أليس هذا الولاء من التصوف؟ وإلى من كان يرغب ابن اللبانة حين يهدي مثل هذا الشعر الموجع؟ لقد ذهبت دولة ابن عباد، وأصبح ابنه شريدا طريدا لا يجد قوت يومه إلا عن طريق العمل المرهق لمن نشأ في قصور الملوك.
إن هذه النفحة من الولاء هي بلا جدال من أشرف ما تجود به النوازع الروحية.
الزهد في قلوب الأغنياء والفقراء، والفاسقين والمتقين
وفي بعض المذاهب السياسية تصوف، فأصحاب هتلر هم اليوم صوفية، والصادقون من أنصار موسوليني صوفية، وأولئك وهؤلاء لهم أشباه في التاريخ الإسلامي ، فالخوارج في حقيقة الأمر سياسيون، ولكنهم في صدقهم وصلوا إلى أبعد غايات التصوف، ولهم أخبار هي نهاية النهايات في الروحانية.
هل سمعتم بأخبار مرداس وقد حبسه عبيد الله فيمن حبس من الخوارج؟
لقد رأى صاحب السجن شدة اجتهاد مرداس وحلاوة منطقه فقال له: إني لأرى لك مذهبا حسنا وإني لأحب أن أوليك معروفا، أفرأيت إن تركتك تنصرف ليلا إلى بيتك أتدلج إلي؟ قال: نعم. فكان يفعل به ذلك. ولج عبيد الله في حبس الخوارج وقتلهم، فكلم في بعض الخوارج فلج وأبى وقال: أقمع النفاق قبل أن ينجم، لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع.
فلما كان ذات يوم قتل رجل من الخوارج رجلا من الشرط فقال ابن زياد: ما أدري ما أصنع بهؤلاء! كلما أمرت رجلا بقتل رجل منهم فتكوا بقاتله، لأقتلن من في حبسي منهم. فأخرج السجان مرداسا إلى منزله كما كان يفعل، وأتى مرداسا الخبر، فلما كان السحر تهيأ للرجوع فقال له أهله: اتق الله في نفسك فإنك إن رجعت قتلت. فقال: إني ما كنت لألقى الله غادرا! فرجع إلى السجان فقال: إني قد علمت ما عزم عليك صاحبك. فقال: أعلمت ورجعت؟!
14
والخوارج تضرب بهم الأمثال في قوة العقيدة وصحة الدين، وقد يكون تصوفهم راجعا إلى هذه الناحية، ولكنا نرى التصوف في مذهبهم السياسي قبل أن نراه في عقيدتهم الدينية.
وكذلك نقول فيمن تشيعوا لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقدموه على سائر الخلفاء، فهم في حقيقة الأمر سياسيون، وما حاربهم الأمويون والعباسيون إلا خوفا من سيطرتهم على المنافع الدنيوية، وصدق أولئك وهؤلاء في الثبات على مبادئهم السياسية هو نفحة من التصوف، وذلك الصدق هو الذي سجل أخبارهم على جبين الزمان.
Halaman tidak diketahui