Tariq al-Hidayah: Principles and Introductions to the Science of Tawheed in Ahl al-Sunnah wal-Jama'ah
طريق الهداية مبادئ ومقدمات علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة
Penerbit
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
Nombor Edisi
الثانية ١٤٢٧هـ
Tahun Penerbitan
٢٠٠٦م
Genre-genre
مقدمة
...
بين يدي الكتاب.
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] .
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١] .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠-٧١] .
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وبعد ...
فإن توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة هو غاية خلق العالمين، وهو أصل دعوة المرسلين، وهو ما يخاطب به الناس من أصول الدين، وهو سبب العصمة والأمن في الدنيا والنجاة والفوز في الآخرة، وهو الشرط لصحة وقبول سائر الطاعات.
أما أنه غاية خلق العالمين، فلقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] .
وأما إنه دعوة الرسل أجمعين فلقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥]، وقوله
1 / 5
سبحانه: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦]، فالتوحيد حق الله على العبيد.
وأما إنه أول ما يخاطب به الناس من أمور الدين فلقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، ولقوله ﷺ لمعاذ ﵁ حين أرسله إلى اليمن: "يا معاذ: إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله ﷿، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ... " ١.
وأما إنه سبب العصمة والأمن في الدنيا؛ فلأن الإقرار بالتوحيد يعصم الدم والمال، ويثبت عقد الإسلام، كما قال ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه، إلا بحقه، وحسابه على الله" ٢. والتوحيد يثمر الأمن التام في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ٨٢] .
وأما إنه سبب النجاة والفوز في الآخرة فلقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: ٧٢] .
ولقوله ﷺ حين سئل: وما الموجبتان؟ فقال: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار" ٣، وقال ﷺ فيما يرويه عن ربه تعالى: "يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة" ٤.
_________
١ أخرجه البخاري "١٤٢٥"، ومسلم "١٩".
٢ أخرجه البخاري "١٤٠٠، ٦٩٢٤، ٧٢٨٥"، ومسلم "٢٠، ٢١"، واللفظ لمسلم من حديث أبي هريرة ﵁.
٣ أخرجه مسلم "٩٣"، من حديث جابر بن عبد الله ﵄.
٤ أخرجه الترمذي "٣٥٤٠" بسند صحيح.
1 / 6
وأما إنه الشرط لصحة وقبول سائر العبادات، فلقوله تعالى في حق المؤمنين العاملين: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: ١٢٤]، ولقوله جل وعلا عن أعمال الكافرين: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣]، فالشرط محبط لجميع الطاعات، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: ٦٥]، فكما لا تقبل صلاة بغير وضوء، لا تقبل عبادة بغير توحيد.
فالتوحيد أول ما يتعلمه المسلم، قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: ١٩]، وأوجب ما يدعو الناس إليه، قال تعالى على لسان أنبيائه: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٥٩]، فهو عمدة الأصول التي ينطلق منها الداعية في دعوته إلى الله، وخلافته لرسول الله ﷺ، ولرسل الله عامة.
والتوحيد أصل كل صلاح في هذه الحياة، كما أن الشرك أصل كل فساد، يقول ابن تيمية ﵀: فأصل الصلاح: التوحيد والإيمان، وأصل الفساد: الشرك والكفر١.
ولأجل ذلك كله كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يعتنون بالتوحيد علما وتعليمًا، كما يعتنون به عملا وتطبيقا ودعوة، وكان عمدتهم في التعليم والتلقين آيات الكتاب الكريم، وأحاديث النبي الأمين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فلم تقم لديهم حاجة إلى التدوين لتعويلهم على الوحيين، فلما نبتت البدع وظهرت الفرق، اضطر السلف إلى كتابة الردود على أهل الأهواء، بجمع الآثار والأحاديث المروية في الأبواب التي وقعت فيها المخالفة، ثم كتبت كتب تجمع الآثار مرتبة على مسائل الاعتقاد نصرة للحق، وبيانا لصحيح المعتقد.
_________
١ مجموع الفتاوى لابن تيمية "١٨/ ١٦٣".
1 / 7
ثم دونت مسائل العقيدة عند أهل السنة مستدلا عليها مع مناقشة مذاهب أهل البدع والرد عليها، وكان هذا في مقابل ما ألفه أهل الأهواء في تقرير انحرافاتهم.
ثم إن المتأخرين عنوا بتدوين مقدمات ومفاتيح للعلوم، تتضمن عشرة مبادئ للتعريف بالعلم، لتنشط الطالب في تحصيله، وتعينه في طريقه.
فقال قائلهم:
إن مبادئ كل فن عشرة ... الحد والموضوع ثم الثمرة
فضله ونسبة والواضع ... الاسم الاستمداد حكم الشارع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى ... ومن درى الجميع حاز الشرفا
وكان علم التوحيد من العلوم التي كتبت فيها تلك المقدمات، والمبادئ الممهدات، فكان العجب لا ينقضي حين قدم المتكلمون لعلم التوحيد فسموه بغير اسمه! وعرفه بما يزيده إبهاما! وقربوه للطالب فصعبوا مناله، وأقاموا أدلته بما يملؤه التباسًا، وموهوا بأن واضعه بعدما جاءت به المرسلون، بعض المتأخرين عن عصر التابعين وتابعي التابعين، وألبسوا حلل فضله -زورا وبهتانا- لما أسموه بعلم الكلام، المقتبس من منطق وفلسفة اليونان.
فأردت أن أصل مؤلفات أهل السنة العظيمة في علم التوحيد، بمقدمة في التعريف به، تعيد الحق إلى نصابه، وتدفع عن مبادئ علم التوحيد شبهاته، فاستعنت بالله تعالى وهو خير مستعان، فكتبت معرفا بأهل السنة والجماعة، وبينت حقيقة منهجهم، وبم تتم النسبة إليهم، ونسجت على تلك المبادئ العشرة لعلم التوحيد على طريقتهم، فليس بين ما كتبه المتكلمون، وبين ما في هذا الكتاب من مبادئ علم التوحيد إلا الأسماء.
1 / 8
ثم أردفت ببيان خصائص عقيدة أهل السنة والجماعة، ثم أردفت ببيان قواعد وضوابط الاستدلال على مسائل الاعتقاد.
وأخيرًا ختمت الكتاب بملحقين، تضمن أولهما فهرسة تفصيلية لموضوعات ومسائل الاعتقاد، وتضمن الثاني تعريفا بمائة كتاب من كتب الاعتقاد الصحيح من لدن الفقه الأكبر لأبي حنيفة النعمان، وإلى وقت الناس هذا.
ولسان الحال والمقال ينطق بأن السلف أهل السنة والجماعة، هم أهل الإسلام السالم عن كل شوب، الصافي عن كل كدر، وهم من لدن النبي ﷺ وإلى يوم الناس هذا على نمط واحد في الاعتقاد، لا يخرجون على الحق، ولا يخرج الحق عنهم.
وهذا الكتاب وإن خلا عن سرد عقائدهم، وبيان تفاصيل أصولهم ومناهجهم إلا أنه يمثل مدخلا مهما لطالب هذا العلم، ويمهد لمدخل ثان -يلحقه قريبا بعون الله تعالى- يميز به السالك على طريق التوحيد أهل البدع، ويتعرف على أنواعهم، وأحكامهم، ومناهج النظر والتلقي لديهم، ومنهج أهل السنة في معاملتهم.
ثم يأتي الكتاب الثالث يحمل عقائد أهل السنة مسندة ومسددة، تبيانا وبرهانا على معتقدات الأئمة، وفرقانا بين السنة والبدعة.
وهو واسطة عقد هذه المداخل، وحجر الزاوية منها، وبخروج هذا المدخل الأول يكون الثاني في إثره، ويتلوهما الثالث بإذن الله تعالى ومشيئته.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أزجي الشكر عاطرا، والدعاء خالصا إلى كل من أعان على إكمال هذه المداخل بقلم أو رأي أو نصح، أو جمع أو مراجعة.
1 / 9
والله أسأل أن يتقبل منا جميعا بقبول حسن، وأن يحسن نياتنا في جميع أقوالنا وأعمالنا، إن ربي قريب مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه أبو عبد الله محمد يسري القاهرة.
غرة ربيع الأول ١٤٢٥هـ.
1 / 10
الباب الأول: أهل السنة والجماعة
الفصل الأول: مصطلح أهل السنة والجماعة
أولًا: تعريف المصطلح باعتبار مفرداته:
١- تعريف السنة لغة واصطلاحًا:
السنة لغة ١:
السيرة والطريقة: حسنة كانت أو قبيحة، وهي مأخوذة من السنن وهي الطريق.
قال ابن فارس: "سن -السين والنون أصل واحد مطرد، وهو جريان الشيء واطراده في سهولة، والأصل قولهم: سننت الماء على وجهي أسنه سنا، إذا أرسلته إرسالا".
"ومما اشتق منه السنة، وهي السيرة، وسنة رسول الله ﷺ سيرته. قال الهذيلي:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ... فأول راضٍ سنة من يسيرها٢
وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٦]، أي: يهديكم سنن الذين من قبلكم، يعني طرائقهم الحميدة٣.
_________
١ لسان العرب لابن منظور "٦/ ٣٩٥-٤٠٢"، والقاموس المحيط للفيروزابادي ص١٥٥٧-١٥٥٩، ومختار الصحاح للرازي ص١٣٣.
٢ معجم مقاييس اللغة لابن فارس "٣/ ٦٠-٦١".
٣ تفسير ابن كثير "١/ ٤٨٠".
1 / 13
وعن مجاهد في قوله تعالى: ﴿قَدَّمَتْ وَأَخَّرَت﴾ [الانفطار: ٥]، قال: "أخرت من سنة يعمل بها من بعده"١.
ومن ذلك الحديث: "من سن في الإسلام سنة حسنة ... ومن سن في الإسلام سنة سيئة" ٢.
قال ابن الأثير: "وقد تكرر في الحديث ذكر السنة، وما تصرف منها، والأصل فيه: الطريقة والسيرة"٣.
وهذا المعنى هو المراد هنا من معاني "السنة" اللغوية، وقد تطلق السنة ويراد بها:
- البيان:
كما قال تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ [الأحزاب: ٣٨، ٦٢] .
نصب "سنة" على إرادة الفعل، أي: سنن الله ذلك بمعنى بينه٤.
العادة الثابتة المستقرة:
كما في قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٧] .
فالسنة هنا تعني: العادة الثابتة التي تحكم الله بها وقضاها٥.
وهذا المعنى قريب من سابقه، وكلاهما يتفق مع التفسير السابق للسنة بالسيرة والطريقة.
وقيل: هي الصقل والتزيين٦، وقيل: التقوية٧، والذي يعنينا هنا هو المعنى
_________
١ التاريخ الكبير لابن أبي خيثمة "٥٢٣".
٢ رواه مسلم "١٠١٧" من حديث جرير بن عبد الله ﵁.
٣ النهاية في غريب الحديث لابن الأثير "٢/ ٤٠٩"، ولسان العرب لابن منظور "٦/ ٣٩٩".
٤ لسان العرب لابن منظور "٣/ ٣٩٩".
٥ تفسير ابن كثير "٣/ ٥٤".
٦ انظر: لسان العرب لابن منظور "٦/ ٤٠٠"، والمعجم الوسيط إصدار مجمع اللغة العربية "١/ ٤٧٣".
٧ لسان العرب لابن منظور "٣/ ٣٩٦".
1 / 14
الأول، وهو موافق لبعض المعاني الاصطلاحية للسنة.
السنة اصطلاحًا:
ثم إن السنة -بعد ذلك- لها معان اصطلاحية متعددة بحسب الفن الذي ترد فيه، فالسنة عند الفقهاء غيرها عند المحدثين، غيرها عند الأصوليين.
لكن يعنينا هنا معناها عند علماء الاعتقاد، وهي عندهم على معنيين: الثاني منهما متفرع عن الأول، ومتأخر عنه.
فالأول هو الأصل في إطلاق السنة في اصطلاح السلف، وهو:
"ما كان عليه النبي ﷺ من العلم والعمل والهدي وكل ما جاء به مطلقا".
وهذا اصطلاح عام، فيشمل التوحيد وغيره، فالسنة بهذا الاعتبار تطلق على طريقة النبي ﷺ وأصحابه علما وعملا، اعتقادا وسلوكا، خلقا وأدبا، وهي السنة التي يجب اتباعها، ويحمد أهلها، ويذم من خالفها.
فهي على هذا المعنى مرادفة للدين والشريعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "السنة هي الشريعة، وهي ما شرعه الله ورسوله من الدين"١.
وقال أيضا: "إن السنة التي يجب اتباعها ويحمد أهلها ويذم من خالفها هي سنة رسول الله ﷺ في أمور الاعتقاد، وأمور العبادات، وسائر أمور الديانات، وذلك إنما يعرف بمعرفة أحاديث النبي ﷺ الثابتة عنه، في أقواله وأفعاله، وما تركه من قول وعمل، ثم ما كان السابقون والتابعون لهم بإحسان"٢.
_________
١ مجموع الفتاوى "٤/ ٤٣٦".
٢ مجموع الفتاوى "٣/ ٣٧٨".
1 / 15
فالسنة هي: ما تلقاه الصحابة عن رسول الله ﷺ، من الشرع والدين، والهدي الظاهر والباطن، وتلقاه عنهم التابعون ثم تابعوهم، ثم أئمة الهدى العلماء العدول، المقتدون بهم، ومن سلك سبيلهم إلى يوم القيامة١.
ومن ذلك: قول الإمام مالك رحمه الله تعالى في وصف المدينة: "وهي دار الهجرة والسنة"٢.
وقال ابن رجب: "وعن سفيان الثوري، قال: استوصوا بأهل السنة خيرًا فإنهم غرباء٣، ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة: طريقة النبي ﷺ التي كان عليها هو وأصحابه، السالمة من الشبهات والشهوات"٤.
ويشهد لهذا المعنى حديث أنس بن مالك ﵁، وفيه: "فمن رغب عن سنتي فليس مني" ٥.
فالإطلاق الأول للسنة هو ما كان عليه النبي ﷺ من العلم والعمل والهدي في أصول الدين وفروعه.
أما الإطلاق الثاني، فيقصد به "العقيدة الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة".
حيث أطلق السلف مصطلح "السنة" على أصول الدين، وفرائض الإسلام، وأمور الاعتقاد، والأحكام القطعية في الدين، وعلى هذا جرى الإمام أحمد وغيره من الأئمة في تصنيفهم كتب الاعتقاد باسم السنة.
_________
١ انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية "٣/ ٣٥٨".
٢ التاريخ الكبير، لابن أبي خيثمة "١٣٥٢".
٣ رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة "١/ ٦٤".
٤ كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة لابن رجب ص١٧، ١٨.
٥ رواه البخاري "٥٠٦٣"، ومسلم "١٤٠١" من حديث أنس ﵁.
1 / 16
وعليه فالسنة تطلق عندهم على: "ما سلم من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك في مسائل القدر، وفضائل الصحابة"١.
وقال ابن رجب: "وكثير من العلماء المتأخرين يخص السنة بما يتعلق بالاعتقاد؛ لأنها أصل الدين، والمخالف فيها على خطر عظيم"٢.
ويلاحظ في سبب هذا الإطلاق والاصطلاح الاعتقادي للفظ السنة، أن السنة من مصادر التلقي للعقيدة الصحيحة، وبها تثبت أحكام الاعتقاد.
فإذا قيل مذهب أهل السنة، فالمراد: معتقداتهم وأقوالهم في أصول الدين.
ومما يشهد لهذا المعنى قول سفيان بن عيينة: "السنة عشرة، فمن كن فيه فقد استكمل السنة، ومن ترك منها شيئا فقد ترك السنة: إثبات القدر، وتقديم أبي بكر وعمر، والحوض، والشفاعة، والميزان، والصراط، والإيمان قول وعمل، والقرآن كلام الله، وعذاب القبر، والبعث يوم القيامة، ولا تقطعوا بالشهادة على مسلم"٣.
وقول الشافعي: "القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل سفيان الثوري ومالك وغيرهما: الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن الله على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف شاء، وينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء ... "٤.
وعلى هذا فالسنة تقابلها البدعة، وعليه يحمل قول ابن مسعود ﵁: "القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة"٥.
_________
١ كشف الكربة في وصف أهل الغربة لابن رجب ص٢٦-٢٨.
٢ جامع العلوم والحكم لابن رجب "٢/ ١٢٠".
٣ شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي "١/ ١٥٥، ١٥٦".
٤ العلو للعلي الغفار للذهبي ص١٢٠.
٥ رواه الدارمي "١/ ٨٣"، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة "١/ ٥٥"، والبيهقي في السنن الكبرى "٣/ ١٩"، وصححه الألباني في صلاة التراويح ص٦.
1 / 17
وقول ابن عباس: "النظر إلى الرج من أهل السنة يدعو إلى السنة، وينهى عن البدعة عبادة"١.
وقال أبو المليح: "وكان كتب عمر بن عبد العزيز راجيا السنة وإماتة البدعة"٢.
وقال ابن يونس: "امتحن أهل الموصل بالمعافى بن عمران فإن أحبوه فهم أهل سنة، وإن أبغضوه فهم أهل بدعة، كما يمتحن أهل الكوفة بيحيى"٣.
وقال الأوزاعي: "كان يقال: خمس كان عليها أصحاب محمد ﷺ والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المساجد، وتلاوة
القرآن، والجهاد في سبيل الله"٤.
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: "إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء أهل السنة"٥.
ومن هذا الباب ما يأتي بعد قليل عن ابن سيرين وغيره أثناء الكلام عن مصطلح أهل السنة باعتبار تركيبه الإضافي.
والسنة في هذا كله بمعنى الاعتقاد الصحيح المقابل لاعتقاد أهل البدع الباطل.
وكان السلف يفرقون في هذا المقام بين السنة والحديث، قال ابن مهدي: "الناس على وجوه، فمنهم من هو إمام في السنة، إمام في الحديث، ومنهم من هو إمام في الحديث، فأما من هو إمام في السنة وإمام في الحديث فسفيان الثوري"٦.
_________
١ شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي "١/ ٥٤".
٢ التاريخ الكبير، لابن أبي خيثمة "٤٦٢٨".
٣ رواه ابن مأبي خيثمة في التاريخ "٤٦٥٧"، ومن طريقه اللالكائي "١/ ٦٦".
٤ رواه ابن ماجه أبي خيثمة في التاريخ "٤٧٠٢"، ومن طريقه اللالكائي "١/ ٦٤".
٥ حلية الأولياء لأبي نعيم "٦/ ٣٢٧".
٦ شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي "١/ ٦٣".
1 / 18
ولما سئل ابن الصلاح عن الفرق بين قولهم عن مالك إنه جمع بين السنة والحديث، فما الفرق بين السنة والحديث؟ أجاب ﵀: "السنة ههنا ضد البدعة، وقد يكون الإنسان من أهل الحديث وهو مبتدع، ومالك ﵀ جمع بين السنتين، فكان عالما بالسنة أي: الحديث، ومعتقدًا للسنة، أي كان مذهبه مذهب أهل الحق من غير بدعة، والله أعلم"١.
فلما ظهرت البدع، وانتشرت الفتن، ميز أهل السنة أنفسهم، ببقائهم على أصل الإسلام والشريعة، وخرجت عنهم الخوارج، واعتزلتهم المعتزلة، ورفضت الروافض، فتشتت أهل البدع وتفرقوا، ومكث أهل السنة على أصلهم الباقي على مر الزمان، وهو ما شرعه النبي ﷺ، وسنه لهم من السنة والجماعة.
ولما كان أكثر الاختلاف بينهم وبين غيرهم في أمور الاعتقاد صار مفهوم السنة يعني السير على طريقة الصحابة والتابعين بإحسان في أمور الاعتقاد خاصة، وأمور الدين عامة، ومن هنا نشأ المعنى الثاني للسنة.
_________
١ فتاوى ابن الصلاح "١/ ٢١٣"، بتحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي.
1 / 19
٢- تعريف الجماعة لغة واصطلاحا:
الجماعة لغة:
الجماعة: اسم مصدر اجتمع يجتمع اجتماعا وجماعة، وصارت لفظة الجماعة تطلق على القوم المجتمعين بالنقل، حتى صارت حقيقة عرفية في القوم المجتمعين١.
وقال ابن تيمية: "الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين"٢.
والجمع: اسم لجماعة الناس، والإجماع: الاتفاق والإحكام، يقال: أجمع الأمر أي أحكمه، ومنه إجماع أهل العلم، أي: اتفاقهم على حكم مسألة.
الجماعة اصطلاحًا:
ذكر الإمام الطبري الأقوال في معنى الجماعة، ونقلها عنه ابن حجر٣، ورد الأقوال إلى أربعة أقوال هي:
- السواد الأعظم من أهل الإسلام.
- أئمة العلماء المجتهدين المتبعين لمنهج الفرقة الناجية.
- الصحابة على وجه الخصوص.
- المجتمعون على أمير شرعي.
وكذا قال الشاطبي، وزاد قولا خامسا وهو جماعة أهل الإسلام٤.
وبمحاولة الجمع والتوفيق بين هذه الأقوال المتعددة، يلاحظ أن جملة هذه المعاني تؤول إلى معنيين اثنين:
١- ما عليه أهل الحق من الاتباع وترك الابتداع، وهو المذهب الحق الواجب اتباعه والسير على منهاجه، وهذا معنى تفسير الجماعة بالصحابة، أو أهل العلم والحديث، أو الإجماع، أو السواد الأعظم، فهي كلها ترجع إلى معنى واحد هو: ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، فيجب الاجتماع على الاتباع حينئذ، ولو كان المتمسك بهذا قليلا، وهذا معنى علمي، ويشهد له قول ابن مسعود ﵁: "إنما الجماعة ما وافق طاعة الله، وإن كنت وحدك"٥.
_________
١ لسان العرب لابن منظور "٢/ ٣٥٥-٣٦١"، والمعجم الوسيط إصدار مجمع اللغة العربية "١/ ١٤٠، ١٤١".
٢ مجموع الفتاوى "٣/ ١٥٧".
٣ فتح الباري لابن حجر "١٣/ ٣٧".
٤ الاعتصام للشاطبي "٢/ ٢٦٣".
٥ شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي "١/ ١٠٩".
1 / 20
٢- المجتمعون على أمير على مقتضى الشرع، فيجب لزوم هذه الجماعة، ويحرم الخروج عليها وعلى أميرها، وهذا معنى سياسي تشهد له كثير من النصوص الشرعية.
وهذا ما رجحه جمع من أهل العلم كالقاضي ابن العربي وغيره١.
وهو ما انتهى إليه د. عبد الرحمن المحمود في رسالته عن "موقف ابن تيمية من الأشاعرة"٢، والشيخ رضا بن نعسان معطي في تحقيقه، ودراسته لكتاب "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية"٣ لابن بطة، ود. محمد باكريم في رسالته "وسطية أهل السنة بين الفرق"٤، ود. جمال بادي في رسالته عن "وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق"٥، ود. ناصر العقل في رسالته "مفهوم أهل السنة والجماعة"٦.
_________
١ انظر: عارضة الأحوذي لابن العربي ٩/ ١٠"، والاعتصام للشاطبي "٢/ ٢٦٠-٢٦٥"، وفتح الباري لابن حجر "١٣/ ٣٧".
٢ موقف ابن تيمية من الأشاعرة للدكتور عبد الرحمن المحمود "١/ ١٦-١٧".
٣ الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة، تحقيق رضا بن نعسان معطي. مقدمة المحقق ص ٧١، ٧٢.
٤ وسطية أهل السنة بين الفرق للدكتور محمد باكريم ص٩١-٩٦.
٥ وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق د. جمال بشيرابادي ص٨٧-١١٥.
٦ مفهوم أهل السنة والجماعة د. ناصر العقل ص٦٩، ٧٠.
1 / 21
ثانيا: تعريف المصطلح باعتبار تركيبه الإضافي:
وعلى هذا، فإن مصطلح أهل السنة والجماعة يعنى به:
المستمسكون بسنة رسول الله ﷺ، الذين اجتمعوا على ذلك، وهم الصحابة والتابعون وأئمة الهدى المتبعون لهم، ومن سلك سبيلهم في الاعتقاد والقول والعمل إلى يوم الدين١.
"وهم أهل السنة والجماعة: المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه"٢.
"فهم الذين اجتمعوا على السنة وأجمعوا عليها، واجتمعوا على الحق وعلى أئمتهم فجاء اسمهم ووصفهم مركبا من أهل السنة والجماعة"٣.
"وهم المتبعون للعقيدة الإسلامية الصحيحة، الملتزمون منهج الرسول ﷺ وأصحابه والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين"٤.
وهم المجتمعون على أئمتهم أبي بكر، وعمر ومن بعدهما، الصابرون على ولاتهم برهم وفاجرهم.
كما سئل الإمام سفيان بن عيينة ﵀ عن قول الناس: السنة والجماعة. وقولهم: فلان سني جماعي، وما تفسير السنة والجماعة؟
فقال: "الجماعة: ما اجتمع عليه أصحاب محمد ﷺ من بيعة أبي بكر وعمر، والسنة: الصبر على الولاة وإن جاروا وإن ظلموا"٥.
فهم بالجملة كل من اجتمع على التمسك بالسنة ونبذ الفرقة، وجمع الدين قولا وعلما وعملا، مع الاجتماع على أئمة الحق والحرص على وحدة الصف، جمعا بين واجبي الاتباع والاجتماع، واجتماعا على الاتباع للمنهج الحق.
ومما سبق.. فإن من الوجوه التي يمكن التعرف منها على أهل السنة ما يلي:
أولا: أنهم هم صحابة رسول الله ﷺ الذين تعلموا سنته وعلموها، وعملوا بها
_________
١ يراجع: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز "٢/ ٥٤٤-٥٤٦"، ورسائل في العقيدة لابن عثيمين ص٥٣، ومباحث في عقيدة أهل السنة د. ناصر العقل ص١٣، ١٤.
٢ تفسير ابن كثير "٣/ ٤٣٤".
٣ مفهوم أهل السنة والجماعة عند أهل السنة والجماعة. د. ناصر العقل ص٧٥-٧٧.
٤ المدخل لعقيدة أهل السنة د. البريكان ص١٣.
٥ مشيخة ابن الخطاب ص١١٦.
1 / 22
ونقلوها وحملوها رواية ودراية ومنهجا، فهم أجدر، من يستحق التسمي بأهل السنة، لسبقهم إلى السنة علمًا وعملًا وزمنًا.
ثانيا: يليهم أتباعهم الذين أخذوا عنهم هذا الدين ونقوله، وعلموه وعملوا به من التابعين وتابعيهم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فهم أهل سنة رسول الله ﷺ الذين تمسكوا بها، ولم يبتدعوا ولم يتبعوا غير سبيل المؤمنين.
قال الإمام أحمد ﵀: "هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر، وأهل السنة المستمسكين بعروتها، المعروفين بها، المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي ﷺ إلى يومنا هذا، وأدركت عليها من علماء الحجاز والشام وغيرهما عليها، فمن خالف شيئا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع، وخارج عن الجماعة، زايل عن منهج السنة وسبيل الحق"١.
وكل من اقتدى -من العوام- بأهل العلم والاتباع فهو من أهل السنة، قال ابن حزم ﵀: "وأهل السنة الذين نذكرهم أهل الحق، ومن عداهم فأهل البدعة فإنهم: الصحابة ﵁، وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين رحمة الله عليهم، ثم أصحاب الحديث ومن تبعهم من الفقهاء جيلا فجيلا إلى يومنا هذا، ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها رحمة الله عليهم"٢.
_________
١ العقيدة للإمام أحمد رواية أبي بكر الخلال ص٧٣.
٢ الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم "٢/ ٩٠".
1 / 23
الفصل الثاني: سبب التسمية وذيوعها:
نسب أهل الحق إلى المصطلح، لأجل حرصهم على السنة والجماعة.
فهم "أهل السنة"؛ لأنهم متبعون لحديث النبي ﷺ: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" ١. "فالسنة هي ما تلقاه الصحابة عن رسول الله ﷺ، وتلقاه عنهم التابعون ثم تابعوهم إلى يوم القيامة"٢.
وهم "أهل الجماعة"؛ لأنهم يعتبرون الكتاب والسنة والإجماع مصادر معصومة من الضلال، فبها يأخذون، وعليها يعتمدون، ثم هم بعد ذلك مع أئمتهم مجتمعون، وبواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائمون، وبالجهاد مع أئمتهم -فجارًا أو أبرارا- آمرون ومجاهدون، يجتمعون على السنة والاتباع، والبعد عن الفرقة والابتداع، فهم أحق بالجماعة التي من تعلق بها نجا، كما ورد في حديث افتراق الأمة، حيث أخبر النبي ﷺ "عن افتراق أمته إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة وهي "الجماعة" ٣، وفي رواية قال: "ما أنا عليه وأصحابي" ٤.
_________
١ رواه أحمد "١٦٦٩٢"، والدارمي "٩٥"، وابن ماجه "٤٤"، وأبو داود "٤٦٠٧"، والترمذي "٢٦٧٦"، والحاكم "٣٢٩" من حديث العرباض بن سارية ﵁، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم، وقال: على شرط الشيخين، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع "٤٣٦٩".
٢ مجموع الفتاوى "٣/ ٣٥٨".
٣ أخرجه أحمد "١٦٤٩٠"، وأبو داود "٤٥٩٧"، والحاكم "٤٤٣" من حديث معاوية بن أبي سفيان ﵁. وصححه الحاكم، والشيخ الألباني في صحيح الجامع "٢٦٤١".
٤ أخرجه الترمذي "٢٦٤١"، والحاكم "٤٤٤" من حديث عبد الله بن عمرو ﵄، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". وقال المناوي في فيض القدير "٥/ ٣٤٧": وفيه عبد الرحمن بن زياد الأفريقي، قال الذهبي: ضعفوه". وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي "٧/ ٣٣٤": "في سنده عبد الرحمن=
1 / 25
وسبب ذيوع هذه التسمية يرجع إلى أول بدعة وقعت في الإسلام، بعد موته ﷺ، وهي بدعة الخروج على الأئمة، وتشقيق الصف، وثلم الجماعة، ونكث الصفقة والبيعة، حين اتخذ الخوارج منهج فكريا عقائديا خالفوا به جماهير المسلمين، فكفروا بالذنوب واستحلوا الدماء والأموال، فقاتلهم علي ﵁، وأجمع الصحابة على ذلك، ووقعت في أثناء ذلك الفتنة بين علي ﵄، وأريقت فيها الدماء، وتفرقت فيها الكلمة، ثم اجتمعت الأمة بعد ذلك على معاوية ﵁، بعد أن حقن الله دماء المسلمين بتنازل الحسن بن علي ﵄ عن الخلافة، وسمي ذلك العام -عام إحدى وأربعين- بعام الجماعة.
وفي إثر بدعة الخوارج ظهرت بدعة الروافض، الذين اشتهروا بالكذب، بخلاف الخوارج الذين اشتهر معظمهم بالصدق، فكان من شأن أهل السنة مع الروافض أن سألوا عن الإسناد وعنوا به، روى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن سيرين قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى البدعة فلا يؤخذ حديثهم"١.
ثم ظهر قول القدرية٢ بإنكار العلم السابق، وانتشر قول الجهمية والجبرية بأن العبد مجبور، فعقبت طائفة من أهل العلم بالرد على أهل البدع بتصنيف كتب في العقيدة أسموها "كتب السنة"، ومن اشتهرت هذه الطائفة من أهل العلم بالحرص على
_________
= ابن زياد الأفريقي وهو ضعيف، فتحسين الترمذي له لاعتضاده بأحاديث الباب". وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع "٥٣٤٥".
١ رواه مسلم في مقدمة صحيحه "١/ ١٥"، وأحمد في العلل ومعرفة الرجال "٣٦٤٠"، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل "٢/ ٢٨"، والرامهرمزي في المحدث الفاصل ص٢٠٩، والسمعاني في أدب الإملاء ص٥، والخطيب في الكفاية ص١٢٢.
٢ وهم الذين تبرأ منهم عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، حين سئل عنهم. كما في صحيح مسلم "٨". وانظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي "١/ ١٦".
1 / 26
السنة، وتمييز المقبول من المردود من الرواة والروايات، فتبلور منذ ذلك الحين هذا المصطلح، الذي أصبح لقبا على كل من انتمى إلى أهل الحق المتبعين للسنة والآثار، الحريصين على جمع شمل المسلمين واتفاق كلمتهم في آن واحد.
حتى كان عصر الإمام أحمد بن حنبل، ﵀ فأظهر الله تعالى إمامته وفضله، وحرصه على صفاء وجه السنة أن تخدشه بدعة القول بخلق القرآن -والتي جاء بها المعتزلة، مع حرصه على وحدة الجماعة أن تنثلم بالخروج على المأمون، فأقام واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وجهه الصحيح، فنصر الله به الملة، وأعز به السنة، وثبت به قلب الأمة، ثم إنه قد اجتمعت لديه من أسباب الخروج على المأمون ما لم يجتمع لغيره، فقد أصغى الناس إلى الإمام سمعا، وألقوا إليه بأزمة القلوب انقيادًا وحبا، وقد أتى المأمون ببدعته -متأولًا- كفرًا، فلما قيل للإمام: لم لا تخرج على المأمون؟! قال: كرهت أن أفرق جماعة المسلمين، فلم تمنعه سطوة السلطان أن يقول بالحق إذ علمه، ولم يحمله بطش السلطان وتنكيله به على أن يخرج عليه فيكون سببا في إعمال السيف في رقاب المسلمين.
وبهذا استقر مذهب أهل السنة على ترك الخروج على المبتدع والظالم من الأئمة، ما لم يأت كفرا صريحا لا تأويل فيه ولا شبهة، وخرج الإمام من هذه المحنة إماما للعامة، وعندها دعي الإمام أحمد بإمام أهل السنة والجماعة، وكان أول من لقب بهذا اللقب ﵀.
وفي هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: "فصار إماما من أئمة السنة، وعلما من أعلامها، لقيامه بإعلامها وإظهارها، وإطلاعه على نصوصها وآثارها، وبيانه لخفي أسرارها، لا؛ لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأيا، ولهذا قال بعض شيوخ المغرب: المذهب لمالك والشافعي، والظهور لأحمد، يعني: أن مذاهب الأئمة في الأصول مذهب واحد، وهو كما قال"١.
_________
١ منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية "٢/ ٦٠٦".
1 / 27