ولما اطلعت على رسالته التي قدمها لامتحان الدكتوراه في تلك الأيام وهي (الأخلاق عند الغزالي) رأيت فيها ما صدق ظني فيه: رأيته يهجم على حجة الإسلام الغزالي ويقسو عليه، فلم أجد بدا من أن أتشدد في حسابه لأعجم عوده وأسبر غوره.
ولكن امتحانات الدكتوراه علنية يحضرها من يشاء، وكان من الحاضرين يومئذ حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد المجيد اللبان وجمهور من أفاضل العلماء بالأزهر الشريف، فلما أخذت في محاسبة الدكتور زكي مبارك على ما صنع في نقد الغزالي تكشفت جوانب أثارت فضيلة العالم الجليل الشيخ اللبان فتدخل وتدخل معه جماعة من جلة العلماء، وكاد الجمهور يموج من الغيظ، ولولا حكمة رئيس اللجنة يومئذ، وهو حضرة صاحب العزة الأستاذ الدكتور منصور فهمي بك، لاضطرب النظام وانفرط عقد الامتحان.
وحين خلت اللجنة للمداولة أسفر نقاشها عن منح زكي مبارك إجازة الدكتوراه بدرجة «جيد جدا» واقترحت أن ينص في محضر الجلسة على أن اللجنة غير مسئولة عما في الرسالة من الشطط والجموح، ولكن الأستاذ الدكتور منصور فهمي بك أقنعنا بأن من المفهوم أن امتحان الدكتوراه هو محاولة عقلية يخطئ الطالب فيها ويصيب، وأن الرسالة لن تخرج إلا ممحصة، وكان ذلك مفهوما عندي وإنما قصدت الاحتياط لنفسي ولزملائي. (2)
وكنت أظن المشكلة انتهت عند هذا الحد، ولكني تبينت مع الأسف أن هجومي على الدكتور زكي مبارك كانت له عواقب، فقد حمل عليه جماعة من العلماء في جريدة المقطم وجريدة الأخبار، يحمل لواءهم حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ يوسف الدجوي أمد الله في حياته النافعة، والأستاذ الشيخ أحمد مكي تغمده الله برحمته.
وعند ذلك عرفت أن الدكتور زكي مبارك قد يقضي حياته في المضاولة والمجادلة لما استقر في النفوس من أنه باحث متعسف مشاغب.
كان ذلك الحادث كافيا لأن يوجه نظري إلى هذه الشخصية الجديدة وإلى تعقب ما تؤدي من النفع أو الضر للدراسات الأدبية والفلسفية، ولكن من الذي يستطيع أن يتعقب الدكتور زكي مبارك؟
وكيف يمكن ذلك وهو لا يسكت أبدا، ولا يترك فرصة لمن يريد أن يحكم له أو عليه؟
تراه حينا يجادل في الدقائق الفقهية كما صنع حين حقق نسب كتاب الأم فتضيفه إلى الفقهاء، وحينا تراه يجادل في المعضلات النحوية فتضيفه إلى النحويين وتنظر إلى كتاب «النثر الفني» أو كتاب «الموازنة بين الشعراء» فتحسبه رجلا لا يحسن غير النقد الأدبي.
وتقرأ رسائله الغرامية ودراساته الطريفة للعشاق من الشعراء فيخيل إليك أنه شاب لا يعرف غير الاصطباح والاغتباق بهوى الغيد الرعابيب.
وتنظر رسالة «اللغة والدين والتقاليد» فتعده من كبار المصلحين وتنظر مقالاته في التربية والتعليم فتراه من أقطاب المربين، وتقرأ هجومه على الكتاب والشعراء والمؤلفين فتخاله من الهدامين وتسمع عن أخباره في الأندية والمجالس وأحاديث رحلاته إلى البلاد الشرقية والغربية وانتقاله من العمامة إلى الطربوش ثم إلى القبعة والسدارة فتعتقد أنه من المولعين بدرس أخلاق الأمم والشعوب.
Halaman tidak diketahui