زال عنه توتر التوقع، فقال في دعابة: ظننته سيد سيد الرحيمي.
فتساءلت ضاحكة: أيسعدك أن تكون عمي؟
فأجاب بقوة: كلا.
تورد وجهها الأسمر وهي تقول: صممت أمي من بادئ الأمر على الاحتفاظ بي إلى النهاية، وجاراها أبي؛ إذ كان شارعا في الزواج من أخرى، فاتفقا على نفقة، ثم عادت إلى بيت جدي بالقاهرة، وبعد وفاته عشنا وحيدين.
تابع القصة بقلب لم يخل من سوء الظن. كحاله مع جميع النساء والأمهات خاصة. بيد أن إلهام لم تسمع قطعا عن القوادين والبلطجية والبرمجية. هل تستطيع أن تحكي قصتك في مثل هذا التفصيل؟ وغيمت روحه كالسماء. - ويوما قال خالي إن علي أن أعرف أبي، فقالت أمي إنه لا يستحق ذلك، وإنه لم يسع إلى رؤيتها مرة واحدة، وكنت أشعر طوال الوقت أنني بلا أب، وقال خالي إنني أكبر يوما بعد يوم، وإنه لا غنى لي عن أبي بحال.
فغمغم وهو لا يدري تقريبا: والحرية والكرامة والسلام!
فهزت منكبيها في استهانة، وقالت: أصرت أمي على الرفض خشية أن يفكر في استردادي، وانضممت إليها بلا تحفظ، واتفق رأينا على أن العمل أهم من الأب وأبقى.
آه كيف تتكلم الجميلة؟ أي عمل يغني عن الحرية والكرامة والسلام؟ - واجتهدت حتى أكملت تعليمي، وحصلت على الوظيفة في امتحان أعلنت عنه الجريدة، وانتسبت بعد ذلك إلى معهد تجاري عال. - وأبوك ألا تفكرين فيه؟ - كأنه غير موجود، وهو الذي اختار ذلك. - لأنك في غير حاجة إليه؟ - كلا، فأنا في غير حاجة إلى أمي كذلك، ولكني أحبها ولا أتصور الدنيا من غيرها.
ليست على شفا هاوية مثلك. وليست جائعة إلى الحرية والكرامة والسلام. ولا يهددها ماض ملوث قد ينقلب في أي لحظة فيصير لها المستقبل الوحيد. - إني سعيدة بعملي رغم أنني لست مثلك من الأغنياء.
طعنته وهي لا تدري. لكن الهيام غلب على جميع مشاعره. ولولا خوفه لاعترف لها بحقيقة حاله. ولما ذهبت شعر بقلق في وحدته. إن سمو عواطفه نحوها يغريه بأن يجرب معها حيوانيته، وهو إغراء يقترحه عقله لا إحساسه. وهو إذ يتخيل ذلك فإنما يتخيلها مذعورة من المباغتة، ثم يتخيل نفسه مخذولا منهزما. وليس عقله وحده الذي يغريه بذلك، ولكن تقاليده في معاملة النساء، ورغبته الثابتة في العبث بما يسمى بالأخلاق الفاضلة. وكما يغطي تلوثه بالقوة فهو يغطيه أيضا بالاعتداء على الفضائل ليجعل من ماضيه قاعدة لا استثناء معيبا؛ ولذلك فإن إلهام وإن قامت في حياته كالمنار إلا أنها أقلقت مخاوفه وعقده، وزعزعت أركان العالم الذي بناه لنفسه واطمأن إليه، وفي الحقيقة هو لا ينسى عذابه إلا في نار كريمة التي تشتعل في ظلام النصف الثاني من الليل.
Halaman tidak diketahui