استقل عربته، وتبعته في عربة أجرة إلى المديرية، وهناك في ساحة المديرية ما كدنا نصل حتى قابله العساكر بتلك التحية العسكرية المعروفة، وقد صرخ فيهم رئيسهم: «كركون سلاح!» وتبع تلك الصرخة ضجة عظيمة من بنادق العسكر أفزعتني، ولم أكن رأيتها قبل ذلك، وتبعت المدير إلى غرفته، وأنا أكاد أرتعد خوفا، فطلب أحد الكتبة، وأمره بإعداد العقد فنظرت إليه، وقلت له: مع من؟ قال: معك. قلت: أتعاقد أنا معك؟ أعوذ بالله ! لقد اعتدت أن لا أخشى رئيسا، وقد شتمت رئيستي قبل أن أحضر معك، وإذا أنا ناقشتك فماذا يكون حالي، وأنت هنا ملك يخشاك كل الناس، وتحت أمرك عسكر أزعجتني تحيتهم لك؟ فأنا لا أقبل العمل معك، ولن أستطيعه. قال: ولكني سأعاملك بالحسنى. قلت: إنك إن قلت لي كلمة في المستقبل فسأقول لك عشرا. قال: ولكن هل تستطيعين إدارة المدرسة بنجاح؟ قلت: نعم. قال: لا بأس، فلن أقول لك تلك الكلمة.
وعلى ذلك اتفقنا، وأمضيت العقد، وعدت إلى القاهرة فقدمت استقالتي من وزارة المعارف، وكان المغفور له سعد باشا زغلول وزير المعارف في ذلك الوقت قد سافر إلى أوروبا لتمضية الصيف، وحل محله صاحب الدولة رئيس الوزراء محمد باشا سعيد الذي كنت أدرس لبناته في ذلك الوقت، فلما عرضت عليه الاستقالة رفض قبولها، وقابلني في منزله، فقال لي: لا بد من أن تسحبي استقالتك. قلت: لن أفعل! قال: هذا أمري. قلت: لقد أعطيت كلمة شرف. قال: سآمر المدير بتمزيق العقد - لأنه كان في ذلك الوقت وزيرا للداخلية - قلت: ولكني أعطيت كلمة شرف، ولا قيمة للعقد بجانبها. قال: فهل تقدرين كلمتك أكثر من تقديرك لكلمتي؟ قلت: كلمتي تنفذ علي؛ لأني قلتها. قال: ولكني سأكون ضدك إن فعلت. قلت: لا بأس فلن نتقابل بعد اليوم. قال: سبحان الله إنك لعنيدة، وهلا تزالين على تصميمك بعد أن علمت أن هذا يغضبني؟ قلت: نعم؛ لأنه يرضيني. قال: إذن أحمد الله إذ لم تطل مدتك في تعليم بناتي لأنك عنيدة، وأخشى أن تسري تلك الخلة منك إليهن. قلت: إذن قد عملت ما يرضيك في تعاقدي بالفيوم. فألقى بسبعة جنيهات مرتب الشهر الآتي، وقال: هذا مرتبك، وشاوري نفسك لعلك تهتدين. قلت: لقد صممت. فخرج من باب وخرجت من الثاني.
وهكذا بدأت عملي في الفيوم مغضوبا علي من رئيس الوزراء، ووزير الداخلية الذي هو ولا شك رئيس المدير، وإن كان لا يؤبه به في المديرية بمقدار ما يؤبه بالمدير مرءوسه.
حنبليتي في البعد عن الرجال
رفض وزير الداخلية بالنيابة قبول الاستقالة، وتركته كما قدمت، وذهبت إلى رفعة محمد باشا محمود فوجدته متمسكا كل التمسك بتنفيذ العقد الذي كتبته معه، وهنا احترت في أمري ماذا أفعل؟ وقال لي محمد باشا إنه سيتوسط لدى الوزارة في قبول استقالتي، وطالت مدة انتظاري خطاب قبول الاستقالة من وزارة المعارف، وكنت لذلك في أشد الحرج والضيق؛ هذا يطالبني بتنفيذ العقد، والوزارة تصر على عدم قبول الاستقالة، وكنت أزور المرحومة باحثة في البادية، وكان حضرة الشيخ المحترم زوجها يقرأ ما أكتبه في «الجريدة»، ويقارنه بما تكتبه هي، وكان يفضل كتابتي، ولو على سبيل إحراج زوجته ومعاندتها، ويظهر أنها تضايقت من ذلك، وأرادت أن يقابلني هو بالذات، ولعلها قصدت بذلك أن تريه أني وإن كنت أساويها في الكتابة إلا أني لا أساويها في الجمال، فعرضت علي أن أقابل عبد الستار بك الباسل، ولكني لعلمي بشدة غيرة النساء على أزواجهن رفضت رفضا باتا أن أقابله؛ ولهذا كنت إذا ذهبت إليها احتطت أن لا يراني حتى ولا من ثقب الباب، فكنت أجلس دائما بجانب الباب المغلق في الحجرة حتى إذا نظر أحد منه فلا يراني.
وكان ذلك يضايقها، وربما كان يضايق أيضا عبد الستار بك، وذهبت إليها، وأنا في حيرتي هذه فسألتني عن كيفية خروجي من ذلك المأزق، قلت: لقد فكرت فلم أجد لي مخرجا من هذا إلا أن أتزوج، وهذا العذر الشرعي يمنع الطرفين من التمسك بي، ولكني كما تعلمين لا أحب الزواج؛ ولهذا عولت أن أتزوج بشخص أكون واثقة من أنه سيطلقني في ليلة العرس. قالت: وكيف يتم لك ذلك؟ قلت: نعم! لقد سمعت إحدى سمسارات الزواج تقول: إن رجلا طلب منها أن تبحث له عن زوجة لا يشترط فيها إلا الجمال فقط؛ فهو لا يشترط علما، ولا مالا، ولا يهمه إلا أن تكون زوجته ملكة الجمال في الدنيا. فإذا تم لي الأمر، ورضيت تلك السمسارة أن تخدع الزوج فإني لا أقابله إلا ليلة الزواج بالطبع، وهناك أرتدي ملابسي هذه التي ترينها أنت، ويدخل الرجل وهو ينتظر أن يرى ملكة الجمال في العالم، وإذا به يراني كما ترينني الآن، فهل تظنين أنه يتمالك نفسه من أن يضربني أو ينتحر، وهنا نقضي ليلة العرس في القسم، ويكون قد تم لي ما أردت فأتخلص من الوظيفة والزواج معا.
كنت أقول ذلك، وكان عبد الستار بك الباسل يسمعه من الغرفة المجاورة، ومن هنا ثبتت في رأسه فكرة أني بشعة الخلقة إلى حد يجعل ذلك الزوج ينتحر في ليلة العرس، فلما ذهبت إلى الفيوم، وكان عضوا في مجلس المديرية كان أول ما فعله هو زيارة المدرسة ليراني، وعاد إلى زوجته فقال: إنها ليست من الدمامة بالمقدار الذي كنت أتصوره. وبديهيا أن هذا لا يدل على المدح، ولكنه يدل على أنه كان قد أخذ عن صورتي فكرة غير واقعية فظنني غولا، أو ما شاكل ذلك من الحيوانات، فلما رآني لا أزال من الجنس البشري الذي لا غرابة في خلقته قال ذلك لزوجته، ولكن الزوجة وخصوصا الزوجة الفاضلة المستقيمة المتعلمة كالمرحومة ملك شديدة الغيرة على زوجها الذي لا تعرف من الرجال غيره؛ ولهذا حركتها تلك الكلمة، وصممت عندما ذهبت إلى الفيوم إلا أن تضيفني في قصر الباسل، واضطررت إلى إجابة طلبها لما بيننا من صداقة، ولكني ذهبت محتاطة، فأخذت والدتي معي حتى لا أترك لعبد الستار بك سبيلا إلى مجالستنا في منزله، وجاء طبعا ليحييني، ورأى والدتي وقد سترت وجهها، ولكنه جلس، وهي عادة العرب في إكرام الضيوف والمبالغة في ذلك الإكرام، ولكني تضايقت؛ لأني عندما دخلت المنزل قالت لي المرحومة إنك أجمل من ذي قبل، وهي تريد أن تقول: أقل دمامة من ذي قبل. قلت: وما الذي تغير في؟ أترين أني غيرت شيئا من خلقتي الطبيعية؟ قالت: كلا! ولكنك تبدين في نظري مقبولة. تبين لي من تلك الكلمة أنها توجس مني خيفة؛ ولهذا أردت أن لا يمكث زوجها معنا فتوضأت وصليت، وإن كانت تلك ليست بعادتي في كل الأيام، فلما دخل وأراد أن يسلم علي باليد اعتذرت حتى لا ينقض وضوئي فجلس، وقد شعر بشيء من الجفاء، وهذا كل ما أردته، وأخذت المرحومة، وكانت على ما يظهر لي مغرمة به، أخذت تحادثه، وتقول له: ألست في حبي على رأي امرئ القيس حيث يقول:
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
قال: فلنسأل نبوية عن رأيها في معنى ذلك البيت. فقلت محتدة: أنا لا أسأل في معنى الأبيات الغرامية وفي شكلي ولبسي وكلامي ما يمنع أي رجل من أن يسألني ذلك السؤال، فإن هو تجاهل كل ذلك فليس له إلا الضرب. ودهش الباسل وقال: لا شك أنكما من النساء. وخرج، وكان هذا كل ما أريد، وقد ساءني أن يظهر على المرحومة شيء من الغيرة من فتاة لا تعرف الرجال، فأقسمت أن لا أبيت في ذلك المنزل إلا إذا دخلت أنا وهي في غرفة وأغلقناها من الداخل، وأخذت تستعطف فأرفض، وأقول إن كلامك شككني في طهارة هذا البيت.
Halaman tidak diketahui