كانت الوزارة في ذلك الوقت تريد إحلال الآنسات محل الرجال في وظائف التعليم بمدارس البنات، ورفض المرحوم الشيخ حمزة فتح الله أن يسمح لفتاة بتدريس اللغة العربية التي كان هو زعيمها حتى إذا تخرجن سمح لي بذلك.
قام رجال دار العلوم وقعدوا لذلك النبأ الغريب في نظرهم، وساءهم جدا أن تدرس فتاة اللغة العربية للسنة الرابعة، وهم أصحاب امتياز تلك اللغة، وكانوا في ذلك الوقت لا يسمحون لأحد أن يسمح لنفسه بما احتكروه لأنفسهم من تدريس اللغة العربية مهما كانت الظروف، ومن هنا أخذ اسم نبوية موسى يظهر لا بالذكرى الحميدة - والحمد لله - ولكن بالذكرى السيئة، فسموني هادمة بيوت الرجال، وقاطعة أرزاقهم، وغير ذلك من الألقاب التي أسبغوها علي، وكانوا يتحينون الفرص للإيقاع بي، فكنت إذا درست أخذوا يسترقون السمع، ويدونون ما أقوله وما أعطيه لتلميذاتي فينتقدونه، ويذهبون إلى الناظرة فيبالغون في ذلك الانتقاد، ولكنها كانت تعرض عنهم في السنة الأولى من مباشرتي العمل.
كنت في ذلك الوقت أكتب في صحيفة يومية اسمها «مصر الفتاة» تحت اسم مستعار اتخذته لنفسي، وهو «ضمير حر في جسم رقيق»، وقد أردت بكلمة رقيق المعنيين؛ رقيق أي نحيف دقيق، وقد كان هذا من صفاتي، ورقيق أي مستعبد، وقد كان هذا - ولا شك - من صفة كل مصري يباشر التعليم.
ذهب معلمو اللغة العربية إلى الناظرة، وأحضروا لها عددا وافرا من نسخ «مصر الفتاة»، وأطلعوها على المقالات ، وادعوا أني إنما أنتقد فيها السياسة الإنجليزية، وبذا استطاعوا أن يصلوا إلى قلبها بعد أن كان مغلقا في وجوههم.
أصغت الناظرة إليهم أخيرا، فقلبت لي ظهر المجن، فأرادت في أول الأمر أن تنتقم مني بتوصيل انتقاداتهم إلى الوزارة، فدعتني إلى مكتبها، وكان إلى جانبها أحد معلمي اللغة العربية بالمدرسة؛ أي مدرسة عباس الأميرية، وقالت لي: إن الأستاذ غير راض عن طريقة تدريسك، فأرجو أن تستمعي إلى نصائحه، وأن تعملي بها. قالت لي ذلك باللغة الإنجليزية، وكأنه كان بينها وبين الأستاذ اتفاق من قبل، فاندفع هو يسمعني نصائحه الغالية، فقلت لها بالإنجليزية أيضا غير عابئة بما كان يقوله الأستاذ: إني لا أعمل برأي أحد هنا إلا برأيك أنت ناظرة المدرسة، وأنت لا تستطيعين أن تعطيني آراءك في تدريس اللغة العربية؛ لأنك - والحمد لله - تلميذتي في تلك اللغة، فأنا أدرسها لك، وقد كانت الحكومة انتدبتني لتدريس اللغة العربية للمعلمات الإنجليزيات؛ لأني أستطيع تفهيمهن اللغة العربية أكثر من الشيوخ؛ إذ أشرح لهن ما يصعب عليهن من العبارات باللغة الإنجليزية، أما الشيوخ فكانوا لجهلهم اللغة الإنجليزية يستعملون الأيدي والأرجل في تفسير العبارات الغامضة، وهم - والحمد لله - لا يحسنون الإشارة.
قلت لها ذلك والأستاذ لا يزال مندفعا في إرشاداته دون أن أستمع إليه، وأخيرا عز علي أن أتركه يكلم نفسه فالتفت إليه، وقلت له: لا تتعب نفسك لأنني أنا غير راضية عن طرق تعليمك للغة العربية بمقدار عدم رضائك عن طرقي، وقد أكون على حق، وقد تكون أنت على باطل، ولا بد أن يكون بيني وبينك حكم يفهم تلك اللغة، أما هذه الناظرة فلا يمكن أن تكون ذلك الحكم، وهي تجهلها تماما.
قلت ذلك، ثم ترجمته للناظرة فساءها ذلك، وقالت: إذن ماذا أصنع في إرشادك؟ قلت: لهؤلاء المعلمين أن يكتبوا تقريرا بالإرشادات التي يريدونها، وسأرد عليهم أنا، ويرفع تقريرهم وتقريري إلى الوزارة، فتتخذ الوزارة ما ترى بشأن التقريرين.
طلبت الناظرة من المعلمين ذلك فرفضوا كتابة التقرير؛ لأنهم في ذلك الوقت لا يحسنون فن الإنشاء، وكل معلوماتهم في اللغة العربية كانت تنحصر في نبوغهم في الإبدال والإعلال؛ فهم يعرفون أن سار أصلها «سير»، ولكنهم لا يعرفون الفرق بين سار، وصار، وثار؛ ولهذا لم يستطع أحد منهم أن يتقدم بكتابة ذلك التقرير، وأرادت الناظرة إحراجي، والحق مع القوة لا مع المعول، فطلبت مني أن أكتب أنا التقرير، فقلت: يا سيدتي إني لم أنتقد طرق هؤلاء الرجال، ولا يهمني ذلك الانتقاد، فكيف أكتب تقريرا في حالة لم أنتقدها، ولم أطلب تغييرها، وهي طريقة تدريسهم، وإن كانت في نظري عقيمة. قالت: دعك من تلك الفلسفة، وأمامك أمران لا ثالث لهما؛ فإما أن تكتبي التقرير، وإما أن تتبعي إرشادات المعلمين.
اضطررت أن أكتب التقرير، وأمري لله، وكان تقريرا موفقا؛ فقد شرحت فيه تلك الطريقة التي كان يستعملها أساتذة اللغة العربية، فلا يهتمون بالإنشاء ولا بفهم العبارات، بل يهتمون بأمور لا قيمة لها من أبواب الصرف التي لم أشعر إلى الآن أن لها فائدة فيما كتبته وما سأكتبه؛ أي إنها لا تفيد التلميذ أية فائدة في فن الإنشاء، بل هي علل خلو من كل شيء حتى من المنطق الصحيح؛ فقد كان التلميذ يجهل معاني الكلمات فلا يعرف معانيها، ولكن الأستاذ يعلمه أصولها؛ أي أجدادها القدماء؛ فيقول له إن كاد أصلها كيد، وهو نفسه لا يفهم الفرق بين كاد وقاد، ولا كيف تستعمل الكلمتان، وهو يعرف أصلهما قبل أن يعرفهما.
هذا فضلا عن أن المنطق الذي يذكر في تلك العلل منطق سخيف لا يستقيم له معنى؛ فيشرح الأستاذ أن «قاض» استثقلت فيها الضمة على الياء فحذفت الضمة، والتقى ساكنان التنوين والياء فحذفت الياء للتخلص من التقاء الساكنين، على أن «نبي» لم تستثقل فيها الضمة على الياء وبقيت كما هي، وفي هذا الكلام خطأ منطقي؛ إذ يفهم منه أن كل ياء تستثقل عليها الضمة مع أن الضمة هنا لم تستثقل إلا لانتقال النطق من كسر إلى ضم، وقد لا يكون ذلك السبب؛ فكثيرا ما تجدنا قد انتقلنا في نطقنا من كسر إلى ضم ، ولا ضير في ذلك كيوجد، وغير ذلك.
Halaman tidak diketahui