والذين ابتلاهم الله بالشهرة يعرفون صدق هذه الكلمات، فالشهرة محنة قاسية لا يبتلى بها الرجل إلا ذهب عمره في مدافعة القيل والقال، وطال بلاؤه بالتجمل والتزين للناس. والعمر قصير، ولكن الرجل المشهور ينفق عمره على قصره في تفاهات وصغائر يوجبها الاحتفاظ باسمه سليما من أقذار الأقاويل، وهيهات أن يسلم، فالشهرة محنة حتى في الخير المحض، فلو اشتهرت بالإحسان إلى المساكين لجرك ذلك إلى الخراب، وألقى على عملك أكداسا من تراب الرياء. وبعض المشهورين يلذ لهم أن يتسمعوا ما يقال فيهم، فيصطدمون بأكاذيب وأراجيف يشيب لها الوليد، ثم ينتهون إلى اليأس من أدب الناس، وإذ ذاك ينقلبون إلى نار عاتية تمحق كل ما تصادف من أصول الأخلاق.
ومع أني قليل التجاريب في هذه الدنيا ولم يطر اسمي في مشرق ولا مغرب فإن الشهرة الضئيلة التي قضت بأن يردد اسمي في بعض المجتمعات عطلت علي أنفس أوقاتي، وكدرت صفائي، ولونت أدبي بألوان أبغضها أقبح البغض، وصيرتني أسيرا لصنوف من التقاليد السخيفة، تقاليد المجتمع السخيف. وحاولت أن أتحلل وأتخلص فلم أفلح؛ لأن الشهرة كالميسم المتقد لا تمحو أثره الأيام.
وما فكرت في المشهورين من الرجال إلا طال لهم رثائي، فعلى هؤلاء واجبات خلقتها الشهرة، ولم يفرضها الحق، عليهم أن يغيثوا كل ملهوف، وأن يواسوا كل محزون، وأن يزوروا ويزاروا في كل حين. وعلى أقدامهم أن تمشي إلى كل مأتم، وعلى ألسنتهم أن تتكلم في كل مجمع، وعلى آرائهم أن تظهر في كل ميدان، وتكون النتيجة أن يصبحوا كالآلات تصنع ما لا تريد.
وإنما ضربنا الأمثال لنبين أن أدب ابن عطاء الله في بغض الشهرة من الآداب العملية، فهو ليس أدب الرجل العاطل، وإنما هو أدب الرجل الذي يهمه أن يكون من النافعين.
وأكاد أجزم بأن عمارة الدنيا عبء لا ينهض به إلا الخاملون؛ لأن الخمول يصرف عن النفس شواغل كثيرة فتفرغ للنهوض بجلائل الأعمال.
والناس تعودوا أن يحملوا المشهورين ما لا يستطيعون أن يحملوا، ويكلفوهم ما لا يطيقون، فتثور بذلك أحقاد وضغائن يأباها العقل، ويأباها المنطق، وتحول الدنيا إلى جحيم يصلاه أهل الشهرة، من حيث يحتسبون أو لا يحتسبون.
تأمل في بلايا أهل الشهرة أيها القارئ، ثم انظر مرة ثانية في هذه النصيحة الغالية:
ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه.
20
مذهب الحلول
Halaman tidak diketahui