ومن هؤلاء المتصوفة الذين عاشوا في العصر الأول غير من ذكرنا: محمد بن علي الحسين وأبو بكر دلف بن جحدر الشبلي ومحمد بن الجبار النفاري.
أما الطبقة الثانية من المتصوفة فقد عاشت فيما بين القرنين: الخامس والسابع.
نشأة وحدة الوجود
زعم متأخرو الصوفية أنهم تلقوا وحدة الوجود عن بعض آيات القرآن، وهي تعبيرات الزهاد الأولين، وعن قول الأشعرية بأن جميع الحوادث الكونية أفعال إلهية محضة، وعن عبارات البسطامي والحلاج وأمثالهما من الوحديين الذين لم ينقصهم في هذا المذهب إلا الاسم الفني، ولكنهم استمدوها في الحقيقة - فيما يرى الأستاذ ماسينيون - من مزج فكرة النور المحمدي، الذي هو عند الكثيرين مبدأ الخلق بفكرة العقل الفعال الهيلينية، ويقرر هذا الأستاذ أن ابن عربي هو أول من صرح تصريحا قاطعا بهذا المذهب وأعلن أن جميع الكائنات انبثقت عن العالم الإلهي الذي سبق وجودها فيه - وهو المعروف بالثبوت - وجودها الخارجي، وأن الأرواح بعد الموت تعود إلى الجوهر الإلهي، وأن الفرغاني والجيلي لم يدخلا على هذه النظرية إلا تعديلات طفيفة، وأنها لا تزال إلى اليوم عقيدة المتصوفين الإسلاميين، كما لا تزال موضع تغني الشعراء الفارسيين، بل إن الكوراني والنابلسي قد أهاجا في القرن السابع عشر سخط أهل السنة حين أعلنا أن وحدة الوجود هو المعنى الصحيح الدقيق الذي ينطبق على وحدانية الإسلام، وأكثر من ذلك أن الجيلي وابن عربي قد قررا أن «الشهادة» معناها حلول الإله في جميع مخلوقاته، وهذا ما يقتضي أن تكون مجموعة الكائنات في جميع أحوالها جديرة بالعبادة؛ ولهذا حكم الجيلي برد شرف إبليس، وحكم ابن عربي برد شرف فرعون.
1
أما نحن فنرى أن من البواعث التي حملتهم على تشرب فكرة وحدة الوجود أنهم لما اعتقدوا أن أسلافهم قد اتصلوا بعالم الملكوت على إثر قطع علاقاتهم بالمادة أيقنوا أن المادة لم تكن إلا حجابا بين الفرع الذي هو النفس البشرية والأصل الذي هو الإله، وإذا كان ذلك هكذا، كان الكل صادرا عن الباري، وما عاد إلى مصدره استضاء، وما ابتعد أظلم، وما منشأ ظلمة المادة إلا ابتعادها عن مصدرها الذي هو الكل الأوحد. ولا ريب أن هذا هو مذهب الأفلاطونية الحديثة وقد أدخل عليه المتأخرون منهم بعض تغييرات أخذوها من فرقتي الإسماعيلية والرافضة، مثل القول بقطب الوقت المتصرف في شئون الكون وما شاكل ذلك، وفي هذا يقول ابن خلدون: «إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة وملئوا الصحف منه، مثل الهروري في كتاب «المقامات» له وغيره، وتبعهم ابن عربي وابن سبعين وتلاميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم، وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية والمتأخرين من الرافضة المنادين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة، وهو مذهب لم يعرف لأولهم، فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم، وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب، ومعناه رأس العارفين، يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان.»
2
تفصيلات عن أعيان المتصوفة
أوصل المؤرخون طبقات المتصوفين إلى عشرين طبقة، وذكر أسماء أفراد كل طبقة ومؤلفاتهم، ولما كان ما يعنينا هنا هم أشهر مشاهير للصوفية لا جميع أفراد طبقاتهم، فقد آثرنا أن نلم بأولئك الأفذاذ حسب ترتيبهم الزمني، مغضين عن الطبقات التي احتوتهم، وعن الأمكنة التي عاشوا فيها، وإليك هذه الإلمامات، بالإضافة إلى ما قدمنا عنهم قبلا. (1) سفيان الثوري
هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، وقد ولد فيما بين سنتي 95 و97ه/713 و715م، ولما نشأ تلقى الحديث على والده الذي كان أحد مشاهير علماء الكوفة، والذي توفي حوالي 126ه، ولما تم الأمر لبني العباس كان سفيان أحد الذين أرادوا أن يعلنوا كراهتهم للحكم الحاضر برفضهم مناصب الدولة التي عرضتها عليهم السلطات الجديدة، وفي سنة 150ه عرض أبو جعفر على سفيان منصب القضاء فرفض وفر إلى اليمن، ولكن حكومة بغداد جعلت تتعقبه، فأحس بذلك فارتحل إلى مكة، غير أن أمير مكة محمد بن إبراهيم تلقى أمرا من الخليفة بتعقبه، ويقول بعض المؤرخين: إنه كان أمر بقتله، ولعل هذه إشاعة منشؤها أن الشعب في ذلك العهد كان يتندر في الخفاء بأوامر العباسيين قائلا: إذا عثرت عليه فاصلبه! إلا أن النووي وابن حجر يؤكدان أنه كان أمرا جديا.
Halaman tidak diketahui