموفق أخو الخليفة، ومات يعقوب سنة 265ه/878م فخلفه أخوه، ولكن بني سامان ما لبثوا أن أزالوا دولته.
الدولة السامانية 261-389ه/874-999م
كان سامان فارسيا من أشراف بلخ، دخل في الإسلام في عصر الدولة العباسية وظهر أحفاده الأربعة في خدمة المأمون، فولاهم بلاد ما وراء النهر، وحكم أحدهم فرغانة وسمرقند وكشغر، واستطاع ابنه من بعده أن يمد سلطانه من حدود الهند إلى قرب بغداد، واشتهرت بخارى في عهد هذه الأسرة بفطاحل العلماء ونوابغ الباحثين. وعمل السامانيون على إحياء السنن الإيرانية وألحقوا نسبهم بالبطل الإيراني بهرام چوبين، وبدأت في عهدهم الحركة الوطنية للنهضة باللغة الفارسية؛ فظهر الرودكي عميد شعراء الفرس الأولين، ونظم الدقيقي منظومة كبيرة لنوح بن نصر يقص فيها حوادث إيران في عهد أحد ملوكها الخرافيين، وقد أدخل الفردوسي هذه المنظومة في الشاهنامة، والفردوسي نفسه بدأ حياته الأدبية في خدمة السامانيين.
بنو بويه 320-448ه/932-1056م
بينما كان السامانيون يحكمون شرقي إيران ظهر في غربها بنو بويه الذين يدعون أيضا أنهم من نسل الساسانيين، وكان بويه يرأس قبيلة عظيمة تسكن جنوبي بحر قزوين، خضعت للسامانيين ثم لمردويج الزياري، الذي ولى علي بن بويه الخراج، وما لبث ابن بويه أن اتخذ جندا من الديلم وجعل يمد نفوذه جنوبا بمساعدة إخوته، حتى اضطر الخليفة أن يعترف بولايتهم على ما فتحوه، فاستقر بذلك سلطانهم في جنوبي فارس، ثم مدوه إلى بغداد نفسها حين دخلوها سنة 334ه/945م، ومنح الخليفة أحدهم لقب أمير الأمراء، فصارت لهم الكلمة العليا في أمور الدولة حتى سنة 447ه/1055م، وكان أشهرهم عضد الدولة 338-372ه الذي وسع نطاق التجارة وشمل برعايته العلوم والفنون.
الدولة الغزنوية 351-582ه/962-1186م
بدأ العنصر التركي يلعب في الإمبراطورية الإسلامية دورا مهما منذ أخذ الخلفاء العباسيون وملوك الأسر الفارسية يستخدمون أفراده في بلاطهم ويتخذون منهم الجند المرتزقة، وكان سقوط بني سامان في نهاية القرن الرابع إيذانا بانتقال السيادة في بلاد العجم من الإيرانيين إلى أتراك أواسط آسيا، وظلت إيران حتى القرن العاشر يحكمها ملوك من الترك أو المغول؛ على أن هذه العناصر كانت تصطبغ فيها بالصبغة الإيرانية، حتى ليمكن القول إن الأسر التي توالت على عرش إيران منذ القرن العاشر حتى القرن العشرين يمكن اعتبارها وطنية، سواء في ذلك من كان منها تركي الأصل ومن كان منها عريقا في إيرانيته.
وأول الدول التركية التي حكمت إيران هي الأسرة الغزنوية، والأصل في تكوينها أن مملوكا تركيا يسمى ألبتكين، ترقى في خدمة عبد الملك الساماني، ثم اعتصم بعد وفاته بجبال أفغانستان متحديا سلطان السامانيين، وما لبث أن أقام حكومة صغيرة في غزنة بأفغانستان، ولكن المؤسس الحقيقي للأسرة الغزنوية هو صهره سبكتكين، الذي اعترف به الخليفة وغزا البنجاب؛ وانتهز ابنه محمود من بعده فرصة انحلال الدولة السامانية، فضم خراسان إلى أملاكه، وأخذ من البويهيين العراق العجمي وجرجان، وأحرزت جيوشه انتصارات عديدة في البنجاب؛ حيث بذر بذور الإسلام في الهند، وامتدت أملاكه إلى لاهوز، كما امتدت إلى سمرقند وأصبهان، وكان محمود بن سبكتكين من السنيين الغلاة، فاضطهد المعتزلة وحرق مؤلفاتهم، ولكن الدولة بلغت في عهده أوج عزها، وكان بلاطه محط شعراء الفرس، فقدم له الفردوسي الشاهنامة أعظم الكتب الفارسية القصصية.
السلاجقة 429-700ه/1037-1300م
عرفنا كيف ضعف سلطان العباسيين منذ القرن العاشر ولم يتعد نفوذهم بلاد العراق، وكيف كثرت الجنود المرتزقة من الأتراك في خدمة الخليفة، فاغتصبوا السلطان السياسي منه شيئا فشيئا، وزاد نفوذ قومهم في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية.
والسلاجقة يعرفون بهذا الاسم نسبة إلى زعيمهم سلجوق، الذي كان رئيس قبيلة تركمانية من بلاد ما وراء النهر، تمكنت من بسط نفوذها على خراسان، وزادت قوتها بعد سلجوق حتى استولى حفيده طغرلبك على الولايات الغربية للدولة الغزنوية، ثم سار إلى بغداد فدخلها سنة 447ه/1055م، وقضى على دولة بني بويه الشيعية فقلده الخليفة السلطة الدنيوية، وأخذ السلاجقة يمدون نفوذهم شيئا فشيئا؛ حتى شمل إيران والعراق وآسيا الصغرى والشام.
وفي عهد السلطان ألب أرسلان الذي خلف طغرلبك أوقع السلاجقة بالبيزنطيين هزيمة كبيرة في ملاذكرد سنة 464ه/1071م، فوقعت أرمينيا في أيديهم وتمهد الطريق أمامهم للسيطرة على آسيا الصغرى وتهديد القسطنطينية.
وبلغت دولة السلاجقة أوج عزها في عصر ملكشاه ووزيره نظام الملك، اللذين اهتما بشئون الرعية وعطفا على الشعراء والعلماء، وظهرت في عهدهما المدارس والجامعات، ولما مات ملكشاه سنة 485ه/1092م ضعفت دولته وانقسمت بين أبنائه وأقاربه الذين كان يعينهم حكاما ويطلق عليهم اسم الأتابكة.
هذا ولا ريب في أن المدة التي حكمها السلاجقة منذ دخولهم بغداد إلى وفاة السلطان سنجر سنة 552ه/1157م تعتبر من أزهى عصور الفن الفارسي، وممن أنجبهم العصر السلجوقي الإمام الغزالي وعمر الخيام.
دولة ملوك خوارزم 470-617ه/1077-1220م
أول أمرها أن أنوشتكين الذي كان عاملا على خوارزم من قبل السلطان السلجوقي ملكشاه مات، فخلفه ابنه وأراد أن يشق عصا الطاعة فطرده السلطان سنجر من خوارزم، ولكنه أفلح في العودة إلى هذا الإقليم وأخذ هو وخلفاؤه يبسطون نفوذهم في إيران، ثم انحازوا إلى المذهب الشيعي، وعقدوا العزم على القضاء على الخلافة العباسية لو لم يداهمهم جنكيز خان بجنوده المغول، وقد ظهر في عصر هذه الأسرة كثير من أدباء الفرس وشعرائهم، كنظامي وعطار.
المغول 656-736ه/1258-1336م
غزا المغول بأمر جنكيز خان بلاد ما وراء النهر وشرقي إيران سنة 618ه/1221م ودمروا كثيرا من المدن التي مروا بها، وكان ذلك من أكبر الكوارث في تاريخ إيران.
ولكن الذي وطد قدم المغول في بلاد الفرس إنما هو هولاكو، الذي كان يحكمها في منتصف القرن السابع الهجري (الثالث عشر) من قبل أخيه الأكبر، والذي استولى على بغداد سنة 656ه/1258م وقتل المستعصم آخر خلفاء العباسيين، ثم أسس في فارس أسرة حكمتها حتى سنة 736ه/1336م هي الأسرة الإيلخانية، وكان احتكاك التتار بالحضارة الإيرانية مهذبا لهم؛ فكانت إدارتهم بعد هولاكو حازمة رشيدة تمتاز بالتسامح، وما لبثوا أن اعتنقوا الإسلام، وظلوا حريصين على الاتصال ببني عمومتهم من التتار البوذيين في الصين ، ومن ثم كان عصر هذه الأسرة يمتاز في إيران بالأثر الصيني في الفن وفي الحياة الاجتماعية.
وقد كان نمو النظام الإقطاعي في إيران سببا في القضاء على حكم خلفاء هولاكو، وظلت البلاد نحو خمسين عاما بعد سقوط هذه الأسرة مقسمة إلى دويلات محلية صغيرة، مثل الدولة المظفرية في فارس وكرمان 713-795ه/1313-1393م، ودولة الكرت في هراة، ودولة الجلائريين في العراق، وغيرها من الدويلات التي بقيت حتى قضى عليها تيمورلنك في نهاية القرن الثامن الهجري (الرابع عشر).
تيمورلنك وخلفاؤه 771-906ه/1369-1500م
ولد تيمورلنك في بلاد ما وراء النهر سنة 736ه/1335م من أسرة تركية عريقة في المجد، ولما وطد نفوذه في وطنه سار إلى إيران فهزم دويلاتها المختلفة ووحد السلطان فيها، ثم انطلق إلى روسيا وزحف إلى موسكو، وتحول بعد ذلك إلى الهند فتتابعت انتصاراته حتى احتل دهلي سنة 801ه/1398م، وما لبث أن أوقع بالسلطان العثماني بايزيد الهزيمة الكبرى عند أنقره سنة 804ه/1402م، وقد كان تيمورلنك مخربا في فتوحه متناهيا في القسوة والهمجية، ولكنه إن كان قد خرب شيراز ودهلي ودمشق وبغداد فإنما فعل ذلك ليجمل سمرقند عاصمة ملكه؛ حيث يوجد قبره الذي يعد من عجائب الفن الإسلامي.
وبعد وفاة تيمورلنك سنة 807ه/1405م دب النزاع بين ورثته، واستطاع أخيرا شاه رخ رابع أبنائه أن يرغم أقرباءه على الاعتراف به، فتربع على عرش إيران وبلاد ما وراء النهر، وجعل هراة عاصمته وجذب إليها طائفة كبيرة من الشعراء ورجال الفن؛ فازدهرت الآداب والفنون في عهده وفي عهد خلفائه.
الدولة الصفوية 907-1148ه/1502-1736م
وتنتسب للشيخ صفي الدين أحد أولياء أردبيل الذي استطاع حفيده الشاه إسماعيل أن يهزم التركمان في غرب إيران، وأن يؤسس سنة 907ه/1502م أسرة حكمت بلاد الفرس حتى سنة 1148ه/1736م وألحقت نسبها بالإمام علي بن أبي طالب، وأصبح المذهب الشيعي منذ توليها الحكم المذهب الرسمي لبلاد إيران، ولم يكن العثمانيون - وهم أبطال الجنس التركي والمذهب السني - ليتركوا الفرس تتحد كلمتهم ويزداد نفوذهم، فبدأ نزاع طويل بين الشعبين ، وسار السلطان سليم سنة 920ه/1514م بجيوشه قاصدا تبريز عاصمة الشاه إسماعيل، فانتصر على جيوش إيران نصرا مبينا واستولى العثمانيون على الأملاك الغربية للإمبراطورية الصفوية، وزاد الطين بلة أن قبائل التركمان كانت دائمة الغزو للحدود الشرقية، فقضى الشاه طهماسب (930-984) مدة حكمه يكافح هذين الخطرين.
على أن العصر الذهبي للأسرة الصفوية إنما هو حكم الشاه عباس الأكبر (985-1038)، فقد اعتلى العرش والخطر محدق بإيران، يهدد التركمان حدودها الشرقية الشمالية، ويستولي الأتراك على أذربيجان، فتمكن من استعادة أملاكه المحتلة وتابع انتصاراته حتى طرد الترك من بغداد سنة 1032ه/1623م، ثم عمل على مضايقتهم بإنشائه العلاقات الحسنة مع الدول الأوروبية وبإدخاله النظم الحديثة في جيشه وإدارته. ومن أهم حوادث حكمه نقل العاصمة إلى أصفهان التي جملها وبنى فيها المساجد والقصور والطرق المعبدة، فزارها ووصف عظمتها الغربيون من الأجناس المختلفة.
وأما خلفاؤه فقد اتبعوا سياسته بالرغم من استبدادهم وخلاعتهم، وهم إن لم يستطيعوا الاحتفاظ ببغداد فاستعادتها الدولة العثمانية، فقد حافظوا على البلاد الإيرانية وقلدوا الشاه عباس في تعضيد الفن ورجاله، وفي مواصلة العلاقات الطيبة بالدول الأوروبية.
ولكن عوامل الضعف أخذت تدب في الدولة الصفوية حتى ثار الأفغان عليها في عهد الشاه حسين (1105-1135)، وقد كانوا حتى ذلك التاريخ تابعين لها، ويمكن اعتبار هزيمتهم للشاه حسين سنة 1135ه/1722م واستيلائهم على أصفهان إيذانا بسقوط الدولة الصفوية، ولو أن بعض أفرادها ظلوا يحكمون في مازندران نحو عشر سنين.
نادر شاه
اقترن غزو الأفغان لفارس بفوضى شاملة هب على أثرها القائد الأفشاري نادر قلي، معلنا عزمه على طردهم وتثبيت عرش الصفويين، ولكنه ما لبث أن خلع آخر ملوكهم واغتصب العرش لنفسه سنة 1148ه/1736م، ثم سار على رأس جيوشه، فأخضع أفغانستان وتوغل في الهند حتى استولى على دهلي ونهب كنوزها، ولكن حكمه لم يدم طويلا، ووقعت البلاد بعد قتله سنة 1160ه/1747م في فوضى كبيرة.
الزنديون 1163-1209ه/1750-1794م
انقسمت إيران في عهد خلفاء نادر شاه إلى دويلات صغيرة، ولكن كريم خان الزندي ما لبث أن مد سلطانه على كل إيران إلا خراسان، حيث بقي آخر خلفاء نادر شاه.
أسرة قاجار 1193-1345ه/1779-1926م
بعد وفاة كريم خان قام نزاع طويل بين خلفائه وبين محمد أغا من قبيلة قاجار التركية، واستطاع الأخير أن يؤسس أسرة جديدة وأن ينقل العاصمة إلى طهران، ومن أشهر ملوك هذه الأسرة ناصر الدين شاه، الذي خطا في سبيل إدخال الحضارة الأوروبية في إيران خطوات كبيرة، وفي عهد هذه الأسرة ظلت روسيا تهدد إيران وتغتصب أطرافها البعيدة، وبدأت الدول الأوروبية تقسمها إلى مناطق نفوذ ، ثم كانت الحرب الكبرى وخلفت في إيران ما خلفته في غيرها من مشاكل وأزمات، انتهت بظهور رجل قوي لتوحيد البلاد والنهضة بها.
رضا خان بهلوي 1345ه/1926م
وهو جلالة شاه إيران الحالي أصله من فلاحي مازندران، دخل الجيش ووصل فيه إلى مرتبة القيادة، ثم سار إلى العاصمة بعد قتال مع الروس سنة 1921م، فألف وزارة دخلها وزيرا للحربية، وضعف نفوذ الشاه أحمد فغادر البلاد وأقام في باريس حتى عزل في سنة 1925م، واعتلى العرش جلالة شاه رضا خان مؤسسا الأسرة البهلوية، ونهضت البلاد في عهده بفضل إدخال الأنظمة الحديثة وإرسال البعثات العلمية ودخول إيران في عصبة الأمم.
الفصل الأول
نشأة التصوير الفارسي
للصور الفارسية جمال وسحر يأخذان بمجامع القلوب، والمرء يزداد بها إعجابا كلما ألقى جانبا أية محاولة لمقارنة بدائع هذا الفن بما أنتجه فنانو الغرب ومن نسج على منوالهم، فقد يكون سهلا الحط من قيمة التصوير عند الفرس بإظهار عيوبه والمزايا التي تنقصه، ولكن ذلك خلط لا داعي إليه، فهناك صفات لا يحاول هذا الفن أن يحصل عليها وهو إن حصل عليها سار في طريق الاضمحلال، ولكن شيئا واحدا لا يستطاع نكرانه: هو أن الصور الفارسية وحيدة في بابها توحي للرائي نوعا من السرور لا تستطيع غيرها أن توحيه.
وقد تبدو الصور الفارسية لأول وهلة مملة تجهد العين بألوانها الساطعة، وقد تظهر أيضا كثيرة التشابه؛ نظرا للتقاليد الوضعية التي يشترك في احترامها المصورون: كإهمال الظل وكرسم الأشخاص في أوضاع معينة، وقد تنقصها الروح والحركة ودقة التعبير لما بين ملابس الجنسين فيها من خلاف يسير، ولكن هذه الخصائص هي هي التي جعلتها تحتل في ميدان الفن ركنا مستقلا لا ينازعها فيه منازع.
على أن معلوماتنا عن التصوير الفارسي قبل الإسلام لا تزال ضئيلة، رغم ما أنتجته أخيرا البعثات الأثرية الألمانية والإنجليزية والفرنسية في فارس وأواسط آسيا وأفغانستان وشمالي الهند.
ماني
تحدثنا المصادر التاريخية والأدبية أن ماني المصلح الفارسي الذي عاش في إيران في القرن الثالث، والذي أسس المذهب الذي ينسب إليه؛ كان مصورا ماهرا ، وكانت تعاليمه تشير بتزيين الكتب الدينية بالرسوم المصغرة، ويعد ذلك من خير الوسائل للتبشير ونشر الدعوة.
وقد ثبتت صحة هذه المعلومات بما كشفه الألمانيان فون لوكوك
Von le Coq
وجرينفيدل
Grünwedel
في طرفان (بصحراء غوبى من أعمال التركستان الصينية) التي كانت بين سنتي 143-226ه/760-840م مقرا لحكومة تركية الجنس مانوية المذهب هي إمبراطورية الأويغور
Uigur .
1
وجل ما وجده هذان العالمان محفوظ الآن بمتحف علم الشعوب في برلين، وتشمل اكتشافاتهما صورا على الجدران ورسوما إيرانية لا شك فيها، وفي بعضها نقوش على شكل أغصان وزخارف من العهد المغولي، وهناك أيضا صفحات كشفها هذان العالمان في قزيل
Qizil
بجوار كوتشا مرسوم عليها أشخاص بطريقة تتضح منها الصلة المتينة بين هذه الصناعة وبين ما نجده في إيران بعد الإسلام.
2
وهناك أيضا اكتشافات البعثة الأثرية في أفغانستان التي وسعت معلوماتنا في هذا الصدد، ففي الصور التي على صخور باميان
Bamiyan
والتي درسها الأستاذ جودار
A. Godard
والسيدة قرينته عناصر هندية ويونانية قديمة، ولكن فيها أيضا عناصر ساسانية تظهر جليا في رسوم بعض الملوك، ونحن نتبين من ذلك كله أن الحضارة الإيرانية امتد نفوذها في أواسط آسيا، وظل أثرها في تلك الأقاليم واضحا جليا عدة قرون بعد سقوط الساسانيين أنفسهم.
الإسلام
تتابعت الفتوحات العربية وأصبحت إيران جزءا من الإمبراطورية الإسلامية، ونشر العرب فيها دينهم وجعلوا العربية لغة العلم والأدب والدين، بيد أن الفرس - كغيرهم من الشعوب التي غلبها العرب على أمرها - أثروا في الفاتحين، وكانوا أكبر عون لهم على خلق فن إسلامي طبعه العرب بطابع دينهم وظهرت فيه شخصيتهم البارزة، ولكن أساسه مدنيات فارس وبيزنطة وآشور وكلديا ومصر.
وقد كان أكثر العرب في الجاهلية بدوا لا حضارة لهم، والبداوة بطبيعتها ليست مرتعا خصبا تترعرع فيه الفنون، ولسنا مع ذلك نستطيع أن ننكر أنهم عرفوا في الجاهلية رقم الصور ونحت التماثيل ليتخذوها آلهة لهم، فلما بعث فيهم النبي
صلى الله عليه وسلم
نهى عن نحت التماثيل والتصوير؛ رغبة منه في أن يبعد أتباعه عن كل ما يقربهم لعبادة الأوثان.
3
وقد كتب المستشرقون كثيرا عن تحريم التصوير في الإسلام، وزعم بعضهم أن القرآن حرم رقم الصور وصناعة التماثيل، وهذا باطل لا أساس له. وقال آخرون إنما حرمه الحديث وهذا صحيح، وذكروا أن الشيعة لا تقر حديث التحريم، وبذلك عللوا ازدهار صناعة التصوير في فارس حيث يسود المذهب الشيعي،
4
وهذه مغالطة أيضا. فإن النحت والتصوير مكروهان عند علماء الشيعة كراهتهما عند علماء أهل السنة، وإن كان الشيعيون لا يعترفون بكل ما لدى السنيين من كتب الحديث، فإن لهم كتبا خاصة تشمل ما يعترفون به من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وفيها ما يوجد في كتب أهل السنة من نهي عن التصوير وإنذار للمصورين بأنهم سوف يكلفون يوم القيامة أن ينفخوا في صورهم الروح وليسوا بنافخين.
5
ولاريب أن التفرقة بين المسلمين في موقفهم من النحت والتصوير راجعة إلى أن بلاد إيران - وهي كما نعلم أكبر ميدان للتصوير الإسلامي - معروفة بأنها دولة شيعية، ولكن المستشرقين الذين زعموا أن الشيعة لا ينهون عن التصوير ينسون في الوقت نفسه أن المذهب الشيعي لم يصبح الدين الرسمي لبلاد إيران إلا منذ أول القرن العاشر الهجري (السادس عشر) حين اعتلت العرش الأسرة الصفوية، وهم ينسون أيضا أن مثل هذه الكراهية للتصوير في الإسلام لم تكلف العرب كثيرا، فهم لم يكونوا أساتذة في هذا الفن كما كان الفرس الذين ورثوا الميل إليه عن أسلافهم، ولم يكن في طبعهم كالساميين إعراض يكاد يكون فطريا عن هذا الفن، فلم يكن بد من أن يسبق الفرس غيرهم في غض الطرف عن هذه الكراهية، ومع ذلك ظل المصورون مكروهين عند رجال الدين في إيران.
على أن في تاريخ الفن الإسلامي ملوكا وأمراء كثيرين كانوا من أكبر دعاة التصوير ومعضديه دون أن يكونوا شيعيين، فالخليفة الأموي الذي شيد قصير عمرا ببادية الشام وزين جدرانه وسقفه بالنقوش الجميلة،
6
والخلفاء العباسيون الذين زينوا قصورهم في سامرا «سر من رأى» بالنقوش المختلفة الألوان،
7
وملوك إيران من أسرة تيمور الذين ازدهر في عهدهم فن التصوير وظهر تحت رعايتهم بهزاد كبير مصوري إيران، وكذلك سلاطين المغول في الهند وآل عثمان في تركيا؛ كل هؤلاء كانوا سنيين.
وقصارى القول أن المسلمين من سنيين وشيعيين مجمعون على كراهية النحت وتصوير الأحياء لما فيهما من تقليد للخالق عز وجل، ولما ورد في الحديث من أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا تصاوير، وأن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون، وأن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم إلخ ...
لذلك عني المسلمون بإبداع رسوم جميلة يندر تصوير الأحياء فيها، ولكن تتكون من أشكال نباتية وهندسية يتداخل بعضها في بعض وتكون زخارف أصبحت من مميزات الفن الإسلامي، وما لبث الخط العربي أن صار عونا للمسلمين في الرسم والزخرفة.
وبالرغم من ذلك كله عرف المسلمون فن تصوير الأحياء، وكانت عصور ازدهر فيها ذلك الفن، وأعظم ما وصل إلينا من بقايا الصور في صدر الإسلام نجده في قصير عمرا الذي كشفه العالم النمسوي موزيل
Musil
سنة 1898م شمالي شرقي البحر الميت، وأكبر الظن أن خليفة أمويا بناه في أول القرن الثامن ليكون مقرا لراحته ولهوه، والبناء من حجر الجير ويشمل إيوانا مستطيلا ملحقا به عدة قاعات، وعلى سقوفها نقوش أحدها يمثل الملوك الستة الذين هزمهم الأمويون، وهناك أخرى فيها راقصون وموسيقيون وأشخاص عراة وآخرون يقومون ببعض التمرينات البدنية، ثم مناظر لصيد الحيوانات البرية، وفي القاعة الرئيسية نقش يمثل أميرا على عرش، لعله الأمير الذي شيد القصر له؛ على أن صناعة كل هذه النقوش صناعة تكاد تكون بيزنطية متأثرة إلى حد ما بالفن الساساني.
ونقوش قصير عمرا تختلف كثيرا عما نراه بعد ذلك من نقوش إسلامية كالتي عثر عليها الأستاذان زره وهرتزفلد في سامرا (سر من رأى)، وهي التي شيدها المعتصم سنة 223ه/838م في شمالي العراق واتخذها عاصمة للخلافة فرارا من تصادم عسكره الترك بسكان بغداد، وقد اتسعت المدينة الجديدة في عهد خلفائه حتى هجرها المعتمد سنة 270ه/883م وأعاد الخلافة إلى بغداد، وقد أسفرت أعمال الحفر في أطلال سامرا عن اكتشافات كثيرة قامت بها البعثة الألمانية وعلى رأسها العالمان السالفا الذكر، ورفع ما كان قد غشي جامع المتوكل ومنارته المعروفة بالملوية، والتي كانت أنموذجا لمنارة الجامع الطولوني بمصر، ووجدت أطلال دور كثيرة على جدرانها نقوش هندسية ونباتية بارزة أو غائرة في الجص.
8
ولكن ما يهمنا الآن مما عثر عليه المنقبون هي النقوش الملونة التي تشبه في موضوعاتها نقوش قصير عمرا، فمنها الأجسام العارية والراقصات ومناظر الصيد والحيوانات، ومع أننا نعرف من المصادر التاريخية ومن التوقيعات التي وجدت أن فنانين مسيحيين اشتركوا في عمل هذه النقوش، فإن صناعتها مشتقة من الفن الساساني، حتى إن الأستاذ هرتزفلد يعتبرها آخر مثال للتصوير في هذا الفن.
ولعل أقرب نقوش إسلامية مصرية إلى نقوش سامرا هي تلك التي عثرت عليها دار الآثار العربية في شتاء سنة 1932 بجهة أبي السعود في جنوبي القاهرة، والتي ترجع إلى عهد الدولة الفاطمية، وتتكون من صور كانت على الجدران، وفي صناعتها تأثير فارسي واضح، ففي جزء منها نرى المناظر يحيط بها صف من حبات بيضاء على أرضية سوداء، ونرى في بعضها صورا لأشخاص أحدها يحمل كأسا بيده اليمنى على النحو الذي نراه كثيرا على نقوش الخزف والأواني الساسانية، وفي إحداها رسم طائرين متقابلين تعلوهما فروع نباتية حمراء حولها شريط أسود به نقط بيضاء، وفي ثانية رأس شاب يلتفت إلى اليسار، وفي ثالثة سيدة تتدلى عصابة رأسها في الجهة اليمنى. وقد عرضت دار الآثار العربية مكتشفاتها هذه لأول مرة في معرض الفن الفارسي بسراي تجران باشا في يناير وفبراير سنة 1935.
9
اللوحة رقم 1
شكل 1
شكل 2
صورتان وجدتا على جدران حمام فاطمي بجهة أبي السعود في جنوبي القاهرة (القرن الرابع أو الخامس الهجري. دار الآثار العربية).
أما تزيين الكتب بالصور المصغرة فهو الميدان الذي حازت فيه إيران قصب السبق، ونحن نعلم أن صناعة الورق تلقاها أهل سمرقند عن الصينيين في منتصف القرن الثاني (الثامن الميلادي)، وما لبثت أن عمت العالم الإسلامي في أواخر القرن الثالث (التاسع الميلادي).
ولعل أقدم الصور الإسلامية المصغرة التي وصلت إلينا هي تلك التي عثر عليها في الفيوم وفي الأشمونين، والمحفوظة الآن في فينا بمجموعة الأرشيدوق ربنر؛ ويرجع تاريخ المخطوطات التي تشمل هذه الصور إلى آخر القرن الثالث والقرن الرابع، وتبدو في صناعة الصور المذكورة تأثيرات بيزنطية وقبطية وحبشية وساسانية.
10
وأكبر الظن أن صناعة الصور المصغرة لتزيين المخطوطات ظهرت في إيران والعراق في القرن الثالث، ونظن أن المسلمين استخدموا في هذه الصناعة بادئ ذي بدء فنانين غير مسلمين إلى أن انتهى عصر الدراسة والاقتباس والتقليد، واستطاع المسلمون ممارسة العمل بأنفسهم، وكانت الصور التي اتخذوها أنموذجا لهم وتأثروا بها هي صور المانويين واليعاقبة، وربما تأثروا بصور النساطرة أيضا.
11
وإن دل ما نعرفه من المصادر التاريخية على وجود مخطوطات بها صور مصغرة منذ القرنين الثالث والرابع الهجريين (التاسع والعاشر)، فإن أقدم ما وصل إلينا من إيران وبلاد العرب والشام يرجع عهده إلى القرنين السادس والسابع الهجريين (الثاني عشر والثالث عشر)، ويكون مجموعة يطلق عليها مؤرخو الفن الإسلامي مدرسة العراق أو مدرسة بغداد.
الفصل الثاني
مدرسة بغداد أو مدرسة العراق
القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي
قلد المسلمون الفرس والروم في ضرب نقود عليها صور، وأخبار ذلك مفصلة في رسالة المقريزي عن النقود الإسلامية وفي بعض كتب الأدب والتاريخ، وقلدوهم أيضا في التصوير على المنسوجات وعلى الأواني الزجاجية وعلى غير ذلك من أثاث بيوتهم، وكانت الحمامات أهم الدور التي عني المسلمون بالنقش على جدرانها، وما لبثت صناعة التصوير في الإسلام أن انتقلت إلى الكتب ، وكان التطور والمدارس التي سنبدأ الحديث عنها في هذا الفصل.
على أنه يجدر بنا قبل ذلك أن نذكر أن الموضوعات كثيرة التكرار في التصوير الفارسي، ويرجع ذلك إلى أن المصورين إنما كانوا يعملون لتزيين دواوين الشعراء وقصصهم وبعض كتب الأدب والتاريخ، فاختار السلف من كل ذلك موضوعات نسج على منواله الخلف في تصويرها.
وكانت أقدم المخطوطات الإسلامية المصورة بعض ما ترجم وألف في الطب والعلوم والحيل الميكانيكية، وأشهرها كلها كتاب الحيل الجامع بين العلم والعمل للجزري، ثم كتاب عجائب المخلوقات للقزويني؛ ولقيت الكتب الأدبية حظا وافرا من العناية ، وخاصة كتاب كليلة ودمنة ومقامات الحريري، وكانت الصور تجيء في كل هذه الكتب إيضاحا للمتن وشرحا له.
اللوحة رقم 2
شكل 3: الساعة ذات الطواويس (مدرسة العراق. القرن السابع الهجري. من كتاب الحيل الميكانيكية للجزري ومحفوظة الآن باللوفر).
اللوحة رقم 3
شكل 4: شاب لسعته حية وأقبل طبيب لإسعافه.
شكل 5: رجل لسعته حية يستغيث.
من ترجمة كتاب لجاليوس. محفوظة بالمكتبة الأهلية في فيينا (القرن السابع الهجري).
أما الفرس فقد كانت أكبر عنايتهم بتصوير كتب التاريخ والتراجم التي يخلد فيها ذكر ملوكهم، ثم دواوين الشعراء وقصصهم وخاصة «بستان» سعدي و«كلستانه»، ثم ديوان حافظ والمنظومات الخمس لنظامي، ولكن المقام الأول كان للشاهنامة فكانت تنسخ منها المخطوطات وتزين بالصور في أكثر عصور التصوير الفارسي.
وقد أشرنا في آخر الفصل السابق إلى أن أولى مدارس التصوير في الإسلام هي مدرسة بغداد أو مدرسة العراق، وينسب إليها ما رقمه الفنانون من صور مصغرة في المخطوطات الإسلامية التي يرجع عهدها إلى خلافة العباسيين.
وليست هذه المدرسة بالرغم من هذا الاسم عربية بحتة، كما أنها بعيدة عن أن تكون إيرانية خالصة، وإن كانت إيران تكاد تكون القطر الوحيد الذي أينعت فيه هذه الثمرة ومهدت الطريق لمدارس أخرى بلغ فيها التصوير الفارسي أوج عظمته.
ولا شك في أن أكثر العاملين على تكوين مدرسة بغداد كانوا من مسيحيي الكنيسة الشرقية على اختلاف طوائفها، كما كان منهم أبطال النهضة العلمية لترجمة الكتب القديمة إلى اللغة العربية، وكما كان منهم أيضا أول الفنانين الذين علموا العرب العمارة وصناعة الفسيفساء. على أن المسلمين ما لبثوا أن أخذوا من هذه الصناعات والفنون بنصيب يذكر، وكان أول من فعل ذلك الفرس فأصبح أكثر الفنانين منهم، واستطاعت إيران بعد الفتح المغولي أن تنمي مواهب أبنائها وأن تسير بهذه البذور في طريق الكمال متأثرة بالشرق الأقصى وأواسط آسيا، حتى نتج الفن الذي نعرفه في القرنين التاسع والعاشر الهجري (الخامس عشر والسادس عشر).
هذا ولما كانت موضوعات الصور في مدرسة بغداد تتكرر بدون تغيير كبير، فإن ما وصل إلينا منها يعتبر مثالا لما كان عليه التصوير الإسلامي في عصوره الأولى، بالرغم من أن أقدم المخطوطات التي تشمل هذه الصور لا يرجع إلى ما قبل منتصف القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي).
ومما يجب ملاحظته أن الصور في مخطوطات مدرسة بغداد تكون جزءا من المتن يقصد بها شرحه وتوضيحه، وليست ميدانا لإظهار المواهب الفنية؛ وهذه المدرسة عربية أكثر منها فارسية، والأشخاص فيها تلوح عليهم مسحة سامية ظاهرة قني الأنوف، تغطي وجوههم لحى سوداء، وفي وجوههم شيء كثير من النشاط ودقة التعبير، وليس فيها الرشاقة والدعة اللتان نعرفهما في الفن الفارسي.
ولعل أبدع الصور في مدرسة بغداد تلك التي نراها في مقامات الحريري، فأكثرها يدل على مهارة كبيرة في تصوير الجموع وحركاتها المختلفة ودقة عظيمة في تصوير الحيوانات.
1
اللوحة رقم 4
شكل 6
شكل 7
منظران من مقامات الحريري (المدرسة العراقية سنة 634ه. من مخطوط شيفير بالمكتبة الأهلية بباريس. عن مارتن).
على أن الشبه بين بعض صور هذه المدرسة وبين الصور عند مسيحيي الكنيسة الشرقية يبلغ أحيانا درجة لا نستبعد معها أن تكون هذه الصور الإسلامية من صنع المسيحيين أنفسهم، على الرغم من القرون الخمس التي مضت بين ظهور الإسلام وتاريخ المدرسة التي نحن في صددها. فأكاليل النور التي تحيط برءوس الأشخاص، وإيضاح الأنف بخط بارز من اللون، والطريقة الاصطلاحية البسيطة التي ترسم بها الأشجار والملابس المزركشة والمزينة بالزهور وفروع الأشجار، والملائكة ذوو الأجنحة المدببة، كل هذا وغيره نجده مشتركا بين الصور عند مسيحيي الكنيسة الشرقية وبين الصور التي رقمها فنانو مدرسة بغداد،
2
ولعل هذا الشبه وتلك الصلة يرجعان إلى تأثر الفنين البيزنطي والإسلامي بالفن الساساني كما يظهر ذلك جليا في صناعة النسيج.
ومن أهم مصوري هذه المدرسة عبد الله بن الفضل الذي كتب وصور سنة 619ه/1222م مخطوطا من كتاب خواص العقاقير، كانت منه صور في مجموعتي الدكتور زره
Sarre
ببرلين، والدكتور مارتن
Martin
باستوكهلم،
3
والتأثير البيزنطي ظاهر في أشخاص هذه الصور الذين يلبسون ملابس واسعة مزينة بفروع نباتية، وأوراق هذا المخطوط مبعثرة الآن في متاحف العالم ومجموعاته الفنية ، ومنها واحدة في متحف المتروبوليتان في نيويورك تمثل طبيبا يحضر دواء للسعال، وقد استعملت في هذه الصورة ألوان خمسة: الأخضر والأزرق والأحمر والأصفر والذهبي، وثنايا الملابس فيها منسقة وبعيدة من الطبيعة حتى أصبحت موضوعا زخرفيا،
4
ومن هذا المخطوط صورة أخرى في متحف اللوفر تمثل أيضا طبيبا يحضر دواء.
5
وقد كتب يحيى بن محمود بن يحيى بن الحسن الواسطي سنة 634ه/1237م نسخة من مقامات الحريري رقم فيه ما ينوف على مائة صورة، يمثل فيها نوادر أبي زيد السروجي وبديع حيله، وهذا المخطوط محفوظ الآن بالمكتبة الأهلية بباريس أهداه إليها المستشرق شيفير
Schefer . وكل هذه الصور وثائق قيمة عن الحياة والنظم الاجتماعية والعادات في ذلك العصر،
6
ومنها صورتان تمثلان موكب عروس في هودج على جمل يشيعه فرسان يحملون الأعلام ويقرعون الطبول ويعزفون على الآلات الموسيقية؛
7
وبين كثير من هذه الصور وبين النقوش التي كشفتها دار الآثار العربية على جدران أحد الحمامات الفاطمية قرابة كبيرة، ولا غرابة في ذلك، فإن سقوط الدولة الفاطمية سنة 567ه/1171م كان إيذانا بانتقال كثير من فناني مصر إلى بلاد الجزيرة، حيث أصبحت بغداد مركزا كبيرا للفن والكتب.
وهناك نسخ أخرى من مقامات الحريري موضحة بالصور الممتعة في المكتبة الأهلية بباريس، وفي المتحف الآسيوي بلينينغراد، وفي غيرها من المتاحف والمجموعات.
8
وفي المتحف البريطاني مخطوط من مقامات الحريري تاريخه سنة 723ه/1323م كتب لعامل خراج في دمشق وبقي بعض صور الأشخاص فيها غير تام التلوين، مما يظهر لنا الطريقة التي كان الفنانون يتبعونها في تحديد الصور قبل تلوينها.
وفي مكتبة فينا مخطوط آخر من مقامات الحريري أحدث عهدا وعليه توقيع أبي الفضل بن أبي إسحق ومؤرخ سنة 733ه/1334م، وقد بدأت الصناعة تزول عنها بساطتها الأولى وتسير في طريق التعقيد، ومن أبدع صور هذا المخطوط اثنتان: الأولى تمثل أميرا على عرش وبيده كأس على الطريقة الساسانية ويحف به رجال الحاشية ويحميه ملكان بأجنحة مزركشة، وأمام العرش موسيقيون وبهلوان يطربون الأمير،
9
وتمثل الصورة الثانية شخصا يزور صديقا ألزمه المرض الفراش، وزينت ملابس الزائر وأصحاب البيت وسرير المريض بفروع نباتية وخطوط هندسية،
10
وفي هذا المخطوط تأثر بفن التصوير في أواسط آسيا.
اللوحة رقم 5
شكل 8: أمير على عرشه وأمامه بهلوان (المدرسة العراقية سنة 734ه. من مخطوط لمقامات الحريري بالمكتبة الأهلية في فينا).
وقد ظن بعض العلماء أن جزءا من هذه الصور التي تنسب إلى مدرسة بغداد إنما صنع في أفغانستان تحت رعاية الدولة الغزنوية، حيث نظم الفردوسي الشاهنامة في غرفة تزينها الصور كما يقولون، ولكن الحقيقة أنه ليس هناك دليل ثابت على أنه صنع في أفغانستان أو في بخارى أو خيوه أو الري صور تخالف في الطراز ما ينسب إلى مدرسة بغداد؛ فإن الأثر الفارسي كان سائدا في شرق الإمبراطورية الفارسية وفي وسطها. وفضلا عن ذلك فالخزف الذي ينسب إلى مدينة الري يحمل نقوشا كثيرة الشبه في الصناعة واللون بتلك التي وصفناها في هذا الفصل.
وهناك صور في مجموعة (البوم) بمكتبة إسطنبول نشرها الأستاذ ساكسيان في كتابه عن التصوير الفارسي، وأرجع تاريخها إلى النصف الثاني من القرن السادس الهجري (النصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي) مدعيا أنها من صناعة هذه المدرسة التي ظهرت في شرقي إيران،
11
ولكن يخالفه في الرأي أكثر مؤرخي الفن الإسلامي، والواقع أن هذه الصور لا يمكن إرجاعها إلى ما قبل العصر المغولي.
12
وقد امتد أثر مدرسة بغداد إلى بقية أجزاء الإمبراطورية الإسلامية كسورية ومصر، وهناك أوراق من نسخة من كتاب الحيل الميكانيكية للجزري كتبها سنة 755ه/1354م محمد بن أحمد بن ناصر الدين محمد الذي كان في خدمة الملك الصالح صلاح الدين من المماليك البرجية بمصر، وكلها موزعة بين المتاحف والمجموعات الأثرية في أوروبا وأمريكا. وفي اللوفر بباريس واحدة منها تمثل ساعة مائية وجهها على شكل نصف دائرة ترتكز على حامل فيه جامات فيها طواويس.
13
وصفوة القول أن أهم ميزات مدرسة بغداد هي تصوير الأشياء على ما هي عليه دون تجميل أو تكلف، وأكثر ما يظهر تأثير مسيحيي الشرق في صناعتها في تصوير الأشخاص على الطريقة التي استعملوها في تصوير قديسيهم وفلاسفة اليونان، وفي التي تمثل فيها الأشخاص وثنايا الملابس؛ أما التأثير الإيراني فظاهر في الزخرفة، وفي النسب بين أجزاء الجسم المختلفة في تصوير الأشخاص.
الفصل الثالث
المدرسة الفارسية التترية
تحدثنا في الفصل السابق عن مدرسة بغداد وقلنا إنها عربية فارسية تأثرت بالتصوير عند مسيحيي الشرق وبالفن الساساني، ونعرض الآن للمدرسة الفارسية التترية، وهي أولى المدارس الثلاث التي امتازت بها العصور الثلاثة الكبرى في تاريخ إيران من القرن السابع حتى الثاني عشر (الثالث عشر حتى القرن الثامن عشر الميلادي): عصر المغول وعصر تيمور وخلفائه وعصر الأسرة الصفوية.
ونحن نعلم أن المغول غزوا إيران وبلاد الجزيرة في أوائل القرن السابع الهجري (الثالث عشر)، وتوجوا حروبهم الطويلة وفتوحاتهم الكبيرة بالاستيلاء على بغداد سنة 656ه/1258م، فأصبحت مقر أسرتهم في الشتاء كما كانت تبريز مقرها في الصيف. وشيد المغول في العراق العجمي مدينة سموها سلطانية عند خط تقسيم المياه بين نهري زنجان وأبهر، وكانت هذه المدن الثلاث أهم المراكز لصناعة التصوير في عصر المغول.
ومن أهم مميزات هذا العصر في الفنون بأنواعها أثر واضح لتعاليم الشرق الأقصى وتقاليده، وليس خفيا أنه منذ القرن الأول الهجري (السابع الميلادي) كانت هناك علاقات تجارية بين الصين والإمبراطورية الإسلامية، وكانت الطرق الفنية الصينية يكثر تقليدها في البلاد العربية، حيث كانت تصرب الأمثال بمهارة الصينيين وتفوقهم في الصناعات والفنون.
وليس غريبا أيضا أن يصحب غزو التتر للإمبراطورية الإسلامية ازدياد العناصر الصينية في التصوير الفارسي، فقد كانت العلاقات متينة منذ القدم بين بلاد ابن السماء وبين وطن المغول في تركستان، وعندما فتح هؤلاء إيران في القرن السابع (الثالث عشر) كان مواطنوهم قد استولوا على مقاليد الحكم في الصين، فأصبحت إيران جزءا من إمبراطورية مغولية كبيرة امتدت إلى الطرف الأقصى من آسيا.
وعوامل الاتصال السياسية لم تكن قوية وما لبثت أن زالت، ولكن التجارة والروابط الأدبية كانت أدوم أثرا، وقد صحب المغول في ملكهم الجديد تراجم وعمال وصناع وفنانون من أهل الصين، فأصبح أثر الشرق الأقصى مباشرا.
وليس أثر الصين في التصوير الفارسي قاصرا على ما افترضه الإيرانيون من الصناعة الصينية، ولكنه فوق ذلك كان باعثا على عرفان هؤلاء بما يمكن الوصول إليه من التقدم في هذه الصناعة، فالواقع أن الصور المصغرة الفارسية كانت بعد سقوط بغداد سنة 656ه/1258م أعرق في الفارسية مما كانت عليه قبل هذا التاريخ.
على أن الصور التي تنسب إلى هذه المدرسة الفارسية التترية ليست كثيرة العدد؛ لأن عصر المغول 656-735ه/1258-1335م كان مملوءا بالحروب والفتوح، بيد أنه في أوائل القرن الثامن (الرابع عشر) تظهر المخطوطات التاريخية مزينة بصور المواقع الحربية ومجالس الشراب ومناظر الصيد.
ومما لا ينبغي نسيانه أن فتح المغول لم يكن قاضيا على مدرسة بغداد، بدليل ما نراه من الصور التي تظهر فيها صناعة هذه المدرسة ممزوجة ببعض التقاليد الصينية التي اكتسبها التصوير الفارسي في ذلك العصر، وقد تظهر الصناعتان جنبا إلى جنب، وقد توجد في مخطوط واحد صور صناعتها بغدادية وأخرى فارسية تترية.
وفي مكتبة مورجان بنيويورك مخطوط عن منافع الحيوان لابن بختيشوع مترجم إلى الفارسية وبه أربع وتسعون صورة، وقد عمل هذا المخطوط بأمر الأمير المغولي غازان خان 695-704ه/1295-1304م وتم بين سنتي 695-700ه/1295-1300م. وبعض صوره إما منقولة عن نماذج صينية وإما رقمها فنانون صينيون. وأكثر ما يظهر ذلك في تصوير الحيوانات والزهور والنباتات؛
1
فقد تعلم المسلمون من الشرق الأقصى تقليد الطبيعة والدقة في رسم الأشياء على ما هي عليه؛ فالنباتات التي يرسمونها حين يتأثرون بالفن الصيني لا تكون تقليدية يصعب تمييزها، بل يزيد القرب بينها وبين الطبيعة، وتميل الأشجار كأن الريح تداعبها.
2
على أن صناعة التصوير لم تلق في عصر المغول بوجه عام تلك العناية التي كانت تلقاها في بلاط العباسيين، أو التي لقيتها بعد ذلك في بلاط التيموريين والصفويين؛ ولسنا نقصد بذلك أن هناك إعراضا عن هذه الصناعة أو إهمالا لها، ولكن نلاحظ آثار العجلة التي نراها في صناعة أكثر الصور الفارسية التترية؛ فالحروب الكثيرة التي امتاز بها هذا العصر لم تكن لتجعل الأمراء وكبار رجال الدولة يطمعون في عمل دقيق يستغرق الوقت الطويل. فصور هذه المدرسة والحالة هذه يعجب بها مؤرخو الفن الإسلامي لقوتها ولغرابتها أكثر من إعجابهم بدقة في صناعتها أو عناية في تصويرها.
وقد بنى الوزير الكبير والمؤرخ المشهور رشيد الدين 645-718ه/1247-1318م ضاحية لتبريز، سماها باسمه واستخدم فيها خطاطين وفنانين لتدوين تآليفه التاريخية والفلسفية ولتصويرها.
3
ومن أهم ما وصل إلينا من الصور التي تنسب إلى المدرسة الفارسية التترية مخطوط من كتاب جامع التواريخ للوزير رشيد الدين نفسه، يرجع عهده إلى سنة 714ه/1314م، ومنه جزء محفوظ الآن في الجمعية الآسيوية الملكية بلندن، والجزء الآخر في مكتبة جامعة أدنبرا. وصور هذا المخطوط كالصور التي نراها في سائر مخطوطات جامع التواريخ لرشيد الدين، تمثل حوادث من الإنجيل ومن حياة بوذا ومن السيرة النبوية ومن تاريخ الصين والإمبراطورية الإسلامية. والظاهرة التي تميز هذه الصور هي الأثر الصيني الواضح في رسم المناظر الطبيعية، وفي السحنة المغولية التي تظهر في رسم أكثر الأشخاص؛ ولهذا المخطوط أهمية كبيرة؛ إذ إننا نرى في كثير من صوره العوامل الأجنبية التي أخذها الفن الفارسي عن الشرق الأقصى، والتي لم يكن قد هضمها بعد.
4
وتمثل إحدى صور هذا المخطوط سيدنا عليا وسيدنا حمزة - رضي الله عنهما - راكبين في طريقهما إلى مفاوضة المشركين؛ ولا تزال تقاليد مدرسة بغداد غالبة في هذه الصورة، فأشخاصها سحنهم عربية، وخيولهم ضامرة تختلف كثيرا عن الخيول المغولية.
5
والواقع أن هذه الصور ميدان تجتمع فيه تقاليد الشرق الأقصى بتقاليد مدرسة بغداد والفنون التي أثرت فيها.
وفى المكتبة الأهلية بباريس مخطوط آخر من جامع التواريخ لرشيد الدين، أكبر الظن أنه صنع في تبريز بين عامي 710-715ه/1310-1315م. ومن صوره صورة تمثل المغول وعلى رأسهم هولاكو يحاصرون بغداد، وأخرى تمثل المستعصم آخر خلفاء العباسيين يعبر نهر الدجلة ليلقى هولاكو بعد سقوط بغداد سنة 656ه/1258م، وثالثة تمثل جنكيز خان بين زوجاته ورجال بلاطه وأمامه ابناه قد ركعا يقدمان واجب الطاعة والاحترام، ويظهر في صور هذا المخطوط الأثر الصيني في محاكاة الطبيعة، وفي رسم الحيوانات الخرافية الصينية، وفي شكل السحب الذي نقله الفرس عن الصين بشكله التقليدي الوضعي، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة مشاهدة السحب ورسم منظرها الحقيقي.
ومما يشبه في الصناعة مخطوطات جامع التواريخ لرشيد الدين نسخة من الشاهنامة يرجع عهدها إلى النصف الأول من القرن الثامن (القرن الرابع عشر)، كان يملكها قديما المسيو ديموت
Demotte ، ثم تفرقت أوراقها بين اللوفر والمجموعات الأثرية في أوروبا وأمريكا؛ وصور هذه الشاهنامة كبيرة الحجم، ولعلها أقدم ما يعرف من تصوير لهذا الكتاب؛ وأما ميزتها فوجود العوامل الفارسية والصينية والمغولية فيها جنبا إلى جنب.
6
وفي اللوفر بباريس ثلاث من هذه الصور، تمثل الأولى الجيش الإيراني يطارد ملك كابل على رأس جيشه المهزوم، ويقود الإيرانيين فرامرز بن رستم وعلى رأسه خوذة من الذهب، وفي يده حربة يرفعها ليطعن بها ملك كابل الذي يفر أمامه.
7
والصورة الثانية تمثل الإسكندر جالسا على عرشه ويحيط به رجال بلاطه، وحول رأسه هالة لا تدل على قدسيته كما تدل أكاليل النور حول رءوس القديسين في الفنون المسيحية؛
8
فإن هذه الأكاليل استعملت في الفن الإسلامي لإظهار أهمية الأشخاص وعظمتهم فحسب.
9
والصورة الثالثة تمثل الإسكندر وقد وقف أمام شجرة يحدث الطيور، وخلفه خادم أمسك بعنان حصان وبغل.
10
ونحن نرى في هذه الصور ما أخذه الفرس عن الصين من تمثيل للسحب وما يرتديه الأشخاص من خوذات مغولية.
وفى المكتبة الأهلية بباريس مخطوط من تاريخ المغول لعلاء الدين الجويني، كتب في سنة 689ه/1290م، وفيه صورة واحدة تمثل هذا المؤلف يقدم نسخة من كتابه إلى السلطان أرغون.
11
وهناك أيضا عدة مخطوطات من تاريخ الطبري، ونسخة من شاهنامة كان يمتلكها الأستاذ شولتز
Schulz ، وفيها كلها صور لا تختلف صناعتها كثيرا عما تحدثنا عنه في هذا الفصل.
وقصارى القول أن المغول رغم ما عرفوا به من غرام بالتدمير والتخريب قد عرفوا كيف يقدرون الصناع ورجال الفن، ولا غرابة أن نقرأ في المصادر التاريخية كيف كانوا يخربون المدن فلا يبقون من أهلها إلا على الفنانين، وأرباب الصناعات التي تأثرت بها جميع الفنون الإسلامية، ولا سيما صناعة التصوير وصناعة الخزف في سلطان أباد.
اللوحة رقم 6
شكل 9: الإسكندر على عرشه (المدرسة الفارسية التترية. أوائل القرن الثامن الهجري. صحيفة من شاهنامة باللوفر ).
اللوحة رقم 7
شكل 10: فرامرز يطارد ملك كابل (المدرسة الفارسية التترية. أوائل القرن الثامن الهجري. صحيفة من شاهنامة باللوفر).
اللوحة رقم 8
شكل 11: السلطان غازان ومعه نساؤه (أوائل القرن الثامن الهجري).
شكل 12: السلطان أوجتاي ومعه أولاده (أوائل القرن الثامن الهجري. من مخطوط لتاريخ رشيد الدين بالمكتبة الأهلية بباريس. عن ساكسيان).
اللوحة رقم 9
شكل 13: «من كليلة ودمنة» فوق: كلب يترك فريسته ليأخذ صورتها في الماء. تحت: أسد يفترس ثورا (بمكتبة يلدز بإسطنبول، القرن الثامن الهجري. عن ساكسيان).
على أن المصادر التاريخية تحدثنا بأن أول ما عرفته فارس من صناع بلاد الصين كان في عصر السامانيين، حين أمر الملك نصر بن أحمد الشاعر الفارسي رودكي أن يكتب ترجمة فارسية شعرية لكليلة ودمنة، ثم أتى بمصورين صينيين زينوها بالرسوم التوضيحية، ولكن ذلك كان حادثا فريدا، ولم يظهر تأثير الشرق الأقصى واضحا جليا في الصور الفارسية إلا في عصر المغول.
12
الفصل الرابع
عصر تيمور وخلفائه
يعتبر عصر تيمور وخلفائه من أزهى عصور التصوير الفارسي، فقد كان مجيء هذا الفاتح التتري واتخاذه سمرقند عاصمة لملكه منذ سنة 772ه/1370م فاتحة لهدوء نسبي ساد بلاد إيران، التي عرفت في عهده وعهد ابنه وخليفته شاه رخ 807-850ه /1404-1447م سلاما لم تكن عرفته منذ مدة طويلة؛ وقد كان تيمور على فظاظته وقساوته محبا للفن والأدب، مغرما بقراءة أشعار حافظ ونظامي، وكان هو وخلفاؤه من أكبر المشجعين للفنانين والعلماء والأدباء.
وقد مهدت العصور السابقة لهذا العصر، فكانت فيها مراحل الاقتباس والاختيار والتأثر الكبير بالفنون الأجنبية، وقدر لعصر تيمور وخلفائه أن يشهد ازدهار طراز إيراني قوي إلى حد كبير، وغني بما اكتسبه من صناعة الشرق الأقصى، وأصبح جزءا أساسيا فيه.
وفي المصادر التاريخية أن تيمورلنك عمل على أن يجمع في عاصمته سمرقند أكبر عدد ممكن من الفنانين والصناع، فنقل إليها مئات المصورين من بغداد وتبريز وغيرهما من البلاد التي استولى عليها. ومع ذلك فقد ظلت بغداد وتبريز مركزين لصناعة التصوير؛ وإن يكن التاريخ قد حفظ لنا اسم مصور بغدادي شهير هو عبد علي عاش في بلاط سمرقند، فأكبر الظن أن هذه المدنية لم تبلغ في عهد تيمور ذلك المركز الكبير الذي بلغته هراة منذ أوائل القرن الخامس عشر في عهد شاه رخ وخلفائه.
فالواقع أنه يكاد لا يكون لدينا مخطوطات مصورة في سمرقند منذ عهد تيمورلنك، ولكن في المكتبة الأهلية بباريس مخطوط ينسب إلى هذه المدرسة، وهو رسالة في علم الفلك كتبت بسمرقند في النصف الأول من القرن التاسع الهجري (الخامس عشر) لمكتبة أولوغ بك ابن شاه رخ، وحاكم بلاد ما وراء النهر من سنة 812ه/1409م إلى سنة 849ه/1446م، وكان هذا الأمير قد أسس في سمرقند مرصدا شهيرا جمع فيه كبار المشتغلين بعلم الفلك.
1
وفى متحف المتروبوليتان بنيويورك مخطوط فلكي آخر مزين بخمسين صورة للبروج والنجوم، وترجح ملابس الأشخاص وتفاصيل الصناعة أن يكون هذا المخطوط قد كتب أيضا بسمرقند في عهد أولوغ بك.
2
على أن هناك مخطوطين في المتحف البريطاني يرجع عهدهما إلى عصر تيمور نفسه، ويمثلان حلقة الاتصال بين المدرسة الفارسية التترية وبين مدارس التيموريين.
وأول هذين المخطوطين نسخة من قصائد خواجو كرماني يشرح فيها غرام الأمير الفارسي هماي بهمايون ابنة إمبراطور الصين،
3
وقد كتبه الخطاط الفارسي الشهير مير علي التبريزي في بغداد سنة 799ه/1396م، وعلى إحدى صوره توقيع الفنان الفارسي جنيد السلطاني الذي كان في خدمة السلطان أحمد من السلاطين الجلائيريين ببغداد.
4
والمخطوط الثاني يرجع إلى العهد نفسه ويشمل عدة قصائد منها تاريخ منظوم كتبه أحمد التبريزي لفتوح جنكيز خان.
وفي صور هذين المخطوطين كثير من الصفات الزخرفية التي أصبحت فيما بعد من مميزات مدرسة هراة في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر)، فالأشجار الطويلة والمناظر الطبيعية ذات الجبال والتلال المرسومة على شكل الإسفنج، والنباتات الصغيرة التي تزيد في زخرفة الصورة وتمنحها طابعا خاصا، والألوان القوية التي لا يكسر من حدتها أي تدرج، كل هذا يفرق بين صور هذين المخطوطين وبين الصور الأولية في القرنين السابع والثامن (القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر).
على أن الأفضل أن لا ننسب صور هذين المخطوطين إلى أي مدرسة تيمورية؛ إذ الواقع أنها تمثل آخر تطور للمدرسة التترية. فعصر المغول يمتد إلى أوائل القرن التاسع (الخامس عشر)، وأسرة الجلائيريين المغولية التي حكمت في العراق واتخذت بغداد عاصمة لها جعلت هذه المدينة تترية طول القرن الثامن (الرابع عشر)، وجزءا من القرن التاسع (الخامس عشر)، بالرغم من استيلاء تيمور عليها سنة 795ه/1393م.
وفي المصادر التاريخية أن السلطان أويس، من أواخر ملوك أسرة الجلائيريين، كان من الملوك الذين عالجوا التصوير وأصابوا فيه نجاحا كبيرا.
اللوحة رقم 10
شكل 14: حبيبان (من مخطوط من منظومات خواجو الكرماني بالمتحف البريطاني تاريخه سنة 799ه. عن مارتن).
فالشبه إذن بين هذه الصورة وبين الصور التيمورية يرجع إلى أن الأولى تمثل، كما ذكرنا، حلقة الاتصال بين المدرسة الفارسية التترية وبين مدارس التيموريين، والواقع أن تيمور نفسه، بالرغم من غرامه بالفنون الجميلة، لم يكن السبب المباشر في نشأة الطراز التصويري الذي ننسبه إلى العصر المسمى باسمه، والذي هو نمو طبيعي لفن التصوير في القرن الثامن (الرابع عشر). لم تكن لذلك الفاتح يد كبيرة فيه، ولكن الذي يجعل هذه التسمية عادلة هو الرعاية السامية التي شمل بها خلفاء تيمور المصورين وفن التصوير.
اللوحة رقم 11
شكل 15: منظر في حديقة (من مخطوط من منظومات خواجو الكرماني بالمتحف البريطاني تاريخه سنة 799ه. عن مارتن).
اللوحة رقم 12
شكل 16: فارسان وحصانان يتقاتلان.
شكل 17: منظر في حديقة.
للمصور جنيد النقاش (في بغداد سنة 799ه. من مخطوط من منظومات خواجو الكرماني بالمتحف البريطاني).
وفي دار الكتب المصرية نسخة من الشاهنامة للفردوسي، كتبها لطف الله بن يحيى بن محمد في شيراز سنة 796ه/1393م، وفيها صحيفة مزخرفة وسبع وستون صورة مصغرة تشبه في الصناعة وفي طراز المناظر الطبيعية والملابس والسحنة مخطوطا من كليلة ودمنة محفوظا الآن في المكتبة الأهلية بباريس.
5
وفي مجموعة المستر شستر بيتي
Chester Beatty
شاهنامة أخرى كتبت في شيراز سنة 801ه/1397م، وكانت في مجلد واحد مع جزء من مخطوط محفوظ الآن بالمتحف البريطاني، ويشمل عدة قصائد على نمط الشاهنامة، وصور هذين المخطوطين أدق صناعة من الصور الموجودة في شاهنامة دار الكتب المصرية؛ فألوانها أكثر تناسبا، ورسومها أكثر تنوعا وإبداعا.
وقصارى القول أن مجموعة المخطوطات التي كتبت في آخر القرن الثامن الهجري (السنين العشر الأخيرة من القرن الرابع عشر) لها ميزات لا يستهان بها؛ ففيها تظهر الألوان الساطعة، ومناظر الحدائق والزهور والربيع، التي أصبحت بعد ذلك من خصائص الفن الفارسي. وقد وصل الفنانون فيها إلى إيجاد نسبة جميلة للأشخاص، وتوافق حسن بين متن المخطوط وبين الصور المصغرة. وفي بعض هذه الصور رسوم لمنسوجات وسجاد لم يصل إلينا منه شيء. ولا ريب أن أكبر الفضل في العناية بالتصوير الفارسي في هذه المرحلة يرجع إلى السلاطين الجلائيريين.
مدرسة هراة
على أن التصوير الفارسي يصل إلى العصر الذهبي في عهد خلفاء تيمور: ابنه شاه رخ، وأحفاده: بيسنقر، وإبراهيم سلطان، وإسكندر بن عمر شيخ. ولا غرو فقد أصبح في عصرهم وحدة قوية تمثل الروح الإيرانية، ويصعب كشف العوامل الأجنبية فيها.
وقد أدى النظام السياسي لإمبراطورية تيمورلنك إلى نشأة مراكز فنية عديدة؛ فبينما كان في عاصمة الدولة إمبراطور يشرف على إدارتها، كان في الأقاليم المختلفة أمراء يحكمونها ويجعلونها أشبه شيء بممالك مستقلة متحدة، وكان لكل أمير منهم بلاطه، وفي بعض الحالات نظامه الوراثي للحكم على النحو المتبع في عاصمة الإمبراطورية نفسها. فنرى مثلا أن شاه رخ كان حاكما على خراسان في حياة والده تيمورلنك، ولما توفي هذا خلفه ابنه وظل مقيما في خراسان، واتخذ هراة عاصمة لملكه، وعين أولوغ بك حاكما على بلاد ما وراء النهر ومقره سمرقند، وإبراهيم سلطان حاكما على شيراز وإقليم فارس.
وكان شاه رخ ملكا رشيدا، عرفت إيران في عصره السكينة والهدوء، وأصبحت هراة مركزا كبيرا لصناعة التصوير، وأسس فيها الإمبراطور مكتبة واسعة. ولما نصب ابنه بيسنقر حاكما عاما على إقليم هراة، أسس الابن مكتبة أخرى ومجمعا للفنون، جمع فيه المصورين والمذهبين والخطاطين والمجلدين؛ فلعب هذا المجمع دورا كبيرا في صناعتي التصوير والتذهيب، اللتين انتقلتا من شيراز وتبريز وسمرقند إلى هراة.
ولم تبلغ العلاقات بين إيران وبلاد الشرق الأقصى من الود في وقت من الأوقات ما بلغته في عصر شاه رخ؛ فتبودلت البعثات، ولعل ذلك يرجع إلى تغيير الأسرتين الحاكمتين، فكما انتهى حكم المغول في فارس في أواخر القرن الثامن الهجري (الرابع عشر) انتهى أيضا في الصين حكم أسرة يوان
Yuan
المغولية (1280-1367) وخلفتها أسرة منج
Ming (1368-1644).
ومما يلفت النظر أن بيسنقر ضم إلى إحدى هذه البعثات التي سافرت إلى الصين حول سنة 823ه/1420م مصورا اسمه غياث الدين، كلفه بأن يصف كل ما يراه في طريقه، وقد فعل غياث الدين ذلك، ونقل إلينا وصفه كمال الدين عبد الرازق في كتابه «مطلع السعدين» الذي ترجمه إلى الفرنسية المستشرق كترمير
Quatremère . وليس بعيدا أن يكون غياث الدين قد اصطحب معه في عودته بعض الفنانين الصينيين أو شيئا من صورهم.
6
ومهما يكن من شيء فقد كانت الصور والرسوم الصينية معروفة في إيران حق المعرفة، يقدرها الأمراء ورجال الفن ويلحون في طلبها، وقد كان لذلك تأثير كبير يصعب علينا إيضاحه وكشفه؛ ولكننا نلمسه ونجزم بوجوده حين نرى الدقة التي وصلت إليها صناعة التصوير في مدرسة هراة. على أنه قد وصل إلينا بعض صور نرى فيها العوامل الصينية والإيرانية جنبا لجنب، لم تختلط ولم تكون وحدة قوية كما كانت في المدارس التيمورية، وأوضح هذه الصور واحدة رسم فيها فرع شجرة وعليه عصفور يكاد المرء يظنها من صناعة عصر منج
Ming
في الصين، ثم رسم تحتها خسرو وشيرين الحبيبين الإيرانيين بملابس فارسية ووجهين صينيين، حتى لقد يعجز مؤرخو الفن عن الجزم بأن صانع هذه الصور فارسي قلد الصناعة الصينية، أو صينيا قلد الصناعة الفارسية.
7
ولكن أظهر ما يكون التأثير الفارسي في فن العصر التيموري هو في التجليد الذي تزينه حيوانات الفن الصيني.
8
ومن مميزات الصور المصغرة في مدرسة هراة رسم الرءوس الآدمية الحيوانية في زخرفة الفروع النباتية على النحو الذي نعرفه في الصور المصغرة الأرمنية، التي يرجع تاريخها إلى أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن (أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر).
ومن أهم الصور المنسوبة إلى مدرسة هراة واحدة في متحف الفنون الزخرفية في باريس، تمثل وصول الأمير هماي إلى بلاط إمبراطور الصين؛ ويرجع تاريخها إلى نحو سنة 834ه/1430م، وفيها مزيج متناسق من رشاقة الصناعة الفارسية ومن جمال الفن الصيني في عصر منج.
9
على أن أثر اختلاط الأساليب الصينية في عصر منج
Ming
بالتقاليد الفنية الفارسية لا يصعب تبينها في صور مخطوط معراجنامة المحفوظ الآن بالمكتبة الأهلية في باريس، والذي كتب لشاه رخ في هراة سنة 840ه/1436م. وأكثر هذه الصور مربع الشكل ومستقل عن متن المخطوط، ويرى فيها النبي
صلى الله عليه وسلم
ممتطيا صهوة البراق، يتقدمه سيدنا جبريل، أو تحيط به الملائكة، يسير في السموات، أو يقابل غيره من الرسل. ويلاحظ في رسوم الملائكة أن وجوههم مستديرة، وعيونهم صغيرة منحرفة تكشف عن تأثير السحنة الصينية في المصور، كما يظهر تأثره بالفن الصيني في الشكل التقليدي الذي يرسم عليه السحب، بينما نرى في وجوه النبي وأصحابه انسجاما ورقة ينمان عن صناعة إيرانية عربية. وهذه الصور في مجموعها جميلة زادها اللونان الأزرق والذهبي روعة وبهاء، ولكن تكرار الموضوعات جعلها لا تسلم من الملل.
10
وشبيه بهذه الصور في الصناعة اثنتا عشرة صورة مصغرة في متحف المتروبوليتان بنيويورك، وهي من شاهنامة يحتمل إرجاعها إلى النصف الأول من القرن التاسع (الخامس عشر). ومن أبدع هذه الصور واحدة تمثل رستم يمسك فرسه رخش، وإلى جانبهما شجرتان مرسومتان على الطريقة الصينية، وتطير فوقهما أوزتان. وتمثل صورة أخرى كيكاوس يحاول الطير في السماء بوساطة نسرين يربطهما في عرشه.
11
وفي متحف المتروبوليتان مخطوط آخر من منظومات نظامي (الخمسة) كتب في سنة 853ه/1449م، وفيه ثلاثون صورة تمتاز بألوانها الزاهية؛ ولعل أكثر ما يلفت النظر فيها صورة فرهاد يحمل عشيقته شيرين وحصانها الذي تركبه.
12
هذا ويجب ألا يدور بخلدنا أن هنالك فرقا يذكر بين الصور المصنوعة في هراة والصور التي صنعت في غيرها من المدن الإيرانية كشيراز مثلا، والتي ترجع أيضا إلى عصر تيمور وخلفائه؛ فإن سياسة الحكم في عهدهم كانت كما ذكرنا أكبر مشجع على نشأة المراكز الفنية في أقاليم الإمبراطورية المختلفة، التي كان يتولاها أفراد من الأسرة المالكة؛ وكان ذلك أيضا داعيا إلى تبادل كبار الفنانين، ولعل أشهرهم كان أكثرهم تنقلا، بينما كان نصيب الفنانين العاديين البقاء في مواطنهم، حيث تسود أعمالهم مسحة ريفية، نراها مثلا في مخطوط للمنظومات «الخمسة» لنظامي، محفوظ الآن في جامعة إبسالا، ويرجع تاريخه إلى سنة 843ه/1439م.
13
وفي القسم الإسلامي من متاحف برلين صور من مجموعة أشعار فارسية كتبها سنة 823ه/1425م في شيراز محمود الكاتب الحسيني لمكتبة الأمير بيسنقر؛ وأجمل هذه الصور اثنتان: واحدة تمثل خسرو يعثر على شيرين، والأخرى تمثل الحرب بين جنود كسرى برويز وبهرام جوبين.
14
وقد كانت الصور المنسوبة إلى عصر تيمور لا يعرف منها إلا عدد قليل، حتى كان معرض الفن الفارسي في لندن سنة 1931، فظهر عند الهواة ومؤرخي الفن عدد كبير منها، وكذلك لدى حكومة جلالة الشاه التي أرسلت إلى هذا المعرض أنفس ما عندها. ولا يتسع المجال هنا لدراسة هذه الصور، فنكتفي بأن نحيل القارئ إلى المؤلفات والمقالات التي كتبت عن المعرض المذكور، وخاصة إلى كتاب الصور المصغرة الفارسية الذي كتبه لورنس بنيون وولكنسون وجراي.
وقصارى القول أن فن التصوير في عصر تيمور وخلفائه نما وترعرع، وأصبح قاب قوسين أو أدنى من الكمال الذي وصل إليه في عصر بهزاد وتلامذته.
على أنه بعد وفاة شاه رخ سنة 851ه/1447م دب الانحلال إلى الإمبراطورية التي جاهد طويلا في سبيل توحيدها وإعلاء شأنها، وأخذ خلفاؤه في النزاع؛ فما لبث غرب بلاد إيران أن سقط في يد خصومهم من قبائل التركمان التي تعرف باسم آق قويونلو أو ذوي الخروف الأبيض، وقرايونلو أو ذوي الخروف الأسود، نسبة إلى شعارهم الحربي. ومات السلطان أبو سعيد سنة 873ه/1468م وهو يحاول استرداد هذه الأقاليم. وظهرت إمبراطورية الأوزبك في بلاد ما وراء النهر، واستطاعت في آخر القرن الثامن الهجري (الرابع عشر) أن تقضي على نفوذ التيموريين في تلك البلاد وفي شرقي إيران، وبقيت هراة عاصمة خلفاء تيمور ولم تزدها هذه المحن إلا تقدما وازدهارا. فكان حكم السلطان حسين بيقرا 873-912ه/1468-1506م من أزهى عصور التيموريين. وتسابق إلى هراة رجال الأدب والفن والتاريخ، واستطاع السلطان الاحتفاظ بعرش أجداده؛ وكان ساعده الأيمن وزيره ورفيق صباه مير علي شير الذي كان شاعرا مثله، وراعيا كبيرا للأدباء والعلماء ورجال الفن.
اللوحة رقم 13
شكل 18: خسرو يقتل بهرام (المدرسة الفارسية التترية سنة 823ه. من مخطوط مؤرخ لمكتبة الأمير بيسقر. متاحف برلين).
اللوحة رقم 14
شكل 19: لقاء هماي وهمايون في حديقة القصر (المدرسة التيمورية. الربع الأول من القرن التاسع الهجري. بمتحف الفنون الزخرفية في باريس).
اللوحة رقم 15
شكل 20: رستم وإسفنديار قبل أن يتبارزا (المدرسة التيمورية سنة 833ه. من شاهنامة بمتحف كلستان بطهران).
اللوحة رقم 16
شكل 21: خسرو وشيرين (المدرسة التيمورية. في أوائل القرن التاسع الهجري. مجموعة فيفر).
اللوحة رقم 17
شكل 22
شكل 23
رسم على الطراز الصيني (مدرسة هراة. في النصف الأول من القرن التاسع الهجري بإسطنبول. عن ساكسيان).
اللوحة رقم 18
شكل 24
شكل 25
لسان بجلدة مخطوط باسم شاه رخ ( مدرسة هراة سنة 842ه. مكتبة سراي القديمة بإسطنبول. عن ساكسيان).
وعلى كل حال فقد ظهر في خدمة حسين بيقرا ووزيره مير علي شير أكبر مصوري الفرس، وأشهر رجال الفن الإسلامي: بهزاد.
الفصل الخامس
بهزاد ومعاصروه - مدرسة بخارى
ولد بهزاد في هراة حوالي سنة 854ه/1450م، ودرس النقش والتصوير على بير سيد أحمد التبريزي، ويقول آخرون على ميرك نقاش من هراة، ومهما يكن من شيء فإنه تلقى تعليما حسنا بفضل رعاية السلطان حسين بيقرا ووزيره مير علي شير.
وظل بهزاد في هراة حتى أفل نجم التيموريين وزالت دولتهم على يد محمد خان شيباني، الذي استولى على عاصمتهم سنة 913ه/1507م، ولم يترك بهزاد مقره في هراة إلا بعد أن استولى عليها الشاه إسماعيل الصفوي سنة 916ه/1510م؛ فانتقل معه إلى تبريز، وحظي عنده وعند خليفته الشاه طهماسب بمكانة قل أن يصل إليها فنان قط.
ويروون أنه لما كانت الحرب بين الشاه إسماعيل وبين الترك سنة 920ه/1514م بلغ من خوفه على بهزاد أن أخفاه هو والخطاط المشهور شاه محمود نيشابوري في قبو، ولما انتهت المعركة كان أول همه الاطمئنان على سلامتهما.
اللوحة رقم 19
شكل 26: اختطاف فتاة في قارب (مدرسة هراة في أواخر القرن التاسع الهجري. مجموعة ساكسيان).
وفي سنة 930ه/1522م عين الشاه إسماعيل بهزاد مديرا لمكتبته الملكية، ورئيسا لكل أمناء المكتبة، والخطاطين، والمصورين، والمذهبين. وقد حفظ لنا المؤرخ خواندامير براءة تعيينه، ونشرت هذه الوثيقة الكبرى مع ترجمة فرنسية في الجزء الرابع والعشرين من مجلة العالم الإسلامي
Revue du Monde Musulman
1
وترجمها أيضا إلى الإنجليزية الأستاذ أرنولد في آخر كتابه عن التصوير في الإسلام.
اللوحة رقم 20
شكل 27: جماعة من الصوفية في حديقة (للمصور قاسم علي سنة 890ه. بالمكتبة البودلية في أكسفورد).
اللوحة رقم 21
شكل 28
شكل 29
السلطان حسين ميرزا في وليمة. لبهزاد (من مخطوط لبستان سعدي بدار الكتب المصرية تاريخه سنة 893ه).
وقد أحرز بهزاد شهرة واسعة فاقت شهرة من سبقه من المصورين، ومن عاصره أو خلفه منهم. وتسابق قياصرة الهند من المغول إلى جمع صوره والإعجاب بها؛ ولكن هذه الخطوة جعلت المصورين يقلدونه، وحملت الخطاطين والهواة على أن ينسبوا إليه من الصور ما ليس من عمله، ويقلدون إمضاءه جريا وراء ربح مادي، أو فخر أدبي؛ فأكثر الصور التي قد تلقي شعاعا من الضوء على أعمال هذا الفنان العظيم يشك مؤرخو الفن الإسلامي في صحة نسبتها إليه.
على أن بهزاد كان من أوائل الفنانين الفرس الذين مهروا بإمضائهم ما رقموه من صور؛ والمعروف أن الإمضاءات في الفنون الشرقية لم تبلغ من الأهمية ما بلغته في فنون الغرب، حيث نمت شخصية الفنان، وفطن إلى حقه في الافتخار بما صنعته يداه.
2
هذا وقد عني الهواة ومؤرخو الفن بالبحث عما يصح نسبته إلى بهزاد من الصور الكثيرة التي تحمل إمضاءه. وقد كان معرض الفن الفارسي في لندن سنة 1931 أكبر عون لهم على ذلك، وإن كان لا يزال بينهم وبين الوصول إلى نتيجة حاسمة مرحلة واسعة وشوط بعيد.
ومما يدل على عظم المرتبة التي وصل إليها بهزاد أنه لم يجعل للخطاطين أي نفوذ عليه، فلم يتركهم يحددون الفراغ الذي يتركونه له في المخطوطات، ويتحكمون في انتقاء الموضوعات التي عليه إيضاحها بالصور؛ بل أخذ يختار بنفسه ما يروق له، ولم يكن يترك للخطاطين في الصحيفة المصورة إلا سطورا قليلة إن لم يستقل بها كلها ، أو يذهب إلى أبعد من هذا فيأخذ لصورته صحيفتين متجاورتين.
3
وفي مكتبة يلدز بإسطنبول صورة لبهزاد تمثله شخصا طيبا يغلبه الحياء، ويرجع عهد هذه الصورة إلى الأسرة الصفوية، وقد نشرها الأستاذ ساكسيان في كتابه عن الصور المصغرة الفارسية.
4
وإذا نحن عرجنا الآن على استعراض الصور التي تنسب إلى بهزاد فإننا نفعل ذلك بشيء من التحفظ، فضلا عن أننا لن نذكر منها إلا ما يكاد يتفق العلماء على صحة نسبته إليه.
فمن آثار القسم الأول من حياته، أي من صناعته في هراة، صورتان للسلطان حسين بيقرا ولمحمد خان شيباني إحداهما غير تامة، ولهاتين الصورتين قيمة كبيرة؛ فهما أول ما نراه في الفن الفارسي من صور شخصية حقيقية يدرس فيها شخص بسحنته وصفاته الجسمية، مما لم يكن يستطيعه في ذلك العصر من مصوري آسيا إلا الصينيون واليابانيون.
5
وقد لاحظ الأستاذ الدكتور كونل
Dr. Kühnel
أن هناك علامة تميز أكثر الصور التي رسمها بهزاد، وهي وجود رجل ذي سحنة بربرية، ولعل المصور الكبير كان يرى في ذلك خير وسيلة لإظهار الفرق بين تلك السحنة البربرية وبين سحنة الرجال الآخرين من الجنس الأبيض. وقد لوحظ أيضا أن بهزاد كان يتجنب تصوير النساء ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
6
ويحق لدار الكتب المصرية أن تفخر بمخطوط فيها من كتاب بستان سعدي يشمل خمس صور، تكاد تكون في الوقت الحاضر أمتن أساس تستند عليه دراسة بهزاد، فإن الثقة بصحة نسبتها إليه أعظم من الثقة بنسبة أي صور أخرى؛ إذ المخطوط غاية في الإبداع، ودقة الصناعة، كتبه أكبر خطاطي العصر «سلطان علي الكاتب» سنة 893ه/1488م للسلطان حسين بيقرا الذي نرى صورته في صدر المخطوط،
7
ومن الطبيعي أن يوكل عمل الصور في مثل هذه التحفة إلى بهزاد نفسه. وعلى كل حال فإن فيها أربع صور عليها إمضاء هذا الفنان، ونصه: «عمل العبد بهزاد.»
8
وتتجلى في هذه الصور البراعة الفائقة التي امتاز بها بهزاد في مزج الألوان ومحاكاة الطبيعة، والعناية بتمييز كل شخصية من الأخرى، والتعبير عن الحالات النفسية المختلفة. وفي الصورة التي تمثل الملك دارا مع راعي خيله،
9
يظهر توفيق بهزاد في تصوير الطبيعة الريفية وتفوقه في رسم الخيل. وفي أربع الصور الأخرى واحدة تمثل سيدنا يوسف يفر من زليخا امرأة العزيز، حين شيدت في سبيل إغوائه قصرا فيه سبع طبقات من الأبواب، وزينت الغرفة الداخلية بصور تمثلها بين ذراعي سيدنا يوسف، زاعمة أنه حين يراها لا بد واقع في شراكها، ولكنه فطن إلى الحيلة وصلى ففتحت الأبواب ونجا من زليخا. ونلاحظ في رسمه ما اعتاده الفرس في تصويرهم من تغطية وجوه الرسل وإحاطة رءوسهم بهالة من الضوء.
10
وتمثل صورة أخرى بعض علماء الدين يتجادلون في مسجد.
11
بينما تمثل الصورة الأخيرة مناظر أخرى في مسجد.
12
وفي المتحف البريطاني ثلاث صور في مخطوط صغير من المنظومات «الخمسة» لنظامي عليها إمضاء بهزاد، وصناعتها من الإبداع والدقة بحيث لا تترك مجالا كبيرا للشك في صحة هذه النسبة؛ واثنتان منها تمثلان معركتين حربيتين لم يبلغ الفن الفارسي إلى تصوير مثلهما في قوة التعبير والحرية الفنية.
اللوحة رقم 22
شكل 30: سيدنا يوسف يفر من زليخا. لبهزاد (من مخطوط لبستان سعدي بدار الكتب المصرية تاريخه سنة 893ه).
وهناك صورة في مخطوط من كتاب «بستان» سعدي، يمتلكه الآن المستر شستر بيتي، على بعضها توقيع لبهزاد. ولكنا لا نريد أن نعرض هنا لكل ما ينسب إلى هذا الفنان، فإن المجال لا يتسع لمناقشة صحة هذه النسبة أو خطئها.
13
وقد زعم بعض مؤرخي الفن أن بهزاد لا يستحق الشهرة التي نالها. وفي الحق أنه من الصعب أن نجد في أعماله من البراعة والمقدرة الخارقة للعادة ما يبرر كل هذه الشهرة، كما أنه من الصعب أيضا اعتباره مبدع مدرسة أو طراز جديد بالمعنى الحديث الذي نفهمه. ولكن بهزاد مثال المصور الكامل، انتهى عنده تطور التصوير الفارسي في عهد المدرستين الفارسية التترية ثم التيمورية، وبلغ التقدم منتهاه، فاستطاع هذا الفنان بقدرته العجيبة على التأليف التصويري، ومزج الألوان، ومراعاة الطبيعة، وجعل أسارير الوجه لأشخاص صوره ملائمة لأعمالهم وحالاتهم النفسية؛ نقول استطاع بهزاد بفضل ذلك كله أن يحوز رضاء معاصريه، وأن يصل إلى شهرة لا تعادلها شهرة أي فنان آخر في العالم الإسلامي.
14
اللوحة رقم 23
شكل 31: الراعي ودارا ملك الفرس. لبهزاد (من مخطوط لبستان سعدي بدار الكتب المصرية تاريخه سنة 893ه).
اللوحة رقم 24
شكل 32: مناظر في مسجد. لبهزاد (من مخطوط لبستان سعدي بدار الكتب المصرية تاريخه سنة 893ه).
اللوحة رقم 25
شكل 33: فقهاء يتجادلون. لبهزاد (من مخطوط لبستان سعدي بدار الكتب المصرية تاريخه سنة 893ه).
اللوحة رقم 26
شكل 34: صورة درويش من بغداد. لبهزاد (مجموعة شستر بيتي).
اللوحة رقم 27
شكل 35: صورة فارسية للوحة تعزى إلى جنتيلي بلليني المصور البندقي (القرن الحادي عشر الهجري. مجموعة فيتالي ماجار).
اللوحة رقم 28
شكل 36: مناظر في حمام.
شكل 37: بناء مسجد.
لبهزاد (من مخطوط للمنظومات الخمسة لنظامي. بالمتحف البريطاني).
قاسم علي
وهناك فنان آخر نبغ في هراة في النصف الثاني من القرن التاسع الهجري (الخامس عشر) ظل مجهولا لمؤرخي الفن الإسلامي، يخلطون بين آثاره وآثار بهزاد حتى عرض الأستاذ ساكسيان لفحص الصور التي انتحلت على الفنان الأخير، والتوقيعات التي كانت تنسب خطأ إليه، فكشف، في مخطوط من القصائد الخمسة لنظامي تاريخه 899ه/1493م ومحفوظ الآن بالمتحف البريطاني، إمضاء المصور قاسم علي في صور من هذا المخطوط عليها إمضاء مزور لبهزاد.
15
وبالرغم من أن إمضاء قاسم علي لا يظهر إلا في سبع صور من المخطوط، فإن ساكسيان يعتقد بأن ستا أخرى يمكن نسبتها إليه.
ولعل أبدع صورة في هذا المخطوط تلك التي تمثل مدرسة في الهواء الطلق.
16
فالمعلم الهرم الذي يمد يده ليتناول كتابا يعرضه عليه أحد تلاميذه، وذلك التلميذ الذي أضناه التعب أو غيره فأخذ يغط في النوم، والآخران اللذان استرسلا في حديث قد لا تكون له بموضوع الدراسة أي علاقة، وهاتان الفتاتان اللتان تستمعان في شيء من الدلال والخجل إلى حديث زميل لهما، وشجرة الساج العظيمة التي تشرف على المعلم وتلاميذه، كل هذا جميل يأخذ بمجامع القلب.
وجميلة أيضا تلك الصورة التي تمثل عددا من النساء في بركة حمام، تطربهن عازفة على العود، وتجذب إحداهن رفيقة لها تدعوها للنزول في الماء، وترمق الجميع عين غريبة تنظر إليهن خلسة من كوتي شرفة تطل على البركة، وتزين يسار الصورة حديقة فيها شجرة سرو وشجيرات زهور.
17
وقد وجد توقيع قاسم علي في صورة من مخطوط بمكتبة البودليان بأكسفورد تاريخه 890ه/1485م وتمثل هذه الصورة جماعة من الصوفية يتحدثون في حديقة.
18
ومهما يكن من شيء فإن الصور التي عرضت في معرض الفن الفارسي بلندن سنة 1931 أيدت ما ذكره عن قاسم علي المؤرخ الفارسي خواندمير،
19
وأظهرت براعته الفائقة في مزج الألوان ورسم الأشخاص.
ومن الذين اشتهروا من تلاميذ بهزاد المصور شيخ زاده الخراساني، ومير مصور السلطان، وأغا ميرك، ومظفر علي،
20
وسيأتي الكلام على بعضهم في الفصل القادم.
مدرسة بخارى (القرن العاشر الهجري)
سقطت هراة سنة 913ه/1507م في يد المغيرين من الأزبك وعلى رأسهم شيباني خان، وفر حاكمها الأمير بديع الزمان إلى تبريز، وفر معه كثير من الفنانين وإن يكن عميدهم بهزاد قد ظل في هراة. وعلى كل حال فإن نصر الشيبانيين لم يدم طويلا، فما لبث الشاه إسماعيل الصفوي أن قضى على حكمهم، وهزم أميرهم محمد خان شيباني في معركة مرو سنة 916ه/1510م، وضم خراسان إلى ملكه. ولم تبق هراة حاضرة هذا الإقليم، فإن الشيبانيين أصبحوا يحكمون من سمرقند وبخارى ما بقي في يدهم ببلاد ما وراء النهر، وولت خراسان وجهها شطر تبريز. وهاجر إلى هذه المدينة كثير من رجال الفن في هراة، كما هاجر إلى سمرقند وبخارى كثيرون غيرهم ولكن آخرين ظلوا في هراة كما تدل على ذلك المخطوطات الكثيرة التي صورت بها في أوائل القرن العاشر (الثلث الأول من القرن السادس عشر)، والتي يظهر على إحدى صورها اسم المصور محمد مؤمن.
21
اللوحة رقم 29
شكل 38: نساء في الحمام ترمقهن عين فضولي.
شكل 39: مدرسة في الهواء الطلق.
للمصور قاسم علي سنة 899ه (من مخطوط للمنظومات الخمسة لنظامي باسم أمير من أمراء السلطان حسين ميرزا. بالمتحف البريطاني).
اللوحة رقم 30
شكل 40
شكل 41
عجوز تطلب إلى السلطان سنجر أن ينظر في مظلمة لها (للمصور محمود المذهب. مدرسة بخارى سنة 953ه. من مخطوط «لمخزن الأسرار» لنظامي بالمكتبة الأهلية بباريس).
وفي سنة 942ه/1535م أتيح للأزبك الاستيلاء مرة ثانية على هراة فنهبوها، وهاجر إلى بخارى أكثر الباقين فيها من رجال الفن، ولعل مما شجع على المهاجرة إلى بخارى ما اضطرت إليه خراسان بعد الفتح الصفوي من اعتناق المذهب الشيعي، بينما كان الشيبانيون سنيين كما كان من قبلهم تيمور وخلفاؤه.
وقد كان المعروف من صور مدرسة بخارى قليل العدد، حتى كان معرض الفن الفارسي بلندن سنة 1931، فظهر بين المعروضات كثير منها، وبعضه من عمل المصور محمود مذهب الذي يعتبر رأس هذه المدرسة.
على أن أبدع ما نعرفه من عمل هذا المصور إنما هي الصورة التي نراها في مخطوط بالمكتبة الأهلية بباريس لمنظومة نظامي «مخزن الأسرار»، كتبه في بخارى سنة 944ه/1537م الخطاط المشهور مير علي، ولكن الصورة عليها تاريخ سنة 953ه/1546م، وتمثل السلطان السلجوقي سنجر ومعه حاشيته وقد استوقفتهم عجوز تطلب إلى السلطان النظر في مظلمة لها.
22
وتمتاز الصور المصنوعة في بخارى في النصف الأول من القرن العاشر (السادس عشر) بروعة ألوانها وبظهور تأثير بهزاد في صناعتها. ولا غرو فإن مدرسة بخارى ليست إلا امتداد المدرسة التيمورية. ومن أول الأمثلة على ذلك «بستان» سعدي المحفوظ بالمكتبة الأهلية بباريس، والذي كتب في بخارى سنة 964ه/1555م، وزين بصور تشبه كثيرا صور بهزاد في «البستان» المحفوظ بدار الكتب المصرية.
23
وهناك مخطوط من ديوان جامي كان في مجموعة ديموت
Demotte
ويرجع إلى سنة 983ه/1575م ولكنه يحوي صورة بديعة جدا تمثل لقاء رجل وامرأة، وعليها توقيع الفنان عبد الله مصور، وبها كل خصائص الصور في أواخر القرن التاسع (الخامس عشر). وفي الحق أن التصوير في بلاد ما وراء النهر لم يجد مرتعا خصبا، ولم يزدهر مدة طويلة، ومع ذلك قد حفظه جموده وعدم تطوره من مثل الاضمحلال الذي سار في طريقه التصوير في العصر الصفوي منذ منتصف القرن العاشر (السادس عشر).
ومهما يكن من شيء فإن التصوير في بخارى ينتهي عصره قبيل انتهاء القرن العاشر (السادس عشر) وتصبح بلاد ما وراء النهر غريبة عن التصوير الفارسي غرابتها عنه قبل سقوط التيموريين.
24
الفصل السادس
المدرسة الصفوية
كان حكم الصفويين في إيران عصر رخاء وتقدم، فعرفت البلاد في القرنين العاشر والحادي عشر (السادس عشر والسابع عشر) وفي الربع الأول من القرن الثاني عشر تطورا كبيرا في الفنون، وبلغت صناعة التصوير في النصف الأول من حكمهم الطويل درجة عظيمة من الإبداع والإتقان. لا غرو فإن استيلاء الشاه إسماعيل على هراة 907-930ه/1502-1524م وهجرة الفنانين إلى عاصمته تبريز، ثم تعيينه بهزاد مديرا لدار الكتب الملكية، وهي في ذلك الوقت أشبه شيء بمجمع الفنون الجميلة، نقول إن ذلك كله كان باعثا على نشأة مدرسة جديدة على رأسها خير من أنجبتهم هراة من مصورين، ومن ثم كانت الصلة وثيقة بين فن المدرسة الصفوية في أول عهدها وبين التقاليد الفنية التي سادت في الوسط الذي عمل فيه بهزاد وزملاؤه وتلاميذه.
على أن الحروب التي خاض غمارها الشاه إسماعيل جعلت نصيبه في تعضيد الفنون أقل من نصيب ابنه الشاه طهماسب، الذي خلفه على عرش إيران سنة 930ه/1524م وظل يحكم البلاد حتى سنة 984ه/1576م.
وقد كان الشاه طهماسب نفسه مصورا ماهرا، تلقى الفن على المصور المشهور سلطان محمد، وكانت بينه وبين بهزاد وأغا ميرك صداقة طيبة.
1
والمعروف أن ازدراء المصورين قل في عهد الأسرة الصفوية؛ وإذا كانوا ظلوا مهضومي الحقوق منخفضي المكانة فإن الأمراء وكبار رجال الدولة كانوا يتهافتون على اقتناء آثارهم، وظهرت تبعا لذلك مخطوطات فيها عدد كبير من الصور.
2
وتظهر في الصور الصفوية عظمة ذلك العصر وأبهته، وأكثر ما تعرض لتمثيله مأخوذ من حياة البلاط والطبقة الأرستقراطية، والقصور الجميلة والحدائق الغناء؛ وتمتاز الأشخاص في هذه الصور بالقدود الهيفاء والملابس الفاخرة. وأما رسومها فغاية في الدقة، كما أن ألوانها كثيرة التنوع؛ ففيها الألوان الساطعة الزاهية التي اشتهرت بها المدرسة التيمورية، وفيها ألوان أخرى أكثر هدوءا، وهناك عدا ذلك عناية ظاهرة في تخير موضوعات الصور وفي التأليف التصويري على وجه عام.
3
ومما يميز الصور الصفوية - لا سيما غير المتأخرة منها - لباس الرأس؛ فإنه مكون من عمامة ترتفع باستدارة تبرز من أعلاها عصا صغيرة حمراء، وإذا كان وجود هذه العمامة في صورة من الصور يدل على أنها ترجع إلى عصر الأسرة الصفوية، فإن وجود غيرها أو عدم وجودها هي لا يحتم أن تكون الصورة من غير هذا العصر. والظاهر أنها كانت بادئ ذي بدء شعار أفراد الأسرة الصفوية وأتباعهم، وكانت العصا الصغيرة حمراء دائما كما يتبين من الصور التي ترجع إلى أوائل العصر الصفوي. ولكن ما لبثت أهميتها تقل وبدأ الناس والمصورون يغيرون لون العصا عندما رسخ قدم الأسرة ولم تعد ثمة مقاومة لها، حتى ليمكننا أن نلاحظ ندرتها في الصور الصفوية بعد وفاة الشاه طهماسب سنة 984ه/1576م.
ومما يمتاز به القرن العاشر الهجري (السادس عشر) في تاريخ التصوير الفارسي أن الوحدة السياسية في العصر الصفوي قضت على الفروق في الصناعة بين الأنحاء المختلفة في إيران، فأصبح من العسير التفرقة بين الصور المصنوعة في شرقي الإمبراطورية وما صنع في الوسط أو في الغرب؛ إذ إن المصورين كانوا في كافة أنحاء الإمبراطورية يقلدون مصوري البلاط في تبريز وقزوين، ولم تكن هناك إلا فوارق يسيرة جدا بين منتجات الفنانين العاديين في مختلف الأقاليم الإيرانية.
وهناك عدد من المخطوطات تمثل صورها عصر الانتقال من المدرسة التيمورية في هراة إلى عصر الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب. ومن أهم هذه المخطوطات واحد في المكتبة الأهلية بباريس لمير علي شيرنوائي، كتب في هراة سنة 935ه/1527م، ومن المحتمل أن يكون ما فيه من صور قد أضيف إليه في تبريز بيد بهزاد وتلاميذه.
4
5
وفي متحف المتروبوليتان بنيويورك مخطوط جميل من المنظومات الخمسة لنظامي، كتبه في سنة 931ه/1524-1525م سلطان محمد نور الخطاط الكبير، وفيه خمس عشرة صورة تمتاز كلها بألوانها الجميلة، ورسومها الفنية، وزخارفها الدقيقة، ولا يدري المرء بأيها يعجب، أبهذه التي تمثل ليلى وحبيبها المجنون في المدرسة وعلى بابها بيت شعر بالفارسية يطلب إلى المعلم «ألا يلقن هذه الفتاة الشقراء ذات الوجه الجميل غير كل طيب هي جديرة به»،
6
أم بسبع الصور التي تمثل بهرام جور مع سبع الأميرات التي تزوجهن، وكان يزور كل واحدة منهن في قصر يسوده أحد الألوان السبعة: الأسود والأصفر والأخضر والأحمر والصندلي والأبيض والأزرق الفيروزي. وقد نسب مارتن صور هذا المخطوط إلى أغا ميرك ونسبها ساكسيان إلى محمود مذهب.
7
على أن أجمل مخطوطات القرن العاشر الهجري (السادس عشر) على الإطلاق هو ذلك الذي يشتمل «المنظومات الخمسة» لنظامي، والذي كتبه للشاه طهماسب بين سنتي 946-950ه/1539-1543م الخطاط المشهور شاه محمود النيسابوري، وهو محلى بأربع عشرة صورة كبيرة تعتبر من أنفس ما في المتحف البريطاني من تحف شرقية؛ ولا غرو فإن عليها إمضاءات أكبر فناني العصر الصفوي وهم: سيد علي، وسلطان محمد، وميرك، وميرزا علي، ومظهر علي.
وصفحات هذا المخطوط كلها بهوامش مذهبة فيها نقوش نباتية ورسوم حيوانات طبيعية وخرافية، وأغلب الصور عليها إمضاءات قد لا تكون من كتابة الفنانين أنفسهم، ولكن لا شك في أنها معاصرة ويمكن الوثوق بصحتها، وإن كان من غير المستحيل أن تكون الصور كلها بريشة مصور واحد، وقد نشر الأستاذ بنيون
Laurence Binyon
هذه الصور مع دراسة طريفة في موضوعات المنظومات الخمسة لنظامي.
8
وينسب إلى ميرك خمس صور من هذا المخطوط، والواقع أن في المصادر الفارسية والتركية ذكرا لثلاثة مصورين بهذا الاسم: الأول خواجه ميرك عاش في هراة في أواخر القرن التاسع الهجري (الخامس عشر) ومات في زمن استيلاء محمد خان شيباني على تلك المدينة؛ والثاني حاج ميرك الذي كان خطاطا في بخارى؛ وأما الثالث وهو أشهرهم فهو أغا ميرك الأصفهاني الأصل، والذي عمل في بلاط الشاه طهماسب في تبريز وإليه تنسب الصور الممضاة باسمه في المخطوط الذي نحن بصدده.
9
اللوحة رقم 31
شكل 42: تتويج خسرو لميرك (المدرسة الصفوية 946-950ه/1539-1543م. من مخطوط لنظامي للشاه طهماسب بالمتحف البريطاني).
اللوحة رقم 32
شكل 43: الطبيبان المتناظران (المدرسة الصفوية. القرن العاشر الهجري. من نظامي مخطوط للشاه طهماسب محفوظ بالمتحف البريطاني).
اللوحة رقم 33
شكل 44: المجنون يقاد في أغلاله إلى ربع ليلى (للمصور مير سيد علي. المدرسة الصفوية 946-950ه/1539-1543م. من مخطوط نظامي للشاه طهماسب بالمتحف البريطاني).
اللوحة رقم 34
شكل 45: المعراج (المدرسة الصفوية. القرن العاشر الهجري. من نظامي مخطوط للشاه طهماسب محفوظ بالمتحف البريطاني).
اللوحة رقم 35
شكل 46: خسرو يفاجئ شيرين تستحم (للمصور سلطان محمد. المدرسة الصفة 946-950ه/1539-1543م. من مخطوط نظامي للشاه طهماسب بالمتحف البريطاني).
اللوحة رقم 36
شكل 47: مجلس وعظ للمصور شيخ زاده (المدرسة الصفوية في النصف الأول من القرن العاشر الهجري. مجموعة كارتييه).
اللوحة رقم 37
شكل 48: عجوز تطلب إلى السلطان سنجر أن ينظر في مظلمة لها (للمصور سلطان محمد. المدرسة الصفوية 946-950ه/1539-1543م. من مخطوط نظامي للشاه طهماسب بالمتحف البريطاني).
وقد كتب سام ميرزا أخو الشاه طهماسب سنة 957ه/1550م أن أغا ميرك كان مصور البلاط الذي لا يبارى، ولم يكن له منافس قط. وذكر المؤرخ التركي أعالي أن أغا ميرك كان تلميذا لبهزاد، وأن اثنين من كبار المصورين درسا عليه وهما سلطان محمد التبريزي الذي سيأتي الكلام عليه، وشاه قولي الذي عمل في بلاط سليمان القانوني.
ولا ريب أن براعة أغا ميرك وحذقه لفن التصوير يظهران جليا في هذه الصور الخمس التي تمثل إحداها كسرى أنوشيروان يصغي للبومتين اللتين تتحدثان على أنقاض قصر قديم. ويرى في الثانية مجنون ليلى في الصحراء وحوله حيوانات برية رسمها آية في الدقة والجودة، بينما تمثل ثلاث الصور الباقية مناظر في بلاط الشاه وحفلات تتجلى فيها العظمة والأبهة.
10
أما سلطان محمد فتنسب إليه صورتان من هذا المخطوط تمثل الأولى خسرو يفجأ شيرين تستحم،
11
ويرى في الثانية بهرام جور يصيد الأسد. والصورتان تكفيان للدلالة على إتقان لمزج الألوان ليس بعده إتقان، وعلى مراقبة دقيقة للطبيعة ومراعاة لأصولها، مع براعة فائقة في رسم الوجوه الآدمية والحيوانات ولا سيما الخيل. وفي المخطوط نفسه صورة أخرى تمثل عجوزا تطلب إلى السلطان سنجر أن ينظر في مظلمة لها. وحيوانات هذه الصورة وغير ذلك من تفاصيلها تجعلنا نوافق الأستاذ ساكسيان في نسبتها إلى سلطان محمد.
12
على أننا لا نعرف كثيرا عن حياة هذا المصور، ولا سيما بعد أن أثبت ساكسيان خطأ ما كتبه عنه مارتن،
13
ومهما يكن من شيء فإن صوره التي وصلت إلينا كفيلة بأن تقول الشيء الكثير.
ولعل أبدع ما صوره سلطان محمد، وأكثره حركة، وأخفه روحا، وأكثره دعابة، صورة في مخطوط من ديوان حافظ تمثل منظر شراب تدار فيه كؤوس الراح فيشرب أناس ويرقص آخرون، ويتدحرج البعض على الأرض، ويترنح من أسكرتهم الخمر، وينظر شيخ في مرآة في يده، ويشترك الملائكة في الشراب من شرفة تطل على الباقين، بينما يطرب الجميع موسيقيون بينهم ثلاثة وجوههم أشبه شيء بوجوه القردة. وفي طرف الصورة حديقة تطل عليها شرفة وقف فيها رجل في يده حبل طويل يتدلى إلى ساق يربط له فيه إبريق من الخمر.
14
ومما ينسب إلى سلطان محمد صور الشاهنامة الشهيرة الموجودة الآن بمجموعة البارون دي روتشيلد، والتي تشمل 256 صورة كبيرة فيها كثير من مناظر القتال والصيد.
ويلوح لنا أن سلطان محمد تولى حينا من الزمن إدارة مدرسة التصوير أو مجمع الفنون الجميلة في تبريز، وأنه عني ببقية الفنون الزخرفية فكان يرسم تصميمات السجاجيد والخزف، ويظهر تأثير طرازه وصناعته في الرسوم الآدمية التي نراها على الأقمشة الحريرية الفارسية في القرن العاشر (السادس عشر).
وممن اشتهر من المصورين في بلاط الشاه طهماسب مظفر علي، الذي وصل إلينا من أعماله صورتان في مكتبة لينينجراد، والذي رسم في مخطوط المتحف البريطاني السالف الذكر صورة تمثل بهرام جور يثبت بسهم واحد أذن حمار وحش بقدمه، ليثبت لحبيبته (أزادة) براعته في الصيد. وكان مظفر علي تلميذا لبهزاد، وامتاز ببراعته في رقم صور الأشخاص، وبحبه للون الذهبي في تصويره، وتولى عمل الصور اللازمة للقصر الملكي ولقاعة چهل ستون في أصفهان.
15
اللوحة رقم 38
شكل 49: مجلس شراب (للمصور سلطان محمد. المدرسة الصفوية في أوائل القرن العاشر الهجري. مجموعة كارتييه).
اللوحة رقم 39
شكل 50: صورة أمير (للمصور سلطان محمد أو مدرسته. نحو سنة 935ه. المكتبة الأهلية بلينينجراد).
اللوحة رقم 40
شكل 51: صورة أمير (للمصور سلطان محمد. حول سنة 935ه. عن مارتن).
اللوحة رقم 41
شكل 52: بهرام جور مع إحدى زوجاته في القصر الأسود للمصور ميرك. سنة 931ه (من نظامي مخطوط بمكة جلالة الشاه).
شكل 53: بهرام جور مع إحدى زوجاته في القصر الأسود للمصور محمود المذهب. حول سنة 933ه (؟) (من مخطوط لمنظومات مير علي شيرنوائي محفوظ بالمكتبة الأهلية بباريس).
وهناك مصوران لهما أهمية خاصة هما: مير سيد علي، وعبد الصمد، وقد لعبا دورا كبيرا في نشأة المدرسة الهندية الفارسية في بلاط الهند.
أما مير سيد علي فقد كان تبريزي الموطن، واشترك في تصوير مخطوط نظامي الذي عمل للشاه طهماسب بالمتحف البريطاني، فرسم صورة تمثل عجوزا تقود المجنون إلى ربع ليلى، وهو يرسف في أغلاله والصبية يقذفونه بالأحجار، وليلى جالسة أمام خيمتها، وفي الصورة خيام أخرى انصرف من فيها من النساء إلى الأعمال المنزلية المختلفة، وراعيان يحرسان قطيعا من الغنم وفي يد أحدهما مغزل، بينما الثاني يعزف في مزمار.
16
والظاهر أن همايون الإمبراطور المغولي في الهند لقي المصورين مير سيد علي وعبد الصمد في تبريز، حين لجأ إليها وعاش في بلاط الشاه طهماسب بعد أن خسر عرش الهند، وكان همايون شديد الإعجاب بمير سيد علي فمنحه لقب نادر الملك. ولحق المصوران بالأمير في كابل، حيث عهد إليهما بعمل 1400 صورة كبيرة لقصة الأمير حمزة الفارسية.
17
وقد تلقى همايون وابنه أكبر دروسا في التصوير على مير سيد علي وعبد الصمد، اللذين وليا تباعا إدارة مدرسة التصوير التي أنشأها الإمبراطور أكبر بمساعدة تلاميذهما من الهنود على رسم الصور التي طلبها همايون لقصة الأمير حمزة. وقد وصل إلينا عدد كبير من هذه الصور المرسومة على القماش، والمحفوظ أغلبها في متحف فينا.
18
وقد نبغ من التلاميذ الهنود الذين تلقوا الفن على هذين المصورين اثنان، هما دازونت وبازوان.
وأكبر الظن أن مير سيد علي أو عبد الصمد، أو هما معا رسما لهمايون تلك الصورة الكبيرة التي تمثل أفراد أسرة تيمور، وهي محفوظة الآن بالمتحف البريطاني، وقد رسمت على القماش مثل صور قصة الأمير حمزة، ولكنها الآن ليست في حالة جيدة من الوضوح تساعد على دراستها بدقة وعناية.
بقي علينا قبل أن نختم هذا الفصل أن نشير إلى المصور محمدي الذي درس فن التصوير على والده سلطان محمد، وتفوق عليه في رسم المناظر الريفية. وفي الحق إن أكثر ما وصل إلينا من تصوير محمدي له علاقة كبيرة بالريف والمناظر الطبيعية. ولعل أبدعه الرسم المحفوظ باللوفر، والذي يرجع إلى سنة 986ه/1578م ويمثل نواحي مختلفة من الحياة الريفية. فهناك فلاح يحرث الأرض وآخر جالس تحت شجرة عليها طيور، وبقربهما راع يحرس قطيعا من الغنم ويعزف على مزمار في يده، وخيمتان فيهما نساء يغزلن وينسجن. وهذا الرسم، كغيره من رسوم محمدي، ليس ملونا كله بل فيه قليل من اللون الأحمر في الصخور والحيوانات .
19
أما المصورون الآخرون الذين وصل إلينا خبر اشتغالهم في عصر الشاه طهماسب، فإن المجال لا يتسع هنا لدراستهم تفصيلا، ويكفي أن نشير إلى أعظمهم وهم: سيد مير نقاش، وشاه محمد، ودوست محمد، وشاه فولي التبريزي.
20
اللوحة رقم 42
شكل 54: منظر ريفي (للمصور محمدي. سنة 986ه. بمتحف اللوفر بباريس).
الفصل السابع
عصر الشاه عباس وخلفائه
رضا عباس والتأثير الأوروبي
حكم الشاه عباس الأكبر بلاد إيران من سنة 985ه/1587م إلى سنة 1038ه/1629م. وكانت حين اعتلائه العرش يهددها التفكك والاضمحلال فأفلح في هزيمة أعدائها، ولم شعثها ونشر أسباب العمران فيها، فاستحق تقدير رعيته وبقي اسمه في تاريخ فارس رمزا للمجد والعظمة والرخاء.
ونقل الشاه عباس في سنة 1009ه/1600م عاصمته إلى أصفهان، وعمل على تجميلها بشق الطرقات الكبيرة وتشييد العمارات الضخمة، وجذب إليها الخطاطين والمذهبين والمصورين، فأصبحت مقر العلوم والفنون. وكان انتقال العاصمة إلى الجنوب وقربها من المحيط منميا للعلاقات مع الهند وبلاد الغرب، فزارت إيران سفارات وبعثات من البلاد الأوروبية المختلفة وشجع تسامح الشاه وحكومته السائحين والتجار على القدوم إلى بلاد الفرس، وترك كثير منهم مذكرات وصف فيها إعجابه بنهضة البلاد وما رآه فيها من العادات والتقاليد. وتحدث بعضهم عن الصور البديعة التي كانت تحلي جدران القصور.
1
وفي الحق إن الشاه عباس عني كثيرا بالتصوير على الجدران، ولا يزال أثر ذلك باقيا في قصرين ملكيين بأصفهان،
2
وكانت في هذا التصوير كثير من الرسوم الفارسية الطراز، تجاورها صور أوروبية من المحتمل أن تكون من صناعة يوحنا الهولندي، الذي ظل سنين عديدة في خدمة الشاه عباس.
3
فنحن نرى أن آخر العصر الصفوي يمتاز بتنوع الإنتاج الفني؛ إذ إن ظهور التأثير الأوروبي خرج بالفنانين الفرس من ميدان الكتاب الضيق وتصويره وتذهيبه إلى ميادين أخرى تتجلى في رسم الصور المستقلة، وتزيين الجدران بالكبير منها أو النقش على الجدران نفسها.
على أن كثيرين من مصوري هذا العصر لم يعنوا كثيرا بتصوير المخطوطات الثمينة وتذهيبها، بل كانوا يفضلون على ذلك رقم الصور بالقلم دون أي لون إلا فيما ندر، وكان ذلك بالطبع أقل نفقة، فأصبح التصوير أقرب إلى قلوب الناس، وزادت معرفتهم به فأخذوا في تعضيده، ولم يعد وقفا على البلاط وكبار رجال الدولة؛ ولكن ذلك لم يدفع عنه ما كان يدب إليه من هرم وانحطاط. على أن البلاط نفسه لم يستمر تعضيده للمصورين عظيما كتعضيده السابق، فاضطر كثير من المصورين إلى العمل لأنفسهم، وهذا يفسر ندرة المخطوطات المصورة الثمينة بعد منتصف القرن العاشر (السادس عشر) وكثرة الصور التجارية، التي عملت دون كبير عناية إجابة لرغبات طلاب أقل غنى وأكثر تواضعا.
أما معرفة الفرس بالصور الأوروبية فترجع إلى أوائل القرن العاشر (السادس عشر) كما يظهر من ألبوم بالمكتبة الأهلية بباريس، قلدت فيه كثير من رسوم المصور الألماني دورر
Dürer . ومن المحتمل أن يكون قد حملها إلى إيران المبشرون أو التجار.
4
وفي المصادر الأدبية والتاريخية ذكر لمصورين قلدوا الصور الأوروبية، مثل شيخ محمد الشيرازي، الذي عمل في مكتبة الشاه إسماعيل ميرزا
5
984-985ه/1576-1578م ثم التحق من بعده بخدمة الشاه عباس. ولكن تأثير الغرب في التصوير الفارسي كان بطيئا، وكان ظهوره أولا في اختيار الموضوعات أكثر منه في أسرار الصناعة نفسها؛ بل نستطيع القول إن الفرس اقتبسوا عن التصوير الغربي وقلدوا منه أشياء كثيرة، ولكنهم لم يهضموا من ذلك كله شيئا يستحق الذكر، ولا سيما في تصوير المخطوطات، حيث ظلت التقاليد الفارسية القديمة تقاوم كل تجديد، وإن فقدت الصور أبهتها الأولى. ولم يعد كثيرون من الفنانين يستطيعون الإتيان بشيء جديد، فاكتفوا بتقليد الصور الموجودة في المخطوطات القديمة تقليدا ضئيلا، نرى مثلا منه في الصور المرسومة بمخطوط من منظومة يوسف وزليخا تاريخه 1029ه/1619م ومحفوظ الآن بدار الآثار العربية،
6
وفي صور مخطوط آخر محفوظ بهذا المتحف نفسه
7
ويشمل كتاب المثنوي لجلال الدين الرومي؛ وبإحدى صفحات هذا المخطوط أن الدفتر الأول منه تم في سلخ شهر رجب سنة اثنتي عشرة وألف هجرية (1604).
وأما الرسوم والصور المستقلة فهي فخر هذا العصر، على أنه من الصعب في بعض الأحيان معرفة تاريخها بالدقة؛ لأن هناك تطورا طبيعيا في طراز هذه الرسوم منذ بدأ في تفضيلها على تصوير المخطوطات المصور محمدي، الذي تحدثنا عنه في آخر الفصل السابق حتى ظهر المصور الكبير رضا عباسي، فوصل بها إلى درجة كبيرة من التقدم والرقي.
ولكن غطاء الرأس يساعد كثيرا على تأريخ هذه الرسوم التي عملت بين منتصف القرن العاشر (السادس عشر) ومنتصف القرن الحادي عشر (السابع عشر). فإن العمامة أخذ حجمها في الازدياد في القرن العاشر (السادس عشر) حتى أصبحت في آخر عهد السلطان طهماسب ضخمة جدا. وبدأت عمامات أخرى في الظهور، ونرى الشبان ذوي الملامح والحركات النسائية، الذين يكثر ظهورهم في رسوم هذا العصر، يتخذون في عماماتهم زهورا ذات سيقان طويلة، أو يجعلون حول رءوسهم مناديل كالنساء، أو يلبسون ما كان هؤلاء يلبسنه أحيانا من عمامات مخروطية. وفي أول النصف الثاني من القرن الحادي عشر (السابع عشر) كان كثيرون من الرجال لا يزالون يلبسون عمامات من جلد النعاج يتدلى منها الصوف.
8
ومما يلاحظ في الصور والرسوم التي ترجع إلى القرن الحادي عشر (السابع عشر) التغيير الذي طرأ على تصوير الأشخاص؛ فالمرء لا يكاد يرى إلا قدودا هيفاء، وأوضاعا فيها كثير من التكلف، بينما يزيد خطر الأشخاص ويقل عدد الأفراد في الصور. فنرى شخصا أو شخصين في الصور التي كانت في القرن السابق تملأ بصور الأبطال والأتباع والنظارة. كذلك يترك الفنانون الزخارف المركبة التي اشتهرت بها القرون الماضية، مكتفين بتزيين أرضية الصورة بشجيرة صغيرة أو غصن مزهر، فتتفوق الرسوم الآدمية وتظهر مكانة الأشخاص في الصور، كما تظهر الدعابة في التصوير مما يذكر بالفنون الكاريكاتورية الحديثة.
وفي متحف المتروبوليتان بنيويورك مخطوطان من الشاهنامة يرجعان إلى عصر الشاه عباس، وفيهما صور كثيرة. أما المخطوط الأول فتاريخه سنة 996ه/1587-1588م وفيه أربعون صورة كبيرة، بينما المخطوط الثاني تاريخه من سنة 1014 إلى سنة 1016ه/1605-1608م وفيه خمس وثمانون صورة كبيرة لفنانين غير معروفين ويرى الأستاذ ديمند
Dimand
أن صور الأشخاص والمناظر الطبيعية في هذين المخطوطين منقولة عن الطبيعة، وفيها كثير من صفات الصور المنسوبة إلى المصور رضا عباسي.
9
اللوحة رقم 43
شكل 55: سيدنا يوسف يستقبل زليخا وهي عجوز (من مخطوط لمنظومة يوسف وزليخا تاريخه سنة 1028ه بدار الآثار العربية).
اللوحة رقم 44
شكل 56: يوسف وزليخا ورفيقاتها (من مخطوط لمنظومة يوسف وزليخا تاريخه سنة 1028ه بدار الآثار العربية).
اللوحة رقم 45
شكل 57: الصفاء بين يوسف وزليخا (من مخطوط لمنظومة يوسف وزليخا تاريخه سنة 1028ه بدار الآثار العربية).
اللوحة رقم 46
شكل 58: زليخا في هودج (من مخطوط لمنظومة يوسف وزليخا تاريخه سنة 1028ه بدار الآثار العربية).
اللوحة رقم 47
شكل 59: شيخ يستريح (للمصور رضا عباسي. سنة 1031ه. المكتبة الأهلية بباريس).
والواقع أن أحسن الصور والرسوم في هذا العصر تنسب إلى هذا المصور، ولكن شخصيته صعبة التحديد، وقد قامت حول اسمه خلافات كثيرة اشترك فيها كاراباتشك
Karabacek
وزره
Sarre
ومتفخ
Mittwoch
وبلوشيه
Blochet
وساكسيان
Sakisian
وأرنولد
Arnold
وكونل
Kühnel
وغيرهم من كبار المشتغلين بتاريخ التصوير الإسلامي.
على أن أكثر هؤلاء يميلون إلى الاعتقاد بوجود مصورين بهذا الاسم: أقا رضا، ورضا عباسي.
أما الأول فشخصيته أقل وضوحا، والظاهر أنه أقدم عهدا من رضا عباسي، وأنه اشتغل ببلاط الشاه طهماسب في أواخر القرن العاشر (السادس عشر)، وظل يعمل حتى أوائل القرن الحادي عشر (السابع عشر). ومع أن هناك في بعض الأحيان شبها كبيرا بين صور منسوبة إلى هذين المصورين، فإن لدينا صورا أخرى يظهر فيها الاختلاف بين صناعتيهما.
وقد درس الأستاذ ساكسيان ما يصح نسبته إلى أقا رضا من الرسوم والصور
10
وعلى رأسها ذلك الرسم البديع الذي يمتلكه المسيو فيفير
Vever ، والذي يمثل أميرا مع أستاذ له،
11
ثم رسم شاب في يده زهور محفوظ الآن بالمكتبة الأهلية بباريس.
12
وقد ذهب ساكسيان إلى أن أقا رضا قد رسم بعض الرسوم التي في الألبوم الذي جمعه الدكتور زره
Sarre
ونسبه إلى رضا عباسي.
13
وقال ساكسيان إن أقا رضا هو الفنان الذي كان معاصرا للشاه عباس الأكبر وليس رضا عباسي.
ومهما يكن من شيء فإن خطاطا اسمه علي رضا عباسي زاد المعضلة تعقيدا، فإنه كان معاصرا لرضا عباسي. ومؤرخو الفن يخلطون بين أقا رضا، ورضا عباسي، وعلي رضا عباسي؛ ولكن الثابت أن الأخيرين كانا شخصيتين مختلفتين.
وينسب إلى رضا عباسي عدد كبير من الرسوم، بعضها مؤرخ يجعلنا نحكم بأن مدة إنتاجه تقع بين سنتي 1028-1049ه/1618-1639م وأكثر صوره رجال في منتصف العمر، لهم أنوف طويلة، أو صور فتيات أو فتيان يكاد الرائي يحسبهن نساء. وفيها صور تدل على براعة هذا الفنان ومواهبه الخاصة في تقييد كثير مما يشاهده، ببضعة خطوط تكون رسما توضيحيا جميلا.
اللوحة رقم 48
شكل 60: بهرام جور مع إحدى زوجاته في القصر الأخضر للمصو حيدر النقاش. سنة 1032ه (بالمكتبة الأهلية بباريس).
شكل 61: الشيخ صفي الدين يقدم كأسا من الخمر إلى الطبيب شمسا (للمصور رضا عباسي. سنة 1042ه. بلينينجراد).
ومن الصور البديعة التي تنسب إلى رضا عباسي واحدة تاريخها سنة 1043ه/1633م، وتمثل الشاه صافي يناول الطبيب المشهور محمد شمسه كأسا من الخمر.
14
وأخرى في المكتبة الأهلية بباريس تمثل سيدة قد تكون امرأة وزير من وزراء الشاه عباس.
15
وفي متحف فكتوريا وألبرت بلندن مخطوط من منظومة نظامي «خسرو وشيرين»، يشتمل على سبع عشرة صورة عليها إمضاء رضا عباسي، وإحداها مؤرخة سنة 1042ه/1632م
16
وأكبر الظن أن الصور الباقية ترجع أيضا إلى هذا التاريخ، وهي على كل حال لا تشرف رضا عباسي كل الشرف، ولا يمكن مقارنتها بصور مخطوطات أخرى لنفس القصة في العصور الماضية، فالأشخاص أصبحوا عاديين، بل هم يشبهون أولئك الأشخاص الذين تراهم في الرسوم المستقلة المنسوبة إلى رضا عباسي، والألوان لا إبداع ولا تناسق في مزجها.
وفي مجموعة المستر رابينو
Rabino
بالقاهرة رسمان عليهما توقيع رضا عباسي، يمثل الأول شابا جلس إلى جذع شجيرة ورأسه مائل قليلا إلى كتفه الأيسر، وأمامه إناءان على أحدهما رسم إنسان وحيوان.
17
ويمثل الرسم الثاني النصف الأعلى لسيدة على رأسها زهرة وريشة.
18
ويرى الأستاذ ساكسيان أن كثيرا من الرسوم التي جمعها الدكتور زره في الألبوم الذي نسبه إلى رضا عباسي ليست من صناعته، فبعضها من عمل أقا رضا وبعضها من عمل معين المصور، والبعض الآخر من عمل مصورين مجهولين. ويرى أيضا أن الفضل في هذا الطراز الذي ينسب إلى رضا عباسي إنما يرجع إلى مصور آخر هو حيدر نقاش، الذي صور مخطوطا من منظومات نظامي في المكتبة الأهلية بباريس بين سنتي 1030-1034ه/1620-1624م.
19
ومهما يكن من شيء فإن التصوير الفارسي في النصف الثاني من القرن الحادي عشر (السابع عشر) وفي القرن الثاني عشر (الثامن عشر) كان متأثرا كل التأثر بهذا الطراز الذي يمثله رضا عباسي. وقد تلقى الفن عن هذا المصور تلاميذ له نسجوا على منواله، وأهمهم: معين المصور الذي اشتغل في النصف الثاني من القرن الحادي عشر (السابع عشر)، وفي السنين الأولى من القرن الثاني عشر (الثامن عشر)، والذي نعرف له صورة لأستاذه وعدة رسوم أخرى أحدها في مجموعة المستر رابينو، ويمثل شابا يحمل ديكا وتاريخه 1067ه/1656م.
20
ومن تلاميذ رضا عباسي أربعة آخرون هم: أفضل، ومحمد قاسم التبريزي، ومحمد يوسف، ومحمد علي التبريزي.
وقد كان الشاه عباس الثاني 1052-1076ه/1642-1666م متحمسا للغرب وفنونه، فأرسل المصور محمد زمان إلى روما ليدرس التصوير فيها. والظاهر أن الأخير اعتنق المسيحية ثم لجأ إلى بلاد الهند ولم يعد إلى إيران إلا حوالي سنة 1087ه/1676م، واشتغل بتصوير ثلاث صحائف بيضاء في مخطوط المنظومات الخمسة لنظامي، الذي كان قد أعد للشاه طهماسب قبل ذلك بأكثر من مائة عام والمحفوظ الآن بالمتحف البريطاني. ويظهر في هذه الصورة تأثير الفنون الأوروبية في فن هذا المصور وغيره ممن تلقوا العلم في إيطاليا. وأكثر ما ظهر هذا التأثير في رسم الأسرة المقدسة والقديسين والملائكة وغير ذلك من المناظر الدينية المسيحية.
21
اللوحة رقم 49
شكل 62: صورة شاب (للمصور رضا عباسي. مجموعة المستر رابينو).
اللوحة رقم 49 مكررة
شكل 63: صورة سيدة (للمصور رضا عباسي. مجموعة المستر رابينو).
اللوحة رقم 50
شكل 64
شكل 65
الساقيان (للمصور رضا عباسي . في النصف الأول من القرن الحادي عشر الهجري. الرسم الأيمن بالمكتبة الأهلية في باريس والآخر بمتحف المتروبوليتان في نيويورك).
اللوحة رقم 51
شكل 66: صورة رضا عباسي بريشة معين المصور. سنة 1084ه (مجموعة كوارتش بلندن).
اللوحة رقم 52
شكل 67: رسم عليه توقيع معين المصور. سنة 1066ه (مجموعة المستر رابينو).
اللوحة رقم 53
شكل 68: رسم رجل جالس. مؤرخ سنة 1074ه (مجموعة المستر رابينو).
شكل 69: رسم سيدة. مؤرخ سنة 1067ه (مجموعة المستر رابينو).
اللوحة رقم 54
شكل 70: صورة سيدة ذات ملابس أوروبية (القرن الثاني عشر الهجري. عليها توقيع المصور خواجه شادمان. مجموعة لويس هرس).
على أن القرن الثاني عشر (الثامن عشر) بمؤثراته الأوروبية ومشاكله السياسية في إيران كان إيذانا باضمحلال التصوير الفارسي. ولن يعنينا بعد ذلك عصر فتح علي شاه في آخر القرن الثاني عشر (الثامن عشر) وأول القرن الثالث عشر (التاسع عشر) وما عمل فيه من صور زيتية كبيرة، فإن صناعتها أوروبية أكثر منها إيرانية.
هكذا قد تتبعنا في فصول هذا الكتاب نشأة التصوير عند الفرس وتطوره والأدوار التي مرت به حتى قضت عليه الرغبة في تقليد الغرب والتفريط في التقاليد الوطنية الموروثة. وقد رأينا كيف كان مجال التوسع محصورا، لا سيما وقد حرم التصوير في إيران، بل في العالم الإسلامي كله، من التعبير عن الشعور والعقائد الدينية:
22
فضلا عن أنه ورث عن الفنون الشرقية تمسكها بأهداب قواعد وتقاليد تبعدها عن تقليد الطبيعة، وتبين أسرارها على النحو الذي نعرفه في الفنون الأوروبية.
ولكن التصوير الفارسي بلغ في عالمه الخاص مبلغا من الرقي ليس بعده زيادة لمستزيد، وكانت له في ميدان مزج الألوان فتوح مدهشة يعرفها من أتيح له الإعجاب بالمخطوطات الثمينة في المتاحف والمجموعات الأثرية.
مراجع
(1)
كتاب التصوير عند العرب لأحمد تيمور باشا (مخطوط. نشرت نماذج منه في مجلة الهلال). (2)
بنيون الفنان للدكتور أحمد زكي أبو شادي (مقال نشر في مجلة المقتطف عدد أبريل سنة 1935). (3)
الفن الإسلامي في مصر للدكتور زكي محمد حسن (من مطبوعات دار الآثار العربية، وظهر منه الجزء الأول). (4)
كتاب الإسلام والحضارة العربية للأستاذ محمد كرد علي .
Arnold :
Survivals of Sasanian and Manichean Art in Persian painting, Newcastle on Tyne, 1924.
The Old and New Testaments in Muslim Religious Art, London 1928.
Arnold & Grohmann :
The Islamic Book, London 1929.
Binyon L. :
Asiatic Art in the British Museum, Ars Asiatica t VI,
The Poems of Nizami, London 1928.
Binyon & Wilkinson & Gray :
Blochet :
Les enluminures des mánuscrits orintaux, arabes, tures et persans ds la Bibliothèque Nationale, Paris 1929.
Musulman Painting, London 1929.
Coomaraswammy :
Les Miniatures orientales de la collection Goloubev au Museum of fine Arts de Boston, Ars Asiatica t. XIII, Paris 1929.
Creswell :
A Provisional Bibliography of Painting in Muhammadan Art, London 1912.
Diez :
Die Kunst der islamischen Völker, Berlin 1917.
Die Elemente der persischen Landschafstmalerei. (Beiträge zur vsrgl. Kunstforschung herausg. vom Kunsthistor. Institut. Wien 1922, p, 116-136).
Dimand :
A Handbook of Mohammedan decorative Arts, New York 1930.
Glück und Diez :
Die Kunst des Islams, Berlin 1925.
Gray :
Grousset :
Les civilisations de L’orient, t. I: L’Orient, Paris 1929.
Herzfeld :
Die Malereien von Samarra, Berlin 1927.
Huart :
Les calligraphes et Les miniaturistes de L’orient musulman Paris 1908.
Kühnel E. :
Die Miniaturmalerei im islamischen Orient, Berlin 1922.
Martin F. :
The Miniature Painting and Painters of Persia, India and Turkey from the VIII to the XVIII century, London 1912.
Migeon G. :
Manuel d’art musulman 2vol. Paris 1927.
Sakisian A. :
La Miniature Persane du XII au XVII siècle, Paris 1929.
Sarre und Mittwoch :
Zeichnungen von Riza Abbasi, München 1914.
Schulz :
Die persisch-islamische Miniaturmalerei, Leipzig 1914.
Stchoukine, Ivan :
Les Miniatures Persanes, Musée National du Louvre 1932 Les manuscrits illustrés musulmans de la Bibliothéque du Caire (Gazette des Beaux-Arts).
Wilkinson J. :
The Shabnamah of Firdausi, London, 1931.
Halaman tidak diketahui