كان هذا الحادث سببا في أن يتحمل مني مدير التعليم، وإن كان هو الساعي إلى الشر لأنه هو الذي كان يحرض أعضاء المجلس على فكرة إلغاء المدرسة، ويمنيهم بالخير إذا فعلوا ذلك؛ لأن خصمي العنيد كان يسعى في النقل إلى المنصورة، وكان متأكدا من نجاحه، وهكذا صارح مدير التعليم أعضاء المجلس بتلك الفكرة، وقال لهم: إن المدير المقبل سيسر لفكرة إلغاء هذه المدرسة. وعلى ذلك انتشرت الفكرة، ووصلت إلى المدير كما قدمت، وكان علي أن أدافع عنها بكل ما أستطيع.
لهذا اجتهدت أن أفهم المدير؛ أي «ذو الفقار باشا» أنه يستطيع الاقتصاد من موظفي المجلس لا من إلغاء المدرسة.
وحدث بعد ذلك أن زار المدرسة المرحوم حفني بك ناصف المشرف على اللغة العربية، وكان لمدير التعليم كتاب مطالعة تقرؤه تلميذات في سني المدرسة الابتدائية، وقرأت البنت أمام حفني حديثا للساعة عن نفسها، فقالت: ها أنا ذا، فطلب المرحوم حفني بك من التلميذة أن تعيد الجملة وتصححها، فقرأتها مرة وثانية وثالثة، وسألني حفني بك عن هذا الخطأ المتكرر، فقلت: إن التلميذة تقرأ صحيحا؛ لأن هذا هو المكتوب في كتاب المطالعة، وإن كان الواجب أن تقول «ها أنا ذي».
قال: إذن الكتاب مخطئ. قلت: نعم، قال: ولم لا تصححينه؟ وكان مدير التعليم موجودا معه، فقلت في ابتسامة: لو فعلت ذلك لطردت من البلد؛ لأن المؤلف هو سعادة المدير.
انتهت تلك الزيارة، وتركت في نفس مدير التعليم أثرا لا يمحى، فزار المدرسة في اليوم التالي، وحضر درس المطالعة في هذا الفصل، وقرأت تلميذة في نفس الكتاب: «لقد رمد الثعبان» قرأتها بكسر الميم، فاحتد المدير على المعلم، واشتد في إهانته وقال إنه يعلم التلميذات الخطأ، وإن رمد معناها عمي، وأما رمد فمعناها هلك، وهي المقصودة.
استأت لإهانة المعلم أمام تلميذاته، وأردت أن أهدئ من حدة المدير فملت إليه في همس وطلبت منه أن نترك الفصل معا ليسترد هذا المسكين هيبته، أو على الأقل يستطيع أن يقف على قدميه؛ لأنه كان يرتعد خوفا أمام تهديدات المدير، ولكنه رفض في صوت عال، وقال إنه لا يسمح بمثل هذا الخطأ، فملت عليه ثانية، وقلت له بنفس صوته: لا بأس يا سيدي فإن الإنسان غير معصوم من الخطأ، وقد أخطأت أنت بالأمس تحريريا، فاسمح له أن يخطئ اليوم شفويا، واحدة بواحدة، وهنا اضطر أن يخجل، وأن يترك الفصل معي، وهكذا استحكمت حلقة الخلاف بيني وبينه.
سعيد ذو الفقار باشا
زرت مدير التعليم بعد هذا، وكان - كما قدمت - شديدا سيئ المعاملة لمرءوسيه، ولكنه قابلني ببشاشة وترحاب لما رآه من عطف مدير المديرية علي، وما كدت أجلس في مكتبه حتى استأذن عليه أحد النظار؛ أي نظار المدارس التابعة للمجلس، فدخل الرجل في شيء من الخجل والتهيب، فلم يقم له المدير، ولم يمد له يده، فاضطر أن يحييه برفع اليد؛ أي تحية عسكرية، وقال مدير التعليم بشدة: ما الذي جاء بك؟ وماذا تريد؟ قال: جئت لتشملني بعطفك. فقال: ماذا تعني بهذا الكلام؟ إني أود أن أخلق منكم رجالا لا يميلون إلى الملق، فاذهب من حيث أتيت ما دام ليس لديك مطلب تقدمه. فحيا الرجل تحية عسكرية أخرى، وأراد أن ينصرف وهو يترك المكان بظهره حتى لا يدير ظهره لسعادة المدير، وهنا احتد المدير، وقال: أريد أن أخلق منكم رجالا يحترمون أنفسهم، ولا يفعلون ما تفعل. وخرج الرجل وهو يدعو له بطول العمر.
وساءني هذا؛ لأني زميلة ذلك الذي أهين، ولعل المدير ما فعل ذلك إلا ليظهر لي مقدار بطشه وسلطانه على النظار زملائي؛ ولهذا تألمت، وقلت له وأنا أضحك ضحكة عصبية ملؤها الغيظ والغضب: أرجوك يا سيدي إذا أردت أن تقابل أحد نظارك هؤلاء أن تعلمني قبل ذلك لأتمكن قبل مقابلتك لهم لا من ترك غرفتك فحسب، بل من ترك المنصورة بأكملها، حتى لا أشعر بما تم في تلك المقابلة العنيفة التي لا تخلق من مرءوسيك رجالا كما تقول، بل تخلق منهم عبيدا أرقاء لا يصلحون في نظري للتعليم والتهذيب؛ لأنهم في نظري لا كرامة لهم ولا إرادة، وأول ما يطلب من المعلم أو الناظر هو قوة الإرادة والمحافظة على الكرامة، وهؤلاء التعساء الذين قضى عليهم سوء الحظ أن ترأسهم ولو عاما واحدا لا يصلحون بعد ذلك لوظائف التدريس أو إدارة المدارس. واضطر مدير التعليم أن يضحك ضحكة صفراء كما يقولون، وأن يقول: إني أعامل كل مرءوس بما يتناسب وأخلاقه.
وكان لحسن حظي أن عطف علي حضرة صاحب المعالي سعيد باشا ذو الفقار، وهو مدير المديرية في ذلك الوقت، وأراد أن يساعدني بكل ما يستطيع، فلم يكن يستطيع أحد أن يعاديني معاداة صريحة حتى ولا مدير التعليم خوفا من معاليه، وأوغر مدير التعليم صدور أعضاء المجلس، وطلب منهم أن يلحوا في طلب إلغاء المدرسة تنفيذا لإرادة المدير المقبل، واسترسلوا في طلبهم هذا، وجاهروا بالعداوة نحو المدرسة، وأقامت المدرسة حفلتها السنوية، وأردت أن أنتقم من هؤلاء الأعضاء في تلك الحفلة، فألفت مفاخرة بين طفلتين إحداهما ابنة رجل متعلم، ولكنه متوسط الحال، والأخرى ابنة رجل جاهل من أعيان البلاد، فأخذت كل منهما تفخر بوالدها، وتغلبت ابنة المتعلم على ابنة الجاهل، وكان مما قالته لزميلتها: إن فخر والدي في رقي معارفه وكمال مداركه، أما أنت فلم يرتق والدك إلا بالطين - أي الفدادين - أما هو مجردا من طينه فلا قيمة له ولا احترام.
Halaman tidak diketahui