تَلْقَفُوا وَضْعَ الصِّيَغِ على حُكْمِ الإرَادَةِ والاختيارِ، واخْتَارَهُ ابنُ فارسٍ في كتابِه (فِقُهُ العَرَبِيَّةِ) واحْتَجَّ له بالإجماعِ على الاحتجاجِ بلُغَةِ القَوْمِ، ولو كانَتِ اللُّغَةُ مُواضِعَةٌ لم يَكُنْ أُولئكَ في الاحتجاجِ بهم بأَوْلَى منَّا في الاحتجاجِ، فقالُوا: اصْطَلَحْنَا على لُغَةِ القَوْمِ ولا فَرْقَ، واحْتَجَّ غيرُه من النُّحاةِ، بأنَّه لو كانَ اصْطِلاحًا لم يَخْتَلَفُوا، فيَقُولُ بعضُهم: مَرَرْتُ بِأَبِيكَ، وآخَرُونَ: بآبَائِكَ، وأيضًا فقد اسْتِعْمَلُوا أَبْنِيَةً وتَرَكُوا غَيْرَها، ولا سَبيلَ إلى الاصطلاحِ؛ لأنَّه لم يُوجَدْ قَط أُمَّةٌ وُلِدَتْ مُتَكَلِّمَةً، ولا تَكَلَّمَتْ حتى وُلِدَتْ، حَكَاهُ ابنُ خَروفٍ في (شَرْحِ سِيبَوَيْهِ) وقالَ: الأَقْرَبُ أنَّه إِلْهَامٌ من اللهِ تعالَى، وهذا المَذْهَبُ عَزَاهُ جماعَةٌ إلى الأشْعَرِيِّ، وإنَّما لم يَجْزِمِ المُصَنِّفُ بنِسْبَتِه إليه لِمَا سَنَذْكُرُه، ولكنَّه عَزَاهُ لأكَابِرِ أصْحَابِه كابنِ فَوْرَكٍ، وقد رَأَيْتُه في كِتَابِه، فقالَ: الذي يَصِحُّ من ذلك قولُ من قالَ: إنَّه تَوْقِيفِيٌّ؛ وذلك لأنَّه لو وَقَعَ اصْطِلاحًا، لم يَقَعْ كذلك إلاَّ بِلُغَةٍ أُخْرَى أو إِشَارَةٍ أو كِتَابَةٍ أُخْرَى، وكانَ يَحْتَاجُ من الاصطلاحِ مثلَ ما يَحْتَاجُ إليه ما وَرَاءَهَا= إلى أنْ يَنْتَهِيَ إلى أَمْرٍ غيرَ مُصْطَلَحٍ عليه، فنقول: الأمْرُ فيه إلى التوقيفِ.
والثاني: وعليه أَكْثَرُ المُعْتَزِلَةُ أنَّها اصْطِلاحِيَّةٌ بمعنَى أنَّ واحدًا من البشرِ أو جَماعةُ وَضَعَها، وحَصَلَ التعريفُ للباقِينَ بالإشارَةِ والقرائنَ.
كتعريفِ الوالدَيْنِ لُغَتَهُما للأطفالِ، وفَسَّرَ ابنُ السَّمْعَانِيِّ الاصطلاحَ؛ بأنَّه لا يَبْعُدُ أنْ يُحَرِّكَ اللهُ به نُفُوسَ العُقلاءِ لذلك؛ أي: يَعْلَمُ بَعْضَهم مَرادَ بَعْضٍ، ثمَّ يُنْشِؤُونَ على اختيارٍ منهم صِيغًا لتِلْكِ المعانِي التي يُرِيدُونَها، ألاَ تَرَى أنَّ الإنسانَ يُولَدُ له مولودٌ فيُنْشِئُ له اسْمًا، وكذا يَجُوزُ أنْ تَسْتَحْدِثَ صِيغَةً دالَّةً، فتَصِيغُ للصِّفَةِ اسمًا