إذن فأنا في سيناء، في رحاب الوادي المقدس، ما أعظم هذا الذي اختاره لي الله!
نام مع العمال وسمع إلى أحاديثهم في صمت منه مطبق لا يجيب إلا إذا سأله منهم محب للاستطلاع.
وفي الصباح بدأ العمل وتوالت الأيام، حتى اكتملت أسبوعا وهو يقوم بعمله في طاعة، وفي عزم، وفي قوة واضحة تفوق عشرات الرجال.
وكان إذا انتهى يوم العمل ترك إخوانه، وراح يوغل في المسير بجانب الجبل، ونفسه ترف من الخشوع والسعادة، وترقى به إلى مدارج من النورانية الوضاءة المتألقة. وكان منذ اليوم الأول قد اختار مكانا أنس إليه، يجلس فيه وتسبح روحه طليقة، وهو يقرأ القرآن مخافتا حينا أو مجاهرا.
لم يكن يعرف الأجر المقرر له، ولم يسأل، ولكنه وجدهم يعطونه في نهاية الأسبوع الأول عشرين جنيها فرح بها كل الفرح. فالطعام يقدم إليهم مجانا، والمبيت أيضا، فهو لا ينفق شيئا.
ومضت به الحياة، وهو في سعادة أنسته منيب، ذلك القتيل الذي تركه بأعماق الصعيد وأنسته أيضا أباه ذلك الطاغية العاتي، وأنسته أمه، أو التي يظن أنها حلت مكان أمه، والتي كان يحس منها الحنان الدافق يفوح منه عبير الأم السماوي. وأنسته أخاه مأمون، وقد كانت علاقته به أقوى من أي أخوة بين أخوين؛ فقد كان يشعر أنه جزء منه لا يتجزأ.
نسي هذا جميعه في غمرة العمل عند الصباح، وقد كان يبدأ مع شروق الشمس، ونسيه أيضا في ساعات البهجة الروحية الكبرى التي كان يحسها في مسيره بجانب الجبل، وفي جلسته التي أنس إليها وأنست إليه.
ومضى عليه في عمله وفي أثباج سبحاته العلوية شهر وأربعة أيام، وكأنه في حلم يحرص أن يحلمه، وأن يطول مكوثه في رحابه.
وفي يوم طال به الجلوس في مكانه الأثير، وغابت الشمس فلم يحس لها غيابا، فالنور في داخله أعظم إشراقا من نورها. ومضت الساعات، حتى أحس كأن هاتفا يوحي إليه أن يقوم.
فنهض وأخذ طريقه الذي تعود أن يسير فيه، وهو يقلب ناظريه في كل ما يحيط به، وفجأة رأى نارا على مدرجة من الجبل عالية، فعجب من ذلك الذي يشعلها هناك، وتملكه حب التعرف، فراح يصعد الجبل يؤم النار، فهي سمته، وأحس بالجهد، ولكنه واصل الصعود دون محاولة منه للتفكير فيما يصنعه. لقد صمم أن يعرف معنى وجود النار في هذا المكان تصميما ليس له في دخيلة نفسه سبب واضح، وصعد، ونال منه الجهد كل منال، ولكنه صعد. وأخيرا بلغ النار مشتعلة هي، ولكن النور الذي يخرج منها أقوى من جذوتها، فراح ينظر إليها، ويطيل النظر مبهورا دهشا. وجلس وكان الليل باردا قارس البرودة، فنشر يديه فوقها عله أن يصيب بعض الدفء، وما هي إلا لحظة حتى ملكه النعاس، فنام في جلسته ويداه ممدودتان فوق النار تمدان كيانه بالدفء والطمأنينة.
Halaman tidak diketahui